هناك أسباب عديدة تدعونا لإعادة التفكير في مستقبل العمل الطلابي الإسلامي وآفاقه. وعلى رأس هذه الأسباب ضعف المردودية الدعوية، وحالة الكمون النقابي التي يعيشها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب منذ قرابة ثلاثة عقود، ناهيك عن ضعف تجاوب الطلبة مع مبادرات وأنشطة الفصائل الإسلامية الذي بدأ يظهر في الآونة الأخيرة... وقبل هذا وذاك فإن العمل الطلابي الإسلامي مدعو اليوم منهجيا، بعد حوالي عشرين سنة من التجربة، لمراجعة منطلقات تفكيره وآليات عمله وبحث إجاباته وعلى جميع الأصعدة ثقافية، اجتماعية ودعوية... والجدير بالذكر أن "الوجود الإسلامي" في الساحة الجامعية ارتبط بمراجعة جذرية وشاملة، قام بها عدد من الفاعلين الإسلاميين، نظرت في الموقف الرافض للعمل النقابي من داخل أ. و. ط. م. وأعادت بناء نسق المشروعية الدينية للاختيار النقابي الإسلامي على أساس تحرير العمل النقابي مما علق به من آثار الفكر المادي. ولعل الوجود المنظم للطلبة الإسلاميين داخل الجامعة من أفضال هذه المراجعة، التي على الأقل مكنتهم من الزاد الفكري والمعرفي للوفاء ببعض مقتضيات التدافع الصعب في الساحة الجامعية. فهذه المراجعة بقدر إسهامها الكبير والفعال في حل عدد من "العقد" للعمل الإسلامي داخل الجامعة، فإنها في المقابل أسست عقدا جديدة ما زالت مستبدة وإلى الآن بجميع أشكال وضروب الممارسة الإسلامية في الفضاء الجامعي وترهن مصيره، ومن جملتها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الإطار الوحيد والأوحد للطلبة المغاربة في الداخل والخارج، التبشير بالمشروع الإسلامي وتحقيق قدر من الالتفاف الوجداني حوله، الموقف السياسي المعارض والجريء في تناول المقدسات الدينية والوطنية للبلاد... فآفاق العمل الطلابي الإسلامي في الثمانينيات تأثرت كثيرا بحيثيات التأسيس وملابسات التشكل، حيث أصبحت الرهانات والمبادرات الإسلامية داخل الجامعة لا ترتفع كثيرا عن مستوى إثبات الذات وتحقيق وجودها النقابي والثقافي... وعلى الرغم من تغير عدد من الشروط الأساسية داخل الحركة الطلابية المغربية مع مطلع التسعينيات سواء تعلق الأمر بميزان القوة بين الإسلاميين واليسار ورجحان هذا الأخير في أعتى المواقع الجامعية لصالح الإسلاميين، أو ما تعلق بدرجة القبول التي بدأ يحظى بها المشروع الإسلامي بين الطلبة، فإن الأفق العام للعمل الطلابي الإسلامي في الحقل الجامعي لم يتغير.. وهذا الالتصاق الساذج بحيثيات التشكل، يحيل إلى ثلاثة أمور حيوية: الأول: إدراك الطلبة الإسلاميين السيء للمتغيرات الاستراتيجية التي شهدتها الحركة الطلابية المغربية والساحة الجامعية والقوى المؤثرة فيها، بما فيها متغيرات الذات الإسلامية. الثاني: طبيعة العلاقة بين الفصائل الإسلامية وامتداداتها في المجتمع، حيث يبقى الطلبة بمقتضى هذه العلاقة "أسرى استراتيجيين" للمشروع الإسلامي العام في البلد، ومستوى حداثته وتجدده. الثالث: غياب المشروع، فالولوج الإسلامي للجامعة لم يخضع لتدبير محكم وراشد بل تأثر كثيرا بوضع الحركة الإسلامية المغربية البدائي في بداية الثمانينيات. فبحث آفاق جديدة للعمل الطلابي الإسلامي في الجامعة والمعهد والمدرسة... لا يتسنى إلا من خلال استنفار عام لحواسنا الإدراكية وتوجيهها نحو العمل الطلابي لسبر أغواره وكشف بنياته والمؤثرات الفاعلة فيه، وإعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الفصائل الإسلامية وامتداداتها في المجتمع، وأيضا الالتفات نحو المشروع الطلابي وإجلاء ملامحه وإقرار منطلقاته وصياغة برنامجه... وهذا أمر متعذر في هذه المقالة وخارج عن أغراضها، وبالتالي سنركز حديثنا في جانب نعتقد أن دوره أساس في فتح آفاق جديدة للعمل الطلابي الإسلامي ويتعلق الأمر بسؤال الوظيفة، ولاشك أن الإجابة عن هذا السؤال تشكل مكونا أساسيا في المشروع الطلابي الإسلامي. فالفصيل الإسلامي داخل الجامعة أو المعهد أو المدرسة... بحكم انتمائه الحركي الإسلامي يتوخى في نهاية المطاف إشاعة قيم التدين بين الطلبة وتكريسها، ويهتم بالنواحي المادية والمعنوية للجامعة. إلا أن هذا غير كاف لتحديد هوية "الوجود الطلابي الإسلامي"، الشيء الذي يحتم علينا تفصيل الحديث أكثر في أثناء الجواب عن سؤال الوظيفة. ويبدو من بديهيات هذا الاختيار في معالجة المسألة، التذكير بأن العمل الطلابي الإسلامي لا يحتمل الحشر في نفق واحد مهما كان شرفه (دعوي أو نقابي)... وقصر وظائفه على وظيفة أو وظيفتين، بل يتسع ليشمل جميع وجوه النشاط الموضوعي للطالب. وإجمالا يمكن القول إن بحث وظائف العمل الطلابي الإسلامي في الفترة المعاصرة هو بحث في خصوصيات المشروع الإسلامي التي يفرضها المجال، أو بعبارة أخرى تحديد دقيق لطبيعة الرسالة الحضارية في المجال الطلابي. فأبرز الوظائف والواجبات الشرعية التي يجدر بالعمل الطلابي الإسلامي القيام بها أربعة: الوظيفة الدعوية، الوظيفة الثقافية، الوظيفة الاجتماعية، والوظيفة السياسية. وسنحاول فيما يلي تحليل هذه الوظائف وإظهار أسسها بما يكفي. الوظيفة الدعوية راكمت الفصائل الإسلامية تجربة مهمة في مجال الدعوة في صفوف الطلبة، إلا أن النتائج والثمار تبقى محدودة مقارنة بالجهود المبدولة والإمكانيات المرصودة، وهذا ما يدعونا أكثر لإعادة النظر في أدبيات الدعوة داخل الجامعة ومراجعة مقولاتها الأساسية، وذلك في أفق تحقيق تقدم مقبول على طريق التكيف مع تحولات المحيط الجامعي والطلابي، سواء على صعيد الكتلة البشرية وثقافتها الخلقية أو على صعيد مصادر التأثير والتوجيه المتعددة الوسائط. فالدعوة معنى عام يحيل إلى ممارسة وتدبير منظم يتوخى ربط المدعو بدينه، وجعله على درجة من الاستقامة والصلاح، تقل معها المعاصي والذنوب في شخصه. وهذا المعنى لا يشير إلى مضمون معين أو برنامج محدد بل يترك هذا الأمر إلى اختيار القائمين بفعل الدعوة وحكمتهم، وذلك بحسب الفئة المستهدفة وأنواع الفساد المستشري في صفوفها... وهذا ما يحدد المعنى الخاص للدعوة في القطاع الطلابي، أو بعبارة أخرى يتيح الفرصة لبلورة مفهوم للدعوة يفي بمقتضيات الحقل الطلابي. فالدعوة في صفوف الطلبة هي ممارسة وتدبير منظم يتوخى إصلاح الثغرات التربوية والخلقية للطالب من قبيل العري، الدعارة، الزنى، الإثارة الجنسية، الحجاب... مع إعطاء الأولوية في أثناء العمل للانحرافات التي تنال من ظاهر التدين الجماعي والاجتماعي. فانطلاقا من هذا المفهوم يبدو سهلا اختيار المضامين الدعوية الأكثر ملاءمة للظرفية الحضارية التي تجتازها الأمة من ناحية، والأكثر تجاوبا مع الأوضاع الخلقية للطالب. لكن تحقيق نجاحات على طريق الدعوة في صفوف الطلبة رهين بمدى قدرة وإمكانية العنصر البشري (الداعية) وقدرته على التطوير وتحديث الأساليب. فما زال جزء كبير من مضموننا الدعوي يصرف عبر الموعظة والدرس والشريط... وعلى أهمية هذه الوسائط فإنها لم تعد تتمتع بالجاذبية التي كانت لها في السابق، وفقدت قسطا وافرا من طاقتها التأثيرية، وإن كان من قيمة ومردودية لهذه الأساليب فإنها محدودة في فئات اجتماعية وثقافية معينة. وبالتالي الواقع الطلابي بشروطه الحالية أبعد ما يكون عن التجاوب مع مثل هذه الأساليب. إن وسائل التأثير الأساسية في الفترة الأخيرة استأثرت بها الصورة والمعلوميات حيث لم تعد الوسائط التقليدية تحقق الشيء الكثير، سواء في المجال الدعوي أو غيره. ونحن مطالبين أمام هذا الوضع بتحقيق نقلة كبيرة على صعيد إجراءات الدعوة ونظمها ومصادر بثها، ونحيل في هذا الصدد على الأفلام السينمائية والوثائقية، إعلاميات، انترنيت وإشهار... الوظيفة الثقافية تعد التعبيرات الثقافية للطلبة الإسلاميين أحد الأشكال الرئيسية لإثبات الذات وتكريس وجودها وبسط نفوذها العقدي... وباعتبارها كذلك كانت وما زالت المحور الأكثر بروزا في برامج وأنشطة الطلبة الإسلاميين في الجامعة. وقد استأثرت قضايا الأمة وإشكالات المشروع الإسلامي (الذاتية والموضوعية) وغاياته، باهتمام الفاعل الإسلامي وتصدرت مبادراته. ولعل أسباب هذا الاهتمام غير خافية على أحد، ولكن نذكر في هذا السياق بأبرزها، ألا وهو الرغبة في تحقيق قدر مقبول من الالتفاف الوجداني حول المشروع الإسلامي، وبحث أسئلته والتماس الإجابات الراشدة لها. إن العمل الثقافي أحد الوظائف الأساسية للعمل الطلابي الإسلامي، لكن ليس بالمنظور الذي عهدناه، بل من زاوية جديدة تعيد بناء المقدمات "العقدية" والتصورية للفعل الثقافي، فطيلة ربع قرن كانت وراء البرامج والمحاور الثقافية في الجامعة محركات سياسية وإيديولوجية وأمام القلب الجذري في الأوضاع الجامعية وتحولات المحيط الوطني والدولي لم تعد هذه المحركات ذات جدوى، الشيء الذي يلفت انتباهنا إلى نسبيتها من ناحية وظرفيتها من ناحية ثانية، وبالتالي وجب إعادة النظر كلية في بواعث العمل الثقافي "القديمة" وتأسيس "خيار" استراتيجي واضح تتمتع منطلقاته بقدر من الثبات اللازم لمثل هذه المشاريع والبرامج. ركز الخطاب الإسلامي كثيرا على التدين السلوكي وما يثبته من أفعال وتصرفات وهذا مطلوب، ولكن في المقابل لم يعتن بالجوانب الفكرية والثقافية، حتى أننا قد نصادف حالات على درجة عالية من الاستقامة والالتزام الخلقي ولكنها من الناحية الفكرية والثقافية تعاني من اضطرابات وانحرافات مزمنة. وهذا يلح علينا في تأسيس مفهوم جديد يمكن أن نصطلح عليه ب"التدين الفكري والثقافي"، إذ بقدر عنايتنا بالجوانب السلوكية في التدين يجب أن تكون عنايتنا بالجوانب الفكرية والثقافية. فمن المقتضيات الأولية لهذا الفهم، ضرورة مراجعة مفهوم العمل الثقافي الإسلامي في قضاياه الأساسية وأساليبه وأطره التنظيمية، حيث يصبح معني أكثر بالالتزام الفكري والثقافي الإسلامي وما يحققه. ولعل من النتائج الأولية لمثل هذا التصويت إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية من منظور إسلامي وتطوير النقاش في كافة مجالاتها وخلق فضاءات تنظيمية وعلمية تختص بها. وهذا من شأنه أن يحول العمل الطلابي الإسلامي في جانب منه إلى شبكة ثقافية ترسل موجات "خاصة" ذات ارتباط بالهوية الثقافية والفكرية للأمة. وعموما يمكن القول أن الأصل في هذه الوظيفة في البدء والختام هو تكريس قيم فكرية وثقافية أصيلة ومنفتحة على العصر تدعم الاجتهاد الحضاري الأصيل وتعزز مسيرته. الوظيفة الاجتماعية دخل الطلبة الإسلاميون الجامعة على صيغة في العمل الاجتماعي، ولم يغيروا فيها الكثير، حيث وجدوا الاتحاد الوطني لطلبة المغرب إطارا للعمل من أجل تلبية المطالب الاجتماعية لفئة الطلبة وسد ثغراتها. وقد التزم الإسلاميون منذ الوهلة الأولى هذه الصيغة ومقتضياتها، بل تطرفوا أحيانا في الدفاع عنها، ولم يتيحوا لأنفسهم فرصة تأمل التجربة التي ورثوها، ومن ثم التطلع إلى خيار جديد إذا اقتضى الحال. وهذا من ناحية يعكس شرخا تصوريا كبيرا، إذ لم ينزلوا صيغة العمل الاجتماعي الموروثة منزلة الوسائل ولكن أنزلوها منزلة المبادئ. فهذا "التبني المطلق والتجديد النسبي" للموروث، بدل "التبني النسبي والتجديد المطلق" وضع الهوية الإسلامية للعمل النقابي الإسلامي في الجامعة موضع تشكك. فالعمل الاجتماعي في المنظور الإسلامي تمتد دلالته على محورين رئيسيين: محور مطلبي يجسد مضامينه العمل النقابي بالتقاليد والقيم المعروفة عنه، ومحور تضامني ما زالت معانيه غير حاضرة بالشكل المطلوب في الوسط الطلابي ولم تجسد بعد تنظيميا. فإعادة التوازن للوظيفة الاجتماعية للعمل الطلابي الإسلامي يقتضي النسج على منوالين والبناء على محورين. ونعتقد أن الإمكانيات التي يختزنها هذا التصور كبيرة وكبيرة جدا. وفي مقابل هذه التنبيهات النظرية لابد من الإشارة إلى فقر أساليب العمل الاجتماعي النقابي المعتمدة حاليا واتسامها بالغرابة الفكرية والواقعية. إذ لم تستفد من أجل جهد اجتهادي، حيث بقيت أسئلة استراتيجية كبيرة في الظل أو يلتف عليها بإجابات ساذجة. وعلى رأس هذه الأسئلة: هل ما زالت فكرة الاتحاد الوطني في ضوء تغيرات ملف التربية والتكوين قادرة على القيام بوظيفتها الاجتماعية؟ هل يجدي النضال النقابي الخالص شيئا في سياق تحقيق بنود الملف المطلبي الطلابي؟ ألا يمكن التفكير في مؤسسة للأعمال الاجتماعية تحقق من أحد الوجوه التغطية الصحية للطلبة؟ الوظيفة السياسية كانت السياسة وما زالت مثار جدال وسجال في الأوساط الطلابية، وتثير حساسيات كبيرة. ومن جملة الأسباب وراء ذلك الاستغلال والابتزاز السياسي الذي تعرض له الطلبة في الماضي، وعلى الرغم من تغير معظم الشروط الأساسية في هذا الباب، فإن أحدا من الأطراف الإسلامية وغيرها لم يجرؤ على مس هذا الموقف. وهذا التصلب والجمود ليس له من داع في ساحة الصراع والتدافع الاجتماعي، كما أنه يعكس استسلام الفاعلين لاستبداد جملة من المسلمات والبديهيات بدل استبدادهم بها. والواقع، أننا اليوم عكس الماضي أمام مد السياسة على حساب "النقابة"، الشيء الذي يفرض على الطلبة الإسلاميين إعادة النظر في موقف الجامعة من السياسة وبالتالي التفكير الجدي في إعادة الاعتبار السياسي للطلبة كقوة سياسية. فجانب من المطالب الاجتماعية للطلبة المدخل لتحقيقها وتحقيق التقدم على طريق إقرارها سياسي. لقد كان الطلبة في بعض الفترات التاريخية صوتا انتخابيا لصالح الديمقراطية والإصلاحات السياسية الكبرى، ويحتفظ لنا التاريخ بأمثلة كثيرة عن تحالف الحركة الطلابية مع القوى السياسية المعارضة وأشكال حضورها ومشاركتها في بعض المحطات، ولولا الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها بعض الأطراف القيادية في "أوطم" لكان الأمر مختلفا ولو على صعيد الموقف من السياسة. فاستثمار القوة الانتخابية للطلبة كورقة للتفاوض مع القيادات الحزبية والضغط عليها لتبنى بنود الملف المطلبي وإدراجها في برامجها السياسية أمر حيوي، يمكن أن يساهم وفي أسوء الحالات في تحريك الأوساط الطلابية، ويرفع من درجة الاحتكاك الإيجابي بين الأطراف... الشيء الذي من شأنه إعادة الاعتبار للجامعة، كمحطة للتكوين وتخريج الأطر السياسية للبلاد. إن عودة الحركة الطلابية المغربية إلى الواجهة أمر حيوي ومسؤولية تاريخية، تتحملها القوى والتيارات ذات الرهانات الحضارية الكبرى، فعلى عكس بعض المواقف التي تعطي الانطباع وكأن عهد الحركات الطلابية التغييرية قد انتهى، فإن الأمر بالنسبة للإسلاميين ما زال في بداياته، وأن مفاتيح الفعالية لا تفصلنا عنها سوى بضع مراجعات لا تحتمل التأجيل: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين). ذ. امحمد جبرون