ليس لي أدنى سابق معرفة بالشخوص المكرمة, ولست من الذين جايلهم أو رافقهم أو واكب خطاهم, أو عايش نجاحاتهم, أو تذوق معهم مرارات الانكسار, بسبب من قيم اعتبارية مفقودة, أو بسبب من ظلم ذوي قربى لم يتوانوا, في بعضهم, في إخراج السكاكين للإجهاز على تجربة, أو تطويع ممارسة, أو الدفع قسرا بوجه مميز, ليعيش وقد اختمر العطاء من بين ظهرانيه, على تقليب ذكريات جميلة, أو يتحسر على مآل منبر أفنى العمر في بنائه وضمان إشعاعه, ليغدو بقلب المغاربة وعقلهم, عنوان الأداء الجاد, والعطاء الصادق, والتفاني غير المؤدى عنه. وبقدر ما لم يسعفني السن وأنا ابن ستينات القرن الماضي, ولا طاوعتني الصدف للاقتراب من هؤلاء فيما بعد, فإني كما سواي من المغاربة, لا يستطيع نسيان نبرات أصواتهم, وهي تتحدث بالأثير آناء الليل أو أطراف النهار, بمهابة وجلال قدر, ندر مثيل لهما بالزمن الرديء الذي نعيش بمناخه منذ مدة: + لم يكن خالد مشبال, ذي النبرة الشمالية الهادئة, لكن الكاسرة لسكون الليل بقوة, لم يكن له أن يترك النوم يتملكك, بل غالبا ما كان يبادر, ببث ما بعد منتصف الليل, إلى استنفار ملكة الأثير بصلبك, سواء كنت من عشاق الليل المولعين بقضايا الناس والوطن, أم كنت بمقود سيارتك أو شاحنتك, بسفر عابر, أو لهثا وراء لقمة عيش عسيرة المنال بالنهار. إن خالد مشبال, وصحبه المعدودين بإذاعة طنجة, لم يكونوا ممن يوظفون الأداة, أداة البث والإرسال, لتمرير مادة مبرمجة, أو تقديم ما كان منها ضمن المباشر الحي, بل كانوا كلهم (وضمنهم حتما الرائعة أمينة السوسي) متلاحمين بذات الأداة, ملتفين حولها, مندمجين بها لحد الاندغام, ولكأني بهم جميعا بطقس ديني لا مجال بداخله للاجترار. كانت الإذاعة, إذاعة طنجة, منبرهم بامتياز, يذودون عنها كما لو أنها ملك كوني غير قابل للاستصدار أو الارتهان...حتى إذا أحيل قبطانها على التقاعد, وجزء من صحبه على الرحيل طوعا أو إكراها, رفضنا النازلة, وتحاملنا بقوة على مسؤولين أذنبوا في حق صنف من الإعلاميين, فأنزلوا بهم لعنة التقاعد, في حين لم يكن العياء ولا السكينة لتدركهم, أو تأتيهم لا من الأمام ولا من الخلف. إن تكريم خالد مشبال اليوم, وقد كرم لمرات عدة وبأوسمة راقية, إنما هو تكريم إذاعة في شخص, وتكريم شخص في إذاعة, لدرجة قد يتعذر على المرء حقا الفصل بين من منهما المؤسسة...أعني من منهما ثوى خلف تأسيس الآخر, ومن منهما يحمل تاريخ الآخر. + لم يرتبط تاريخ محمد بن ددوش بإذاعة, حتى وإن كان من رواد الإذاعة الوطنية منذ بداياتها الأولى, وكان أحد مدرائها لما يزيد على عقد ونصف من الزمن, بل ارتبط بصوت ثاقب, لا يمكن أن تغفل الأذن سريان نبراته إليها بالمرة, وبمحيى موسطت الصورة لشيبه الطاغي, فبدا للناظرة بالتلفزيون مالكا للشاشة, يخال للمشاهد معه ولكأن المقدم هنا هو صانع الحدث بامتياز, لا مقدمه أو المعلق عليه بأدوات خطابة فجة, أو بتعال أبوي يثير التقزز. إن محمد بن ددوش لم يؤسس لأداء إعلامي ملؤه العفوية والتلقائية والصدق, بزمن كانت تقطع بظله الأعناق والأرزاق لمجرد تجاوز بسيط, بل أسس لهلامية تراتبية الصوت والصورة بالمنبر, لدرجة يدرك المرء معها بيسر كبير, أنه بإزاء بن ددوش سواء سمعه بالإذاعة, أم أغمض عينيه للإنصات له وهو بالتلفزة يقدم أو يغطي, أم تخيله ضمن مقدمين كثر, ننفر من الخبر جملة وتفصيلا, لمجرد اقتنائه لصوتهم بالإذاعة أو بالتلفزة. إن تكريم محمد بن ددوش اليوم (وقد كرم من ذي قبل بأكثر من مناسبة وطنية ودولية) لا يروم تكريم وجه مقتدر, اشتغل دونما نفخ في الذات, أو ادعاء في التميز, بل هو تكريم إسم خالد, أنا مستعد للاعتراف دون مجاملة, بأنه طبع مخيالنا بالصغر, وسيبقى ملازما لنا حتما بالقادم من أيام. + لم تكن مليكة الملياني بشاذة عن عالم الرواد هذا, بل كانت بصلبه شامخة, هي الإذاعية البارعة التي حملت على عاتقها منذ ستينات القرن الماضي, قضايا المرأة, فثوت خلف برامج رائدة من قبيل للنساء فقط , ثم دنيا المرأة , ثم أنا عندي مشكلة , ثم بريد الأسرة , وكل ذلك بفترة زمنية لم تتجاوز العقد كثيرا...لتطرق بعد ذلك وبقوة عالم مع الأسرة , الذي كنت أصادف بعض حلقاته وأنا بالمدرسة أتعلم, أو استرق صوت صاحبته بين حصة لعب وأخرى, بزمن كان اللعب جزءا من منظومة في التربية والتعليم سليمة, فيما كان الخالد أحمد بوكماخ يؤثث للجزء الثاني, بغفلة منا لم نتمثل عمقها إلا متأخرين. لم يكن بزمن مليكة الملياني طابوهات كثيرة في إثارة قضايا المرأة. ولم يكن من ضمننا دعاة تكفير ولا متطرفي فكر, بل كانت المرأة جزءا من نسيج اجتماعي وثقافي, برعت السيدة ليلى في التعرض له دونما خطوط حمر تذكر, ولا محذورات تلجم, ولا حسابات جانبية قد يكون من شأنها إدخال السيدة بمجال المحذور. إن تكريم سيدة الإذاعة اليوم (هي التي تحصلت على أوسمة تكريم بمختلف مراحل مشوارها) لا يستهدف تكريم امرأة سمت ببنات طينتها لمراتب عليا, بل ويمثل عربون اعتراف المغاربة, بأن تكريمها إنما هو من تكريم قيم في العائلة والأسرة تتراجع, أو تتقوض, أو تغتصب على محك حداثة مبتورة, وانفتاح غير مضمون العواقب والتداعيات. + لست متأكدا من أن أحمد الريفي, ابن فاس البار, ومدير إذاعتها الجهوية لما يناهز عقدا من الزمن, بشاذ عن الكوكبة, بل هو عقد فريد ضمن عقدها المتسق, كرس جزءا من عمره لخدمة مشروع الإذاعات الجهوية, بمرحلة ما قبل التقنية الرقمية حينما كانت الإمكانات شبه منعدمة, فكان من رواد الإعلام الجهوي سنينا طويلة, قبلما يعمد إلى تحرير المجال السمعي/البصري, ويصبح كل من لديه مال أو جاه أو ريع قرب, صاحب محطة, بمشروع مكتمل مسبق, أو دونما توفر على تصور واضح, لما هو العمل الإذاعي في حده الأدنى. كان أحمد الريفي مولعا بالإذاعة, لكنه كان بالآن ذاته مولعا بالشعر, وبالمسرح وبالفن التشكيلي, فكان خلف إنتاج برامج من طينة من روائع المسرح العالمي , الذي كان يقدمه بمعية الراحل محمد الكغاط, وبرنامج حوار الذي كان يقدمه بصحبة الأستاذ ابراهيم السولامي, ناهيك عن برامج أخرى عديدة, من قبيل صور شعرية , و الكلمة واللحن , و لحظة للتأمل الذي لا يزال ينتجه لفائدة إذاعة مراكش, دون كلل أو ملل. لم يكن أحمد الريفي إذاعيا ضيق الأفق, بل كان إعلاميا متعدد الآفاق, فلم ير في الإذاعة يوما إلا رافدا من روافد إشاعة الإبداع, وتعميم المعرفة, وتوسيع مجال الإدراك. وحتى وهو ببداية عقده السابع, لم يكل أحمد الريفي ولم ينفر, بل كابر ولا يزال لرفد البعد الثقافي بكل أبعاده, وتقريبه للمستمع بانتظام. إن تكريم أحمد الريفي اليوم هو تكريم للإبداع والثقافة بالإذاعة, هو تكريم للشعر والمسرح والفن, إنه تكريم المادة الصلبة التي لا يزال يحمل لواءها, للتصدي للمواد الرخوة, الباهتة التي بدأت تلج أثيرنا, منذ مدة, كالفطير الماسخ. + لم أترك رشيد الصباحي, بآخر هذه الورقة, كونه أقل عطاء أو أقل حضورا, ولكن باعتباره أصغر المكرمين سنا. تلقى تعليمه بمدارس المكفوفين بالدار البيضاء والرباط, وأنتج منذ سبعينات القرن الماضي, برامج ناجحة, وترأس بتفوق قسم الإنتاج العربي بالإذاعة الوطنية, لأكثر من نصف عقد من الزمن. كان الصباحي ينشط برامج أسبوعية رائعة, ولم يكن المرء مع ذلك ليدرك أن للشخص ظروف إعاقة قاهرة, انتصر عليها, وتجاوزها, وتنكر لسطوتها...وقد كنت ضيفه لأكثر من مرة, لم أحس معها أني بإزاء رجل قهر الظلام بالصوت, وتحداه بالكلمة, ولم يكن له ليتردد في مجابهته بالصورة لولا تعقيدات الثقافة والمجتمع. كان رشيد الصباحي ينشط برامج عديدة, يخال لك وأنت تستحضرها اليوم, كما لو أنه يعتبر ضرره رافعة, وإعاقته مزية...وقد أحسست بذلك بأكثر من مرة وأنا أنصت له, أو أجلس بعيدا منه, وهو يسألني ويسائلني. إن تكريم رشيد الصباحي اليوم (هو الذي كرمته الطبيعة, حتى وإن خال للبعض أنها ظلمته) إنما هو تكريم للبصيرة قبلما يكن تكريما للبصر, إنه تكريم لرجل يرى معنا كل الصورة, ولا نستطيع أن نرى معه إلا ما يريد الإفصاح به لنا. لم أكتب هذه السطور القصيرة إرضاء لشعور لدي ثابت, بأن تكريم الكبار وإكرامهم هو واجب عين, بل كتبتها للتعبير عن إيمان يراودني بأننا إن تغاضينا عن ذات الواجب أو تلافيناه, فسنكون قطعا كالقوم السفهاء الذين يتنكرون لذاكرتهم, لكينونتهم, للفاعلين الصامتين الذين وظفوا الكلمة, ورفعوا لواء الصوت والصورة لإزاحة بعض من القبح من حولنا, ولرفع منسوب الجمال من بين ظهرانينا. إن خالد مشبال ومحمد بن ددوش ومليكة الملياني وأحمد الريفي ورشيد الصباحي, ليسوا ولم يكونوا يوما ملكا لذواتهم. إنهم ملك كوني غير قابل للتصريف. أن نعمد لتكريمهم اليوم, وبعضهم بأرذل العمر, هو بالبداية كما بالمحصلة النهائية, اعترافا حقيقيا من لدننا بمدى وقوة ما قدموه لنا, دونما أن يشترط أحد منهم مقابلا مباشرا لأتعابه . وهل يخضع ما قدموه لنظرية القيمة, حتى يكون بالإمكان احتساب ذات الأتعاب؟ تقديم لكتاب تكريمي لخمس رواد بالإذاعة والتلفزة المغربية مراكش, 17-20 يناير 2008