إن من افضـل الأمـور التي تجـذب المخاطب الى فكـرة معينـة أن تكــون هـذه الفكـرة معالجـة لهــم من همومــه التـي يعيشــها في واقعــه ان الداعية الى الله تعالى لابد له أن يصل بفكرته الى الناس حتى ينفع وينتفع ؛وحتى تثمر أفكاره عملا صالحا عنده وعند المدعوين؛ومن وجهة نظري: أرى أنه لابد من توافر عدد من الصفات في صاحب الفكرة الذي يريد أن يوصلها الى الناس وفي الفكرة ذاتها وفي المتلقي أو المراد ايصال الفكرة اليه. أولا: من ناحية صاحب الفكرة 1 أن يكون مريد ا بفكرته وجه الله تعالى وحده دون ما سواه من البشر: فالاخلاص دافع يجعل الفكرة تندفع ذاتيا حتى تدخل في قلب المستهدف من ايصال الفكرة اليه. يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم ( انما الأعمال بالنيات؛ وانما لكل امرئ ما نوى). وفي حديث جمع القرآن الذي يحوي عبرا كثيرة وفوائد جمة نرى ونلمس شاهدا للاخلاص الذي يكون ثمرته تقبل الغير لفكرتي التي أطرحها عليه؛ فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه وإني لأرى أن تجمع القرآن . قال أبو بكر قلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر قال زيد بن ثابت وعمر عنده جالس لا يتكلم فقال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن . قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر هو والله خير فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم } . إلى آخرهما وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر). ففي هذا الحديث نلمس اخلاص عمر الفاروق رضي الله عنه حيث انه لم يطلب هذا الأمر من أبي بكر رضي الله عنه الا لوجه الله تعالى فقال أبوبكر (فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر) فالله تعالى هو الذي تكفل بايصال فكرة الفاروق المخلص الى أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع. 2 أن يريد بفكرته نفعا عاما للمسلمين فصاحب هذا النوع من الأفكار يجد أيضا عونا من الله تبارك وتعالى على ايصال أفكاره للناس؛ وكما ذكرت سابقا أن حادثة جمع القرآن فيها من العبر الكثير ؛ فنحن نلمس فيها أيضا ارادة الفاروق رضي الله عنه نفع المسلمين بجمع القرآن ولم يرد مصلحة شخصية ولا منفعة دنيوية بعيدة عن نفع اخوانه من الموحدين فتكفل المولى جل وعلا بهذا الأمر وشرح صدر الصديق لما اقترح عمر عليه. 3 أن يتميز بسمات شخصية تؤهله لترويج أفكاره بين الناس فمن الممكن أن يحوز المسلم عقلا مفكرا يحوي أفكارا عديدة متجددة فياضة لا تتوقف عند حد ؛ ولكنه للأسف لا يستطيع أن يصل بفكرته الى الناس نظرا لشدة حيائه ؛ أو انطوائيته وعدم اجتماعيته؛ أو عدم المامه ببعض المهارات الحوارية ؛ او غير ذلك من الأسباب. فأرى أن الشخص الذي يريد أن يصل بفكرته الى الناس ؛ أو يعرضها عليهم عرضا يجعلهم يقبلون هذه الفكرة أو غيرها؛ أرى أنه لابد أن يحوز بعض الصفات أو السمات الشخصية التي تؤهله لذلك؛ ومنها: (أ) - جزالة الفكرة وعمقها وصحة الأساس الذي بناه عقله عليها. (ب)- الجرأة في عرض الأفكار وتبنيها والدفاع عنها بمنطق سليم قوي( ما دامت من وجهة نظر صحيحة). (ج)- اكتساب مهارة الأساليب الحوارية التي يستطيع بها ان يجادل عن فكرته وأن يسوق عليها الأدلة حتى يقنع بها الناس ؛ ومما يساعد على ذلك: كثرة الاطلاع ؛ والفهم الجيد للأدلة وليس مجرد سرد الأدلة سردا بلا وعي للشواهد التي فيها كدليل على فكرته؛ بل عليه أن يعي الشاهد من الدليل جيدا حتى يكون الدليل مقنعا للغير. (د)- اللين والرأفة في الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن: قال تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).(النحل125:). (ه) خ الاستعداد التام للنزول على الحق والصدع به والرجوع اليه اذا كانت الفكرة غير سديدة: وهذا ما يسمى: (التجرد) ؛ ذلك الخلق الجميل العجيب الذي اذا تحلى به المسلم كان له أثره الطيب في أي حوار أو مناقشة ؛ فبه يصل المتناقشون الى الحق على لسان أي منهم لأن المراد فقط هو الحق ؛ وليس المراد افهام الغير أني مفكر أو صاحب عقل سديد .يقول الشيخ محمد الخضر حسين-رحمه الله تعالى-( شيخ الأزهر سابقا) :( اذا ابديت رأيا ثم أراك الدليل القاطع أو الراجح أن الحق في غير ما أبديت فمقتضى الأمانة أن تصدع بما استبان لك أنه الحق . ولا يمنعك من الجهل به أن تنسب الى سوء النظر فيما رأيته سالفا). (و)- عدم التعصب للفكرة أو تعصب الفكرة لأحد: فلا يريد بفكرته خدمة حزبه أو جماعته أو عصبته التي ينتمي اليها ؛ بل يريد بفكرته افادة جماعة المسلمين العامة وعموم المسلمين فيها ؛ فلا تكون الفكرة بذلك نابعة من عصبية أو حزبية ؛بل نابعة من حبه وانتمائه لجماعة المسلمين التي يشهد افرادها أنه لا اله الا الله محمد رسول الله . ثانيا في الأفكار ذاتها: 1 عمق الفكرة : فالفكرة السطحية لن تجد لها رواجا الا في وسط سطحي ضحل التفكير ؛ لأنها فكرة ضحلة هشة ضعيفة لا تنتشر الا في الوسط السطحي الذي يقبلها.ومثال ذلك : فكرة تحرير المرأة ومساواتها بالرجل ؛ فهي فكرة هشة ضعيفة انتشرت في وسط مثلها ؛ وسط منحط قيل عنه انه الوسط الراقي الذي كان مسيطرا على الحياة العامة في أوائل ومنتصف القرن الماضي. وضعف وهشاشة هذه الفكرة تنبع من كونها مضادة لشرع الله تعالى القويم المتين الذي أعطى للمرأة حقها الشرعي الذي يليق بها من الحفاظ عليها وعلى عفتها وطهارتها بارتداء الحجاب الشرعي الساتر لكل بدنها ومواراته عن أعين الذئاب التي تريد نهش هذا الجسد الطاهر العفيف؛ والتي تريد هذه الذئاب أن يظهر هذا الجسد ويتعرى حتى تباع المرأة في سوق النخاسة بعرض لحمها العاري أمام الناس وحتى تصير مطمعا لمرضى القلوب والنفوس؛لذا قال رب العزة جل وعلا: (يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً{32} وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً{33}(الأحزاب)؛ وقال جل وعلا: ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }(الأحزاب59:). 2 مناسبة الفكرة لحال المتلقي: فلا يصح أن يقترح شخص ما فكرة اقامة ورشة عمل فكرية في وسط مليئ بالحرفيين وأصحاب الأعمال اليدوية البعيدين عن التفكر والتدبر ؛ المشغولين والمنهمكين في أعمالهم لتحصيل قوت يومهم. ومثل آخر صارخ على هذا الامر ؛ ألا وهو أفكار الألعاب الكمبيوترية المنتشرة الآن على الحاسوب أو على شبكة الانترنت؛ كلها عنف ودموية وقتل وسرقات على الرغم من أن المستهدف منها هم الأطفال الأبرياء الذين هم حقهم الرعاية التربوية الهادفة والألعاب الترفيهية التي تنمي فيهم المواهب الطيبة أو بعض الثقافة العامة التي تناسب سنهم؛ وليس تربيتهم على العنف والدموية والقتل وغيره مما هو موجود في هذه الألعاب الهدامة القاتلة لبراءة الأطفال. 3 مناسبة الفكرة للوقت المطروحة فيه: فاختيار وقت طرح الفكرة عامل أساسي مهم في ايصالها الى الناس ؛ فمثلا من غير المناسب أن يقترح شخص اقامة حفل في بيته وجاره تصيبه مصيبة بفقد عزيز لديه أو قريب حبيب ؛ لأن واجب الوقت والجيرة يقتضي مشاركة الجار في حزنه ومراعاة حالته النفسية ومشاركته حتى وان كانت مشاركة ظاهرية في ألمه الذي يحس به بفقد من فقده. 4 سمو الفكرة : لكي تسمو بصاحبها ومتلقيها الى آفاق عالية سامقة بعيدة عن الهوى وبعيدة عن الأفكار الدنيئة التي لا تربي في قلب صاحبها ومعتنقها حب الدونية ؛ بل على العكس تعود هذه الفكرة السامية صاحبها ومتلقيها على السمو في آفاق الفكر والعمل والممارسات الانسانية. ثالثا: في المتلقي : 1 مراعاة أحواله: كما يقول أهل البلاغة ( مطابقة الكلام لمقتضى الحال) أو: ( لكل مقام مقال). فالأفكار المطروحة لابد أن تراعي الأحوال النفسية والعقلية للمتلقى المراد ايصال الفكرة اليه. وبمعنى آخر من الممكن القول أنه من الضروري دراسة الاستعداد الذهني عند متلقي الفكرة قبل عرضها عليه: هل هو مستعد فعلا أن يتلقى فكرة معينة ؟ ويفكر بها بعقله؟ثم يستطيع أن يحدد بعد ذلك اذا كان يقبلها أم لا؟أم هو مغلق الذهن ؛ متجمد العقل ؛ لديه أفكار معينة لا استعداد لتغييرها أو لاستقبال أفكار جديدة واردة عليه؛ فهو يرفض أى فكرة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما لعائشة رضي الله تعالى عنها كما ورد في صحيح البخاري ( يا عائشة: لولا قومك حديثوا عهد بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس وباب يخرجون) ؛ فالحبيب صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف راعى حال أهل قريش من حداثة عهدهم بالإسلام وأن العصبية ما تزال تسيطر عليهم فتنازل عن هذه الفكرة السامية وهي فكرة تجديد بناء الكعبة وبنائها على قواعد ابراهيم عليه السلام واكتفي بالتعبير عنها كأمنية لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وصح عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كما ورد أيضا في البخاري قوله: ( ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان لبعضهم فتنة). 2 احترام عقلية المتلقي : فلا ينبغي أن يشغل فكر الناس بأفكار لا جدوى منها ولا منفعة من ورائها ؛ كما لا ينبغي شغل أذهانهم بقضايا وهمية غير واقعية .كما لا ينبغي اعتبار الناس من طبقة أخرى متدينة غير طبقة طارحي الأفكار والنظر اليهم من هذا المنطلق وكأنهم حقل تجارب للأفكار التي تطرح حتى يقاس معيار نجاح الفكرة من عدمه؛ أو النظر اليهم بنظرة استعلاء فيجعل المفكر نفسه في طبقة أو درجة أعلى من عموم الناس ؛ فيطرح أفكاره من هذا المنطلق فاذا هي أفكار سخيفة متفلسفة لا تراعي عقول المخاطبين ؛ فلن تصل اليهم أبدا ولن تلق رواجا بينهم لأنها أفكار مستعلية سيقت لمجرد التفلسف على خلق الله تعالى ؛ ولن تجد رواجا لها الا عند أصحاب الهزيمة النفسية أسيري نعرات الاستعلاء . 3 التفكر والتعايش في هموم المخاطبين : فيبنبغي حينما تطرح الأفكار ألا تكون بمعزل عن هموم الناس ؛ وألا يعيش صاحبها في برج عاجي بعيدا عن من يخاطبهم بأفكاره ؛ وألا يكون في واد والناس في واد آخر. وان من افضل الأمور التي تجذب المخاطب الى فكرة معينة أن تكون هذه الفكرة معالجة لهم من همومه التي يعيشها في واقعه؛ أو يكون في طيات هذه الفكرة مخرج من مشكلة ما قد وقع فيها هذا المخاطب؛ أو ترسم له تلك الفكرة طريقا فيه نجاة من كربة قد ابتلي بها؛ أو تكون هذه الفكرة المطروحة كنبراس قد أضاء له في ظلمة كان يسير فيها فحولت الفكرة الظلمة الى نور أضاء له طريق سيره. ما أسرع الاستجابة لفكرة تكون سببا للنجاة من هلكة ..... ما أسرع الاستجابة لفكرة تعيش هما من همومي ومشكلة من مشكلات حياتي..... ما أسرع الاستجابة لفكرة تساعد في تفريج كربة من كرباتي..... ما أجمل وأروع التعاون الفكري والجسدي على البر والتقوى قال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ).( المائدة2:).