بصيف العام الماضي, صيف العام 2007, أعفي فؤاد علي الهمة من مهامه كوزير منتدب في الداخلية (أقيل ولم يستقل), أعفي من مهامه الرسمية, ليترشح للانتخابات التشريعية لشهر شتنبر من نفس السنة, دون التدثر بلبوس من ألبسة الطيف الحزبي الموجودة, وليلهف بمعية من ترشحا تحت يافطته, المقاعد الثلاثة بالدائرة التي بها ولد, ولا يزال له بحدودها, بعض من الأهل والأحباب والأصدقاء. "" لم تراودنا في حينه أدنى ذرة شك, في احتمالية فوزه بمسقط رأسه, هو الذي سطع نجمه مباشرة بعد تولي محمد السادس السلطة, وبات من يومه ذراع الملك اليمنى بالملفات الكبرى, المتقادمة منها بأثر رجعي, كما الجارية المستجدة على حد سواء. ولم تراودنا أدنى ذرة شك بالآن ذاته, في أن الرجل سيدخل البرلمان, ويخترق الفرق والكتل ليكون لنفسه فريقا نيابيا, يفسح له في المجال لرئاسة لجنة أو أكثر, يتيح له سبل الإسهام في التشريع, ويعطيه الحق في مراقبة الحكومة, أيا يكن لونها وتوجه مكوناتها. وكذلك كان. فقد تقاطر عليه العشرات من "نواب الأمة", ومن كل الأطياف والمشارب, تقربا من "رجل المرحلة", بحثا عن موطئ قدم صلب, ومراهنة على غنيمة السلطة والثروة, الآتية لا محالة بظل رجل متنفذ, صديق للملك, عارف بدقائق ما يريد هذا الأخير, ومدرك لمفاصل الأمور وخباياها, حتى إذا عينت الحكومة, حكومة ما بعد انتخابات شتنبر, زكاها بقوة, وما كان لقائمتها أن تقوم أو أن تستمر لولا تزكيته لها, تحت مسوغ "المساندة النقدية", الذي بات منذ مدة, شعار من لم يتمكن, أو لم ينل شرف الانضمام للتشكيل الحكومي القائم. بامتداد مباشر لذلك, أعلن علي الهمة شهورا معدودات على دخوله البرلمان, أعلن وجمع من رهطه, جمعية أطلق عليها "حركة لكل الديموقراطيين" (بعدما مهد لها بنداء "من أجل وعي ديموقراطي متجدد") استقطب لها وزراء (حاليين وسابقين), ونقابيين, ورجال أعمال, وصحفيين, ووجوها من اليمين واليسار عاطلة, ومن نكرات "المجتمع المدني" أيضا, وأسماء من مشارب سياسية وإيديولوجية متباينة, وانتماءات فكرية مختلفة, وأبقى بعد كل ذلك, الباب مفتوحا واسعا لمن يريد الالتحاق بالمولود الجديد. تقول أرضية الجمعية, كما تداولها الإعلام: إن من أهدافها "العمل بإصرار على استنفار كل الهمم وكل الإرادات، قصد إحداث قطيعة مع واقع السلبية واللامبالاة، وخلق الشروط الضرورية لاسترجاع الثقة في نبل العمل السياسي, وأهمية الانخراط الملتزم والواعي, لأكبر عدد ممكن من المواطنين في المجهود الجماعي, بهدف رفع تحديات التنمية، وبناء شروط المشاركة الواعية, ونصرة وتحقيق الاختيارات الوطنية الأساسية". وتتابع ذات الأرضية: إن " هذه الاختيارات تتمثل على الخصوص في تحصين البناء الديمقراطي, وتدعيمه بالإصلاحات المؤسساتية والدستورية الضرورية، بما يلزم من المقومات لإحقاق العدالة الاجتماعية, وبناء دولة الحق والقانون". إن الأمر هنا إنما يتعلق "بكسب رهانات التنمية المستدامة, عن طريق نهج الحكامة الجيدة, والانخراط المسؤول والواعي للمواطنين في تحديد برامجها وتنفيذها, وتقييم نجاعتها, ومراقبة مردوديتها، وإعادة صياغة المنظومة التربوية والتعليمية, بما يؤهل البلاد للانخراط في مجتمع المعرفة, وتحصين المشروع الوطني الحداثي, عبر تدعيم فضاءات الحرية, وتحرير طاقات الأفراد والجماعات، فضلا عن التشبث بمقومات الشخصية الوطنية الأصيلة، بتعدد وتنوع روافدها, وبانفتاحها على القيم الإنسانية الكونية". أما المنهجية المراد اعتمادها, تقول الأرضية, "فتتوخى خطاب الواقعية والقرب والثقة, والتواجد مع المواطن حيث هو, في واقعه اليومي المعيش, والعمل على تفتق طاقاته الذاتية الخلاقة, بحرية ومسؤولية, واعتماد الاستمرارية والإنصات والمداومة على التواصل والحضور القاعدي المتين, مع المواطنين والمواطنات, على كافة المستويات, مع إيلاء الشباب والمرأة أهمية خاصة". أما الإطار المراد الاشتغال في ظله, فتؤكد الجمعية أنه " لن يكون سوى إطارا مرنا للتنسيق، خاضعا في بناء أشكاله التنظيمية لمنطق التدرج, بحسب ما يقتضيه تطور الممارسة الميدانية، مفتوحا على كل الفعاليات والكفاءات, بغض النظر عن انتماءاتها ومشاربها السياسية والجمعوية والثقافية والاقتصادية، إطارا يساهم كل العاملين تحت سقفه, في انتفاضة مواطنة مسؤولة, ترمي إلى إطلاق ديناميكية وطنية جديدة, من أجل مغرب الحداثة والتقدم والانفتاح". وتضيف: إنها " مبادرة مفتوحة لكل الديموقراطيين المغاربة، داخل الوطن وخارجه، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الجمعوية أو غيرها, حافزهم المشترك هو النضال من أجل ترسيخ وتطوير المكتسبات الوطنية, وتحصينها من كل أخطار التراجع والإحباط", وهي " دعوة لبعث حركة لكل الديموقراطيين المغاربة, من أجل كسب رهان الحداثة والتقدم والازدهار, خدمة للوطن والمواطنين". وهذا يتطلب, تقول الأرضية, توافر "رؤية شاملة, تثري وتغني الخطوات الهامة, المحرزة على درب بناء المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي". إننا, يقول المؤسسون, بصدد "تأسيس فعل تاريخي", وإن "حركة لكل الديمقراطيين لن تكون مجرد حزب يضاف إلى قائمة الأحزاب, بل تطمح لتكون أكثر من ذلك, مساهمة في إنجاح هذه القفزة النوعية التاريخية, التي ينخرط فيها مغرب القرن الواحد والعشرين". ليس لدينا أدنى اعتراض على الجمعية, ولا على أهدافها, ولا على طموحاتها أو غاياتها, فذاك حق الهمة ورهطه دون منازع. وليس لدينا أدنى تحفظ ذاتي على طبيعة خطابها, ولا على المرجعية التي تنبني عليها, فذاك حقهم أيضا, لا يمكن للمرء المزايدة عليهم فيه. إلا أن الذي يثير التحفظ لدينا حقا, لدرجة الحنق ربما, إنما السياق العام الذي أفرز الجمعية (و"ظاهرة" علي الهمة عموما) ودفع بها, بمنطق في التدرجية واضح, لأن تبرز للسطح في زمن قياسي ندر مثيل له, اللهم إلا تجربة رضا كديرة وأحمد عصمان والمعطي بوعبيد, سبعينات وثمانينات القرن الماضي: + فهي أتت في سياق ترتيبات "عهد جديد", ضاق ذرعا بأحزاب ونخب سياسية طاولها التقادم والعجز, وأضحت مادة للاحتجاج والانفجار من داخلها, ولم يعد من بين يديها ولا من خلفها ما تقدم أو تؤخر, بل أدرك ذات العهد أن الأحزاب والنخب إياها أدمنت المناصب, وباتت تتصارع على كراسي الاستوزار, ولم يعد من بين ظهرانيها ما يمكن التعويل عليه حقا, للدفع بحاضر المغرب أو بمستقبله. لم تكن نسبة مقاطعة انتخابات السابع من شتنبر (وقد تجاوزت في حجمها ثلث أرباع الكتلة الناخبة), لم تكن حدثا عرضيا عابرا, بل كانت تعبيرا بنيويا قويا عن الكساد السياسي الواسع, الذي ترتب عن سنين من الاحتراب بين أطراف لعبة ملغمة, هدأت تجربة التناوب من مداه, لكنها لم تفلح في معالجة مظاهره أو مداواة أسبابه, لأنها راهنت على "الإصلاح من الداخل", فأدركت أن سماكة المنظومة تشهر المقاومة بوجه من اقترب, وترفع لواء التمنع لمن تطاول أو تجرأ. هو معطى (معطى المقاطعة أعني) كان الهمة ضمن سياقه, لكنه استطاع البناء عليه وتوظيفه بقوة, للقول بعبثية الاستمرار في فعل سياسي متقادم, متجاوز, مطعون فيه شعبيا, ولن يكون بمقدوره بالتالي رفد "المشروع الحداثي الديموقراطي" الذي رفعه الملك من مدة, ولا يزال يذيل به معظم خطبه وتصريحاته. + وهي (الجمعية أقصد) لم تطعن في الحزبية, ولا زايدت على التعددية, لكنها (وهي المتوجهة حتما صوب تأسيس حزب سياسي) زعمت أن القطبية (إذا كان ثمة قطبية حقا بالمغرب) لم تعد ذات جدوى في ظل "التحديات" القائمة والقادمة, وأن رفع هذه الأخيرة لا يمكن أن يتم إلا في إطار سياسي واسع أوسع, لا يعير اعتبارا لتصورات ذات اليمين أو تمثلات ذات اليسار, بل لمجمل الأفكار القابلة للتطبيق على أرض الواقع, القادرة على "تجنيد الطاقات واستيعاب الكفاءات". ليس من هم الجمعية إذن أن تتموقع هنا أو هناك (على الأقل بالوقت الحاضر), الهم الأكبر لديها إنما ترجمة "المشروع الحداثي الديموقراطي" الذي ينادي به الملك, واعتباره مكسبا, المفروض صيانته, بل وحمايته ضد من "يستهدفونه", أفرادا كانوا أم جماعات. وعلى هذا الأساس, فالمرجعية قائمة لا يجب الحياد عنها, وإطار الاشتغال واضح لا لبس فيه, والتوجه ثابت لا محيد عنه, اللهم إلا الانتكاسة و"التفريط في المكتسبات", تقول ورقة الجمعية جهارة. قد يبدو أن التوجه سليم إلى حد ما, تماما كما هي سليمة فرضيات الانطلاق وأدوات الاشتغال, إذ المشهد السياسي بالمغرب بات منذ السابع من شتنبر من العام 2007 ومن قبل ذلك أيضا, مقرفا لحد الضجر كما يقال, والأحزاب باتت بالجهة المعاكسة لأوضاع الشعب, والآليات (في التحالفات الحزبية, كما في مطابخ تشكيل الحكومات) طاولها النفاق والمجاملة والمصالح الذاتية الجلية الواضحة, والأفق أضحى سوداويا قاتما بكل المقاييس, لا بل وينذر بكارثة قادمة محتملة, إذا لم يتم تدارك الوضع بسرعة. وقد يبدو أيضا أن تقييم الحاصل ليس مجانبا للصواب بالمرة من لدن الجمعية, إذ باتت الأحزاب والملل والنحل تتناحر على السلطة, المفضية حتما لغنيمة الثروة, تماما كما تتناحر الضباع على الفريسة, أو على ما تبقى من فتاتها وفضلاتها. لكن المبادرة (مبادرة الهمة ورهطه) لا ولن تخرج بدورها عن ذات المنطق, منطق التكالب على مفاصل السلطة والثروة, بمداخل قد تبدو للوهلة الأولى صافية مترفعة, لكنها لن تفتأ مع الزمن أن تنجلي, تماما كما انجلت بسرعة شعارات براقة, حملتها تجارب شبيهة بالربع الأخير من القرن الماضي: + فالجمعية (ثم الحزب) لن تستطيع بكل الأحوال التخلص من سمة ومواصفات مؤسسها, الحامل للوائها, وهو بالبداية وبالمحصلة الحامل لمشروع الملك, المدافع عنه بالنواجد, أي الحامل لمشروع المؤسسة, الذي هو إبنها الشرعي بامتياز. سيتدثر دائما خلفها, لا بل إن ما صدر عنه أو سيصدر, سيكون كما لو أنه يصدر عن المؤسسة إياها بالجملة والتفصيل. من يا ترى سيزايد عليه إن لمح, مجرد التلميح, إلى أن قضية ما أو مشروعا أو تصورا, نابع من المؤسسة الملكية, أو تمت استشارتها فيه, فاستحسنته أو عطفت عليه؟ لا أحد, أجزم. ومن يستطيع الممانعة في حال ما إذا دفع بمقترح بالبرلمان مثلا يستشف منه, مجرد الاستشفاف, أن المؤسسة إياها خلفه؟ لا أحد, أستطيع الجزم دون تحفظ أيضا. قد لا يكون في ذلك بأسا كبيرا, لكن البأس كل البأس إنما يأتي من الطبيعة الفردانية الكامنة بصلب العملية برمتها. فهي محكومة بفرد وبمؤسسة ثاوية خلفه, وبمجرد ذهاب صاحبها (بسبب من الموت, أو جراء غضب محتمل عليه من ذات المؤسسة), سينفرط عقد الجمعية/الحزب, وتتحول إلى خراب, ويعود كل منتم إليها إلى المصدر الذي أتى منه, إذا لم يطاوله الغضب بدوره فيعتكف بمنزله, أو بأحسن الأحوال, يحول اهتمامه لتدوير ما أدركه من مغانم ومصالح. + والجمعية امتشقت من كل معين ومشرب, المتناسق فيها كما المتعارض, ذي النية الحسنة ربما, كما داهية أكل الكتف, الانتهازي الوصولي كما صادق النية المستقطب, وهكذا. كيف لها أن تستمر وحالة التشظي بادية عليها من البدء؟ كيف لها أن تنطق بصوت واحد, وهي الناظمة مظهريا وبالعمق, للقيط كما للإبن الشرعي, كما للأنصاف؟ لست من المترددين في القول بأن الغنيمة إنما هي اليوم جامعهم الموضوعي المضمر, وهي من هنا عصب توحدهم, ولربما عنصر وحدتهم في المدى القريب أيضا, لكنهم لن يتوانوا, بالمدى المنظور, في إخراج أنيابهم بوجه بعضهم البعض, عندما يشح الزرع وينضب الضرع...أعني عندما تنتهي الوظيفة, ويصبح بلا وظيفة أو شان, من كان بالأصل بدون وظيفة أو شان. إن علي الهمة واع ومدرك لما هو عازم ومقبل عليه, والعديد من الرهط المحيطين به يدركون ذلك جيدا, لكنهم مع ذلك يجارونه, مرضاة مصالح دفينة وبائنة من بين ظهرانيهم. قد لا يستسيغ بعضهم ذلك, وقد يصدم ذلك البعض الآخر, لكن المؤكد أنهم مجتمعون ملتفون حوله, كل لغاية في نفسه, أنا مستعد للقول بأن لا علاقة لذات الغاية, بما ورد بأرضية الجمعية أو ببعض وثائقها. + ثم إن الجمعية تراهن على مجموعة فاشلين من اليمين ومن اليسار, ضاقت بهم السبل والآفاق, ولم تجد طائراتهم المعلقة مهبطا للنزول, فتعلقوا فرادى وجماعات بقشة تضمن لهم سبل النجاة, بمغرب كل النخب المعارضة, ضمنت لها به موقعا بجانب السلطة, فباتت راضية مرضية, ولم يبق للبقية المتبقية إلا الإمساك بآخر القشة, بآخر ما يمكن إدراكه, وإلا فالإقصاء والتهميش إلى ما لا نهاية. يحز في نفسنا ما نراه ونسمعه, وتراودنا نوبات شفقة على شخوص نعرفهم, خلناهم عن سوء تقدير للنيات ربما, منزهين, متعالين, مكابرين, لكن الذي بات ثابتا منذ أسابيع مضت على الأقل, إنما أن المغرب الذي نعرف لم يعد هو ذات المغرب...إن جزءا من هذا المغرب قد قضى, والجزء الباقي ينتظر, ومع ذلك فلن يستطيع الهمة ورهطه, تبديل المتبقي, أعني الممانع الرافض لحركته بالجملة والتفصيل...الممانع الرافض لإيديولوجيا السلطة المتجددة التي يريد إعادة إنتاجها, وتدويرها على النخب كما تدار السلع بالأسواق, بغرض الربح, الربح التجاري الخالص. أنقر هنا لزيارة موقع الدكتور يحيى اليحياوي