امتاز المغرب باحتفائه الكبير بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة وإتقانا لرسمه، مجسدا بذلك عمق انتمائه الإسلامي التليد. واستمرت عناية المغاربة بهذه السنة الحميدة عقودا تلو العقود، منذ الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري إلى يوم الناس هذا، يتوارثونها جيلا عن جيل، فعرفوا بحفظه وحفظ المتون المتصلة به وإتقان قراءاته القرآنية، فانتشرت الكتاتيب القرآنية عبر ربوع التراب الوطني، كما حظي الفقيه باحترام كبير، فالكل يسارع لخدمته ويخشى أسباب إغضابه، كما تفنن المغاربة في الإبداع في كل ما له صلة بالقرآن الكريم، فاشتهروا بالقراءات المتنوعة للقرآن، فكانت القراءة المغربية والفيلالية وقراءة سيدي حمزة، التي تميزهم عن إخوانهم المشارقة. وتنادى للحفاظ على هذا الإرث الحضاري مختلف مكونات المجتمع المغربي على المستوى الشعبي والرسمي، وأبدعوا لأجل ذلك مناهج فريدة في تعليم القرآن وتعلمه، وعرسا قرآنيا يشارك فيه كل سكان الدوار أو القبيلة كدليل على أن فلانا قد أتم حفظ القرآن وآن له أن ينضم إلى زمرة الفقهاء. ومن خلال مذكرات ضيفنا السي الزعيريكما يكنى، سنتعرف على مسيرته القرآنية والحديثية، والتي أهلته للفوز بجائزة المغرب الأولى في القراءات السبع وجائزة الحديث الخاصة بحفظ كتاب الموطأ، كما نقف على منهجية تدريس أساتذته، الذين بصموا التاريخ العلمي المغربي بإنتاجاتهم القيمة ومن هؤلاء: الفقيه محمد التسولي وعلي الشيظمي وأحمد المستاري وعابد السوسي وأحمد فنان وعلال الفاسي وعائشة بنت الشاطئ والمكي الناصري وعبد الحميد احساين وعبد الله الجراري وآخرون، تتلمذ على أيدهم، وبعضهم أجازه، كما أجاز هو الآخر فقهاء انتشر صيتهم في أمريكا وبلاد المشرق وداخل المغرب. فكيف حفظ الفقيه محمد السحابي القرآن العظيم وقراءاته السبع والمتون المتعلقة به؟ وما أسباب اتجاهه للحديث وحفظ موطأ مالك؟ وماذا عن ترحاله أو تخناشه، كما يسمى لدى أهل القرآن لإتقان قراءة سيدي حمزة؟ وماذا عن ذكرياته مع وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد بركاش رحمه الله؟ وما هي أحواله وهو يقارع انحرافات مجتمعه والمضايقات التي تعرض لها في مسيرته؟ مذكرات الفقيه محمد السحابي تحاول أن تذكرنا بمحطات علمية وأحداث تاريخية عرفتها بلادنا. إعداد: عبدلاوي لخلافة يشير الشيخ السحابي إلى أن أمير جماعة الهجرة والتكفير سجن، لأنه شخص لا يتراجع عن أفكاره.وعندما سألته هل رجع عن أفكاره لما سجن أم لا؟ أجاب: لو كان السجن يصلح مثل هذا الأفكار لكان حلا أيسر، ويتابع ضاحكا :السجن لا ينفع في الأمور العقائدية، وحلها لابد أن يكون حلا جذريا، وليس حلا مؤقتا أو ترياقيا فقط، مقترحا:أرى أن المسؤولين لابد لهم من جد في معالجة هذا الأمر، فلا تؤخذ المسؤولية الدينية على أنها وظيفة وكفى، إذ على المسؤول عنها أن يعرف أن القيام بهذا الأمر شأن تعبدي وإصلاحي، وأن هذا الإصلاح مطلوب منه شرعا وعقيدة، وهي مسؤولية سيسأل عنها عند الله تعالى، ثم أن يتزود بالمعرفة الدعوية الشرعية، ففاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان الشخص الذي توكل إليه هذه المسؤولية بضاعته مزجاة في الدعوة وممارستها، فإنه يوقع مشكلات في الدعوة، فلابد في الأمر من ممارسة وتمرن وحوار مع الأفكار المتنوعة مع استصحاب الصدق والإخلاص في هذه الأمور ثم ضبط العلم الشرعي من حفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وكم هائل من مواعظ السلف، وأسلوب الحوار الذي نهجه الأئمة الكبار وعلماء الأمة. وشخصيا، يتابع الشيخ السحابي، أرى في هذا نقصا كبيرا بكل صراحة، إذ يتولى الدعوة من ليس من أهلها لا من قريب ولا من بعيد، ومثل هذا لا يعطي فائدة، هبْ أن إنسانا بضاعته في الدعوة مزجاة، وذهب إلى المسجد للوعظ، فمن يستمع إليه؟، فقد تجد مثل هؤلاء يتكلم بكلام غير مفهوم، فهو في واد والناس وما يخصهم في واد آخر، فلابد من مخاطبة القلوب، لأن هذه صناعة تفرض الممارسة لإتقانها، فقد تجد إنسانا يعظ في المسجد ولا تعرف ما الغاية التي يريد تبليغها أو القضية التي يتكلم عنها، شاردا عن واقع الناس، يخاطب الناس بألفاظ صحافية أو ديبلوماسية أو فلسفية.. أنا لا أذم الصحافة ولما سألناه هل الأسلوب الصحافي أسلوب غير صالح، أجاب إن خاصية الأسلوب الصحافي أنه يخاطب فئة محددة، ويقول ضاحكا:أنا لا أذم الصحافة، فهذا الأسلوب، الذي ذكرت،لا يصلح لمخاطبة الناس وفيهم الأمي، الذي لم يقرأ جريدة في حياته. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرشدونا لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، كما جاء في وصية لعلي بن أبي طالب:أتريدون أن يكذب الله ورسوله، ما أنت بمحدث قوم لا يفقهون كلامك إلا كانت فتنة لهم، فالصحافي له أسلوبه، لأنه يوجه كلامه لمختصين يتعاملون معه، وهذا لا ضير فيه ولا عيب، لكن الواعظ لابد أن يكون عنده حظ من الأسلوب الدبلوماسي وفن الكلام وحظ من الحديث النبوي، وقد يحتاج أحيانا ألا يتكلم باللغة العربية، بل للأمازيغية أو الدارجة: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)، أي مخاطبة الناس بما يفهمون، فإذا كان بأسلوب بعيد عنهم، فالواعظ لا يؤدي الرسالة المنوطة به. ضرورة مصاحبة العالم للشباب وقد حاورنا أصحاب بعض الأفكار الأخرى ، ومنهم من يطلق عليهم الإعلام بعض الأسماء مثل: السلفيون، السلفية الجهادية، الصراط المستقيم (ضاحكا)، فقد سمعوا إنسانا يقول: نحن على الصراط المستقيم فقالوا هؤلاء هم أصحاب الصراط المستقيم، وهذه الاصطلاحات ليست مهمة في المسألة، والمهم هو أن هذه الأفكار تأتي إلى بلادنا وتجد التربة التي تعشش بها، وهذه هي مهمة الدعاة والمربين والدعاة، لأن الشباب يحتاج أن يصحبهم العالم، فالصحابة سموا بهذا الإسم لأنهم كانوا لا يفارقون الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صحب الإنسان العالم وثق به، وهؤلاء الشباب لا أصحاب لهم كأسوة، فإذا جاء هذا الفكر أو غيره كان هو صاحبه، فهم لا يعرفون العالم، والعالم لا يفكر في صحبة الشباب، وهم لا يفكرون في صحبته، وإذا كان العالم زاهدا في الناس، فالناس أزهد فيه.كما يحكى عن رجل سوري أنه مر على مسجد فوجده مغلقا، فقال:أنت مسكر(مغلق) وأنا مبطل (أنا لا أصلي). فالشاب المصاحب للعالم يأخذ عنه المعرفة والتربية والأخلاق، فإذا جاءت لهذا الشاب مثل تلك الأفكار والفتاوى المتشددة، فأقل القليل أن يسأل العالم عنها، فيتبين له بطلانها، وإذا لم يصحب الشاب العالم والداعية يكون الشاب صاحب أفكاره، وأي فكر جاءه اتبعه، ولا يريد الشيخ السحابي أن يذكر أصحاب تلك الطرق والمذاهب، لأن ذكرها ينتج عنها غير المقصود. سلا أم المعارك الفكرية وقد خضنا معارك كثيرة مع أصحاب تلك الأراء، يقول الشيخ السحابي، إذ كانت سلا أم المعارك (ضاحكا)، رغم أن أصحاب المعارك يأتون إليها من مناطق أخرى ليخوضوا الخصومات فيها، ولا أذكر هنا فئة معينة، ولا أشخاص معينين، لأن هذا أمر عام.وقد حصلت مشاكل عويصة ولم نرد عليها، وما أتذكره أنني قلت فيها: هذه نار فإذا تكلمت فيها صببت عليها الزيت، ولكن إذا أهملتها انطفأت، وهي الآن لم تنطفئ، ولكنها خمدت. واستشهد الشيخ السحابي بضرورة التنويه إليها بقول الإمام مسلم في مقدمة كتابه الصحيح، وهو يذكر الرجال الذين يؤخذ عنهم الحديث والذين لا يؤخذ عنهم، فكان مما ذكره من البدع:لو لم أحتج لذكرها لما ذكرتها، لأن عدم ذكرها لي سبب لنسيانها. فالبدع والأهواء المخالفة للشرع إذا تم الخوض فيها انتعشت، والداعية كالطببيب الماهر يعرف كيف يعالج الأمور، فأحيانا لا يحتاج كل ناعق إلى رد، وأحيانا يكون عدم الرد ردا، وأحيانا يريد الآخر أن ترد عليه، لأن من أصحاب الأهواء من لا يهدأ له بال إلا في الردود والخصومات، ويعتز بكونه أصبح في مواجهة مع فلان وعلان. خذوا علمه وعليه بدعته ومما ناقشت من الأفكار الوافدة من الخارج، يتابع السحابي، والمغاربة كثيرو التأثر والتقليد بما يأتي من الخارج، وهذا عيب فينا حتى في اللباس، نجد بعض الإخوة، عفا الله عنهم، يلبسون اللباس الأفغاني أو الباكستاني، بينما شعوب أخرى مثل آسيا والمشرق العربي لا يقلدون، فتجدهم على لباسهم الشرقي. ومن جملة أفكار الذين حاورتهم ما يسمى بأصحاب المنهج، فأنت عندما تتحاور مع صاحبه يقول لك: أنت لا منهج لك، أي أنك لست على منهج السلف. ولما سئل عني أحدهم قالوا له: ما تقول في فلان(السحابي)؟ فقال لهم: هو سلفي لا منهج له. فأصحاب المنهج هؤلاء، وهو لفظ لغز وخيالي، لا يعرفون معناه، لهم أفكار لا نوافقهم عليها، وصفتهم، بخلاف أصحاب الفكر المتشدد الذي أشرنا إليه في السابق، أنهم يضللون ولا يكفرون، فيقولون لأتفه الأسباب: فلان ضال مبتدع، فإذا لم تكن معهم ومع أفكارهم مائة بالمائة فأنت: ضال مبتدع، وليست كافرا، سواء كنت على السنة أو على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لا يبالون بذلك. ولما سئل أحد شيوخهم عني، إذ قالوا له: يا شيخ، شخص عنده علم ولا نجد في ذلك البلد إلا صاحب هذا العلم(علم النحو والحديث والقراءات)، ولكن نراه مبتدعا وضالا؟ فقال لهم:خذوا علمه وعليه بدعته. وهنا تتعالى ضحكة الشيخ السحابي، فهذه المقولة هي قاعدة لدى المحدثين وهي في أصلها قاعدة صحيحة، لكنها نزلت في غير محلها، فالحافظ شمس الدين، وهو من علماء الجرح والتعديل، لما سألوه عن أبان بن تغلب، قال: هو شيعي جَلَد(قوي في تشيعه)، لكنه صادق في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فلنا صدقه وعليه بدعته، لكن إنزال قواعد المحدثين والأئمة، الذين قعدوا هذه القواعد، على أشخاص معينين ليس صحيحا. فالقضية ليست في الأحكام، ولكن في تنزيلها، وهذه هي المصيبة الواقعة في فكر هؤلاء وأمثالهم. من هدي السلف في الرجوع عن الخطإ ولما سمعت بالسؤال والإجابة قلت في نفسي: والله لو جاءني هذا الشيخ، وبين لي أني على أمر فيه بدعة لرجعت عنها، لأنه ليس عيبا أن يذكرك شخص بأنك على بدعة أو على ضلالة بالحوار، ويأتيك بالحجج على ذلك، لأن هذا من هدي السلف رحمهم الله تعالى، فالسلف الصالح كانوا يرجعون عن خطإهم بسهولة، فالإمام مالك رحمه الله صاحب المذهب، بينما هو يحدث الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، سأله شخص عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال الإمام مالك:لا عليه، وكان في الحلقة العلمية تلميذه عبد الله بن وهب، فقال هذا التلميذ: فأنتظرت الإمام حتى فرغ(يلاحظ هنا أدب التلميذ مع أستاذه)، فأتيته فقلت له: عندنا في ذلك سنة؟ فقال لي مالك:هات بها؟ فقلت له:حدثني..إلى أن وصلت المقداد بن الأسود، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي كان يخلل أصابع رجليه بخنصره، أي بالإصبع الصغير من اليد. فقال مالك رحمه الله: هذه سنة حسنة. ويعلق الشيخ السحابي على الواقعة بقوله: هنا نلاحظ تواضع الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقال عبد الله بن وهب: وكان كلما سئل عن تخليل أصابع الرجلين أفتى بهذه السنة، لأن السند مصري، ومالك لم يرحل عن المدينة، لأنه كان في غنى عن ذلك لتوافر العلم بالمدينة، وهو أعظم علم في الأمصار(العراق والشام ومصر وخرسان)، ولهذا فقد كان الأئمة الصالحون يرجعون لما يتبين لهم الحق، ولا يتعصبون لآرائهم.