يكتسي هذا الحوار أهمية خاصة لأنه يحكي بالتفصيل عن ملابسات التحول الذي عاشته مدينة القنيطرة من تنظيم مغرق في السرية والخصوصية إلى الاندماج في الجماعة الإسلامية، كما يحكي أيضا تجربة العمل الطلابي في المعهد الزراعي الذي كان له دور كبير في إنتاج نخبة طلابية إسلامية كانت في مستوى مواجهة ما تنتجه المدرسة المحمدية للمهندسين من نخبة يسارية متطرفة، وينتهي الحوار بذكر التحولات الكبرى التي شهدتها الجماعة الإسلامية ويقف بالتفصيل عن الدور التنظيمي الذي لعبه محمد الحمدواي حين استقدم مفهوم التخطيط ونزل نظرية تمام في منهج عمل الإخوة، ولا ينسى في آخر الحوار أن يتناول قضية الوحدة بين حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، والخطوات المرحلية التي تمت في هذا الإطار حتى اكتملت الوحدة بالشكل الذي استقرت عليه. هل يمكن أن يحدثنا محمد الحمداوي عن بداياته الأولى؟ ولدت بالقنيطرة سنة 1957 ودرست التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي بها، والتحقت بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط، واشتغلت أول ما اشتغلت في مركز الأبحاث للمياه والغابات وانتقلت للعمل بمديرية الفلاحة بالقنيطرة ثم شفشاون (21سنة) فالعرائش ثم الرباط مرة أخرى حيث اشتغلت بالتدريس بمعهد المياه والغابات قبل أن أستفيد من المغادرة الطوعية، كنت أشتغل في تخصص يقل عدد المهتمين به في المغرب، فأتيحت لي ولبعض الإخوة فرصة لتعميق خبرتنا وتجربتنا من خلال العديد من مشاريع التعاون مع الدول الأجنبية وخاصة ألمانيا وفرنسا، فأصبح المغرب بفضل الله تعالى من الدول الرائدة في مجال وقاية الغابات. وكيف كان انبثق وعيكم الديني والحركي؟ نشأت في أسرة متدينة تحتفظ بأصول العائلة المغربية الكبيرة، حيث كان الجد والجدة يسكنان معنا في نفس البيت، وكان بيتنا مجاورا للمسجد في حي آفكا بالقنيطرة وكان الجد رحمه الله من شدة حرصه على صلاة الفجر في المسجد هو الذي يوقد المؤذن أولا ثم الإمام ثانية ولذلك فقد اكتسبت بهذين الاعتبارين:(مهمة الجد، وجغرافية السكن) ثقافة الارتباط بالمسجد، إذ كنت ألتزم الصلاة في المسجد منذ الصغر، وقد فرض علي موقعي داخل الأسرة بصفتي الابن الأكبر، أن أشعر بالمسؤولية قبل وقتها كعادة كل الأبناء في الأسر المغربية المحافظة والذين يدفعهم هذا الموقع إلى الرشد مبكرا، وهكذا كان مطلوبا من السي محمد أن يكتمل عقله قبل الوقت وألا تكون له العثرات التي تكون لمن هم دونه في هذا الموقع. انضاف هذا الاعتبار للاعتبارين السابقين، فكان الاتجاه يدفعني بقوة نحو الارتباط بالتدين والتخلق بصفات المسؤولية والرشد منذ سن مبكر. وكيف انتقل التدين عند الأستاذ الحمداوي إلى بعده الحركي؟ في أول سنة من تعليمي الثانوي والتي صادفت موسم 1973/1974, أتيحت لي فرصة اللقاء بشاب متدين اسمه محمد فتحي غير مرتبط بأية حركة إسلامية، لكنه كان يتمتع بكفاءة جيدة ورصيد طيب من الثقافة الإسلامية ومستوى رفيع من الالتزام التربوي. وفي أحد اللقاءات معه، قام بشرح سورة المعوذتين وآية الكرسي، فشعرت كأنني أقرأ القرآن لأول مرة، وعشت في ظلال هذه الآيات من خلال تفسيره، أتدبر المعاني التي شرحها، وكان لهذا اللقاء الدور الكبير في إحداث نقلة نوعية في شخصيتي، إذ بدأت أفكر في الالتزام بالتدين بشكل أكثر فاعلية، فكان أول شيء قمت به، هو استثمار حضور الشباب في المسجد لتكوين جلسات تربوية عفوية غير منتظمة في أي إطار تنظيمي، فكنا نحضر الصلوات الخمس، فإذا صلينا العصر أو المغرب، نخرج جماعة من المسجد مباشرة إلى بيتي، وكنا وقتها حوالي خمسة عشر إلى عشرين فردا. وما هي الأنشطة التربوية التي كنتم تقومون بها؟ كنا نجلس إلى بعضنا البعض، ونتدارس أي موضوع ورد علينا من غير تخطيط ولا ترتيب، إلى درجة أننا كنا نتدارس في هذه الجلسة الملحق الأسبوعي الذي كانت تصدره جريدة العلم يوم الجمعة تحت اسم الفكر الإسلامي، فنأتي بصفحات هذا الملحق ونقرأ فقراته ونتدارسها. هل تذكر بعض الأفراد الذين كنت تجالسهم في هذه المرحلة؟ كان من بينهم الأخ محمد فتحي وبعض أبناء الحي وكان منهم من كان يدخن، ولم نكن نشترط لحضور هذه الجلسة أي معيار سوى الحضور في المسجد والالتزام بالصلاة، فكل من كان يحضر من الشباب للمسجد في صلاة العصر يستدعى لحضور الجلسة دون أي انتقاء. وكيف تحول هذا العمل من طبيعته العفوية إلى الصيغة الحركية المنظمة؟ بدأ أحد الإخوة، واسمه عبد الكريم وكان يدرس بالرباط، يحضر معنا هذه الجلسات، وبدأ يقترح علينا بعض الكتب، منها كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب، ومن خلاله تعرفنا على توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، ووقفنا على خطورة الشرك والبدع على التدين، وقد صادف ذلك أن أحد شباب الجلسة بدأ يتردد على إحدى الطرق الصوفية، فصار يحدثنا عن الطريقة البوتشيشية، وعن بركة الشيخ ويستقطبنا لهذه الطريقة، وكان يذكر للشباب أنه استطاع أن يقلع عن التدخين بفضل بركة الشيخ. وقد دخلنا في دينامية جديدة من النقاش بعد أن اقترح علينا الانخراط في الزاوية البوتشيشية، إلى درجة أني في أحد الليالي رأيت في المنام شخصا في صورة شيخ، ولما كان الصباح أتى لي الشاب الذي كان يدعونا إلى البوتشيشية بصورة الشيخ الحقيقية، فإذا بالصورة التي رأيتها في المنام تكاد تكون مطابقة لصورة الشيخ الحقيقية. ألم يدعك ذلك إلى الانخراط في الزاوية والالتزام مع الشيخ؟ كان لدروس التوحيد التي تلقيناها من كتاب محمد بن عبد الوهاب فضل كبير في تجنيبنا هذا الاختيار، إذ تعرفنا من خلاله على مداخل الشرك وخطورة البدع في مثل هذه الأمور، فكان للثقافة الشرعية التي تلقيناها من هذا الكتاب دور المحصن الذي يحمينا من المضي في تلك الطريق. وقد تطورت هذه الجلسة، وتوطدت علاقتنا بالأخ عبد الكريم الذي كثف حضوره في هذه الجلسة. ولما كان الموسم الدراسي 1976 1977, الذي صادف آخر سنة لي في التعليم الثانوي إذ أنني حصلت على الباكلوريا سنة 1977, انفرد بي الأخ عبد الكريم، وقال لي بأنه يريد أن يتحدث معي بكلام خاص لا ينبغي أن يسمعه الآخرون، فاستقبلته بالبيت، فلما أفضى إلي، عرض علي مشكلات الشبيبة الإسلامية التنظيمية قبل أن أعرف هذا التنظيم، فحدثني عن الإشكالات الواقعة بين عبد الكريم مطيع وبين السداسيين، ووضعني في السياق وأخبرني أن مطيعا يتهم السداسيين بجملة من الاتهامات، فكان أول كلام سمعته عن الشبيبة الإسلامية هو كلام سلبي عن الفتنة وضد قيادة الشبيبة الإسلامية. إذا سمحت أستاذ محمد الحمدواي ربما يكون ذلك في نهاية سنة 1977 لأن الفتنة لم يبدأ الحديث عنها إلى في أواخر 1977؟ وارد ربما يكون ذلك في صيف 1977, أو في أكتوبر من نفس السنة أي بداية الموسم الدراسي الجديد في الجامعة، وما يؤكد ذلك أننا في السنة الأولى في المعهد الزراعي لم ألتق إخوة الشبيبة الإسلامية لأننا كنا نكتري بيوتا خارج المعهد. وكيف استمر العمل بعد التحاقك بالجامعة ؟ استمر الأخ عبد الكريم في التردد علينا في جلسة القنيطرة التي كنت أحرص على حضورها في نهاية الأسبوع، ولما انتصفت السنة الدراسية، قال لي الأخ عبد الكريم: سوف أحضر لكم من يقوم بشرح عمل الشبيبة الإسلامية ومن يجيبك عن كل ما يعرض لك من أسئلة بخصوص هذه الحركة وكسبها الدعوي والمؤاخذات التي تحملها عنها، وبالفعل التزم بما وعد به، وكان الرجل الذي زارنا إلى القنيطرة هو نور الدين دكير، فاستقبلناه في تلك الجلسة، وكان ذلك كله يتم في حي واحد في القنيطرةلاسيتي ولم أكن أدري هل كان في بقية الأحياء عمل إسلامي تابع للشبيبة الإسلامية ماذا كان برنامج اللقاء؟ وما الجديد الذي جاب به نور الدين دكير؟ ألقى درسا شرح فيه بعض فصول معالم في الطريق، ولما انتهينا انفرد بي نور الدين دكير، إذ كنت الوحيد الذي انتقل إلى الجامعة، والوحيد الذي فاتحني الأخ عبد الكريم في موضوع الشبيبة الإسلامية، ووضعني في صورة ما يجري داخل الشبيبة الإسلامية، ونفى الاتهامات التي كانت توجه من طرف مطيع للسداسيين، فكان هدف هذا اللقاء هو تهييئي للجامعة وتحصيني ضد كل الاتهامات التي كانت تستهدف السداسيين. لكنك كنت التحقت بالجامعة؟ جرت العادة أن طلبة السنة الأولى لمعهد الزراعي لا يلتحقون بالقسم الداخلي، ولذلك كنت بعيدا عن عمل الشبيبة في الوسط الجامعي ولم أربط أية علاقة بأحد في هذه السنة، وكانت علاقتي بالعمل الإسلامي تتم من خلال الأخ عبد الكريم في جلسة القنيطرة التي كان يتردد عليها. لكن، في السنة الثانية، التحقت بالقسم الداخلي، وكان أول شخص تعرفت عليه هو الأخ عبد الله بها، وكان في لجنة البيزوطاج، كان يظهر بهيئته الإسلامية، لكنه كان مندمجا تماما في المشهد الطلابي بين اليسار بمختلف مكوناته في تلك المرحلة من الجبهويين والاتحاديين والتقدميين، فكانت في البدء علاقتي به هي علاقة الطالب الجديد الذي تنقصه مجموعة من الاحتياجات، وكان الأخ عبد الله بها لا يتردد في تقديم المساعدة للطلبة الجدد. لكن هذه العلاقة لم تستمر بعد انتهاء فترة استقبال الطالب الجديد، بسبب الانشغال الذي يفرضه واقع الاستقرار. ولما مر شهران، بدأت أرتدد على المسجد، وأدركت أن هذا المسجد لم يكن متروكا للعمل العفوي، وأن وراءه عمل منظم، وبدأت أشعر أن بعض الأشخاص لهم دور كبير في الإشراف على المسجد مثل الأخ عبد الله بها ومحمد فهمي وكان طالبا معي في نفس الشعبة. وكيف تعامل محمد الحمداوي مع هذا الواقع الجديد وهو الذي يعرف مسبقا الشبيبة الإسلامية؟ فاتحت الأخ محمد فهمي، وذكرت له معرفتي بالشبيبة الإسلامية، وأني سمعت عنها مؤاخذات، وأعرف الخلاف بين عبد الكريم مطيع والسداسيين، ولكني رغم كذلك أريد أن انتمي لهذه الحركة. وكنت عرضت عليه الأمر بهذا الوضوح لأني كنت أشعر أنني لا يمكن أن أبقى خارج أي عمل منظم، خاصة وقد عرفت تذبذبا في تديني منذ الدخول إلى الجامعة، وكان همي هو تحصين تديني أولا ثم الانخراط في عمل جماعي منظم لأني كنت مقتنعا في ذلك الوقت أن العمل الفردي ليس له أية آفاق. وكيف كان موقف الأخ محمد فهمي من حديثك؟ يبدو أنه تحفظ من حديثي بحكم أنني كنت أحمل معي كل أنواع التحفظات على قيادات الشبيبة الإسلامية وكنت على علم بالخلاف بين عبد الكريم مطيع والسداسيين. ومتى بدا ارتباطك الرسمي بالشبيبة الإسلامية؟ لم أرتبط بها إلا في شهر أبريل أو شهر ماي من سنة 1979, إذ بدأت أحضر الجلسات التي كان يؤطرها محمد فهمي، وكان عبد الله بها يشرف على اللقاءات الموسعة، وخلفه الأخ عيسى مكيكي الذي أصبح مسؤولا عن المعهد، لكن الأستاذ عبد الله بها بحكم تعيينه في الرباط، فقد كان يحضر معنا لمجموعة من اللقاءات رفقة الأستاذ عبد الإله بن كيران. وكيف كان الأداء الطلابي للإخوة في المعهد الزراعي في هذه المرحلة؟ كنت شاهدا على مرحلة الانفتاح في الفكر الحركي لدى الإخوة، إذ شهدت التحول الذي عرفه العمل الطلابي الإسلامي، والانتقال من الجلسات المغلقة إلى التفاعل مع الوسط الجامعي والحضور للحلقات التي كانت تعقد في المعهد، والمشاركة في المظاهرات. ففي هذه المرحلة وقع اقتحام لهذه الأنشطة الطلابية التي كانت تعتبر في وقت من الأوقات لغوا ومضيعة للوقت. في البدء كانت الأغلبية ترى ألا فائدة من الدخول في نقاشات مع الاتحاديين والجبهويين، وكنا قلة قليلة هي التي تقتحم هذا الميدان، لكن سرعان ما تغيرت قناعات الإخوان، وصارت تلك التجربة الأولى التي خاضتها تلك القلة القليلة من الإخوة هي القاعدة التي سيؤسس عليها العمل الطلابي الإسلامي. وإذا كانت المدرسة المحمدية للمهندسين تنعث بمعقل الجبهويين فإن المعهد الزراعي أصبح من أهم قلاع العمل الإسلامي.وقد ساهم في تخريج كثير من الأطر التي تتحمل الآن المسؤولية في الحركة والحزب مثل الأخ عبد الله بها وموح الرجدالي ورضا بن خلدون وعيسى امكيكي وعبد القادر عمارة وغيرهم وكنت إلى جانب العمل الإسلامي الممثل في حضور الجلسات التربوية ، ممثلا للشعبة في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي كان يسيطر على هياكله الجبهويون، وبقيت أمثل الشعبة مدة ثلاث سنوات، إذ كان الطلبة يعيدون انتخابي كل سنة ويجددون الثقة في مسؤوليتي إلى أن تخرجت، وكان منافسي في هذه الانتخابات من طلبة التقدم والاشتراكية وكانت الحملة في تلك الفترة على أشدها على ممثلي الأحزاب داخل الجامعة وكانت التهمة التي توجه إليهم هو تسييس العمل النقابي وجعل الاتحاد الوطني نقابة ملحقة بالحزب توظف لخدمة المعارك الحزبية، ولذلك كان عموم الطلبة في الشعبة يفضلون شخصا غير متحزب حتى ولو كان ابنا للحركة الإسلامية، وقد أكسبتني ثلاث سنوات من المسؤولية في تمثيل الشعبة تجربة كبيرة في التواصل مع الطلبة والحوار مع الإدارة. وفي هذه السنة 1979 تحجبت أول طالبة في المعهد الزراعي. ففي مرحلة سيطرة اليسار وهيمنة الفكر اللاديني، وفي هذا الجو كان ظهور محتجبة أمرا في غايته صادما بالنسبة لليسار، وكانت هذه الأخت المتحجبة تنال الرتبة الأولى في الكثير من المواد، وكان تفوقها في الدراسة وفي بعض المواد التي يحصل فيها الطلبة بصعوبة على المعدل سببا في احترام الآخرين لها هل تتذكر اسم هذه الأخت؟ هي الأخت حليمة البردعي، وقد تزوجت بأحد الإخوة الطلبة من المعهد الزراعي، وكان زواجهما يعيد إلى الأذهان الصورة الإسلامية المشرقة التي كان عليها الزواج، والذي كان في غاية اليسر، فكان يذكرنا هذا الزواج بزواج الصحابة رضوان الله عليهم.