اشتد طلب المسلمين للتجديد الديني في العالمين العربي والإسلامي في العقود الأخيرة، بعدما تفشت المفارقات الدينية في مجالات حياتهم المختلفة (السياسية والثقافية والاجتماعية...)، وظهر جليا عجز أنساق التدين التقليدي عن مسايرة الحياة العصرية، فانبرت ثلة من علماء الإسلام إلى استئناف القول -المتوقف منذ أمد بعيد- في شروط التجديد ومداه وأولوياته، وبرزت في الساحة الإسلامية عدة تيارات فكرية وحركات إسلامية اتخذت من التجديد شعارا لها، لكن اليوم، وبعد مرور قرابة قرن من الزمان على انطلاق أولى دعوات التجديد، والمغامرة ببدء بعض المحاولات، من حقنا أن نسائل هذه الجهود، ونتأمل آفاقها المستقبلية، بعدما اختلط القول في التجديد، وجنح بعض أدعيائه جنوحا متطرفا نحو التقليد. ومن المعضلات الأولى التي تواجه مقاربة التجديد الديني معضلة المفهوم؛ فالتجديد الديني في الفكر الإسلامي المعاصر مفهوم غير منضبط، لم تستقر دلالته على معاني وحروف معينة، فأحيانا يقصر على الجهود العلمية والدعوية التي تتوخى مراجعة عقائد المسلمين وضبطها قياسا لما كان عليه السلف الصالح، وأحيانا يصور على أنه تجديد لوسائل النظر وآليات الفتوى والحكم التي من شأنها تحرير الإرادة والعمل في الحاضر الإسلامي، وفي أحيان أخرى يكون عنوانا لمراجعة جذرية للعقيدة الدينية للمسلمين في أبعادها المختلفة السياسية والاجتماعية...، وتبعا لهذا الاختلاف على مستوى المفهوم ونتيجة له يعج الواقع الإسلامي بأنواع المبادرات التجديدية، وأشكال الارتجال في عالم الدين والتدين. لكن من الناحية العملية ما هو المدلول الاجتماعي والسياسي للتجديد الديني في ديار المسلمين اليوم؟ وما هي صوره الواقعية؟ ففي المجال الاجتماعي يتخذ التجديد الديني أبعادا مختلفة وأشكالا متميزة؛ فمن الصور المألوفة التي درج بعض الناس على تقديمها كصور معبرة عن التجديد، اعتناق جماعة من الناس مذهبية معينة في علاقتهم بالمحيط، قوامها الاحترام الحرفي لمعاني وأحكام الشريعة الأخلاقية والقانونية للإسلام، ويتجلى ذلك على مستوى اللباس، والعادات الاجتماعية، وآداب الحديث والعقيدة...، وينحصر معنى التجديد في هذه الصورة في الهجرة الشعورية والعملية التي يقوم بها هؤلاء الناس، هروبا من نمط الحياة السائد في البلاد الإسلامية، والذي لا يهتم كثيرا بمعاني التدين، كما يقتصر دور المجدد في هذا المشهد على إحياء معاني الدين الدارسة، والتذكير بها فقط. أما على الصعيد السياسي فيتجسد التجديد الديني في الضغط على الدولة الحديثة الإسلامية بأساليب مدنية وسياسية، وقد يصل الأمر درجة إكراهها على تبني التشريع الإسلامي والتزام حدوده، وينحصر دور المجدد في هذه الحالة على استعادة النموذج السياسي التاريخي والتبشير بفضائله. فمفهوم التجديد الديني كظاهرة اجتماعية وسياسية هو مجرد توبة فردية أو جماعية، يتصالح من خلالها التائبون مع النص الديني وتاريخه كما انتهى إليهم رواية. إن هذا النوع من التجديد الذي يسود مختلف الأقاليم الإسلامية قد يكون نافعا لأصحابه في علاقتهم بالله، لكنه لا يفيد كثيرا في حل مشكلة الإسلام ومن يمثله في الوقت الحاضر، ذلك أنه اقتصر على التكاليف الفردية، والكسب الفردي، وأهمل التكاليف الجماعية التي تعني الأمة في كليتها، وكسبها الجماعي، فقد ينجبر حال الفرد ويصلح بالالتزام الشخصي، لكن ذلك لا يعني بالضرورة صلاح حال الأمة وتقدمها، وبالتالي رغم تحسن أوضاع التدين في بعض المناطق من العالم الإسلامي فإنها بقيت على حالها من التخلف إن لم تكن قد زادت عليه. فهذه الحقيقة تلفت انتباهنا إلى ضرب آخر من ضروب التجديد لا زال ضعيفا أو مشبوها، يعتني بالأداء الجماعي للأمة أكثر من عنايته بالأداء الفردي. اهتم الفكر الديني الإسلامي بالنشاط الفردي للإنسان المسلم واجتهد في هدايته وإخضاعه لله تعالى، ولهذا وجدنا مصنفات الفقه وكتب الفتاوى والنوازل غارقة في الجزئيات، وتتعلق بالأفراد من حيث هم أفراد، يحكمها منطق الخلاص الفردي. وفي المقابل أهمل هذا الفكر النشاط الكلي الذي تؤديه الجماعة سواء كان اقتصاديا أو سياسيا...، ولم تنظر في تطويره وتثميره، تحقيقا لقوله تعالى: ؟وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا؟ النور، ,55 ولا يخفى أن العمل الصالح المشار إليه في هذه الآية الكريمة لا يقف عند المعنى الضيق للصلاح الشرعي، ولكنه يعني كذلك العمل الموافق للسنن المطردة في الكون والطبيعة والتاريخ، الذي يحقق أفضل النتائج والثمار، والشاهد على هذا كثير في التراث الإسلامي لكن يتجلى أكثر في بعض أبواب الفقه كالبيوع والغراسة...، التي لم يهتم عندها الفقيه بالمردودية والإنتاجية، وبنيات الإنتاج، ولم يعتبرها من بين علل الحكم الشرعي، وهذا من العيوب الظاهرة للفقه الإسلامي الجزئي، التي يؤدي تفشيها إلى تدهور الإنتاج والأمة ثم الحضارة، فأن تكون الأمة عزيزة مهابة الجانب من المقاصد الشرعية المعتبرة، التي يجب النظر إليها في الأحكام. إن التجديد الديني الذي نحن في حاجة ماسة إليه هو التجديد الذي يدمج من الناحية الفلسفية بين غايتين: الخلاص الفردي وتحقيق منعة الأمة، ويتوسل من الناحية المنهجية بأدوات ومفاهيم تضع في النهاية الفرد في خدمة الأمة والأمة في خدمة الفرد، وتجديد من هذا القبيل ينصرف بالدرجة الأولى إلى نظريات التدين التي تلخص جُملها المذاهب العقدية، والمناهج الفقهية، والطرق الصوفية، الراسخة الأقدام في البيئة الإسلامية. فلا يمكن تحقيق انتقال حقيقي على مستوى الأمة بدون هذا النوع من التجديد. ومعظم جهود التجديد في العالمين العربي والإسلامي في العقود الأخيرة لم تبلغ هذا النضج والتكامل على صعيد الرؤية والمنهاج، ومجمل الاقتراحات النظرية المعاصرة في هذا السياق تتأرجح بين فردانية مفرطة، تغلب أسباب الخلاص الفردي، وبين نزعة تأميمية تطلب نهضة الأمة بأي وجه كان ولا تعتبر تدين الفرد. وقد وجد من بين المتقدمين من له اجتهادات نظرية دقيقة تستحضر غاية الفرد والأمة معا، ولكنها، ولحد الآن، لم تنل حظها من التطبيق والتنزيل، وفي طليعة هؤلاء الإمام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي، الذي تعتبر نظريته في المقاصد نموذجا متكاملا من شأنه تجديد تدين الأمة. فالفشل في مشروع التجديد الديني أو تأخيره سيؤدي إلى تقدم مشروع العلمنة في العالم الإسلامي، ورسوخ مذهب التقليد للآخر ومطلق السلف.