في الجزء الأخير من هذا الحوار يحكي محمد بخات عن الزيارات التي كان يقوم بها مطيع للجمعية، والطريقة التي تم بها إجهاض رصيد من العمل الدعوي كونته هذه الجمعية، فيكشف عن المعاناة التي تعرض لها في المعتقل هو وأعضاء مكتب الجمعية، إذ كان رجال الأمن يسمون الجمعية بالعصابة ومحمد بخات برئيسها،كما يوضح الأسباب التي جعلت أعضاء مكتب الجمعية يقررون حل الجمعية بعد خروجهم مباشرة من المعتقل بحكم أنك سبقت إلى كتابة المقالات الصحفية، وعقدت اتصالات متعددة مع مجموعة من المجلات المشرقية، ألم تفكر في خوض تجربة صحفية في المغرب؟ لم أفكر في هذا الأمر لأني لم أكن أملك شروطه ومقتضياته، ولذلك، كنت أكتفي بكتابة المقالات والمشاركة بإسهاماتي الفكرية في العديد من المجلات. وللإشارة، فقد حدث أن طلب مني عبد الرحيم بن سلامة رئيس جمعية التضامن الإسلامي في إطار التعامل بين الجمعيتين أن أكون مدير لجريدةالجهاد، وقد ساعدته في هذه الجريدة، وصدر منها العدد الأول والثاني وربما الثالث، واضطرت إلى التوقف، وكان ينقص هذه الجريدة مجموعة من الإمكانات، وكانت تتطلب في الحقيقة مجهودا وخاصا وكبيرا، ولم أكن في إمكاني أن أتحمل هذا المجهود، لأني كنت مسئولا عن الوالدين ولم يكن لي الوقت الكافي للسهر على الجريدة، فكان أن اعتذرت للأخ عبد الرحيم بن سلامة وتوقفت الجريدة إثر ذلك. هل يمكن أن تذكر لنا العلماء الذين استضافتهم الجمعية في أنشطتها؟ لم تكن إمكاناتنا تسمح لنا بدعوة علماء من خارج المغرب، ولذلك اقتصرنا على دعوة كثير من العلماء والمفكرين المغاربة وكان على رأسهم العلامة محمد خير عرقسوسي والمفكر الإسلامي الكبير المهدي بن عبود رحمه الله، وكان عبد الله اكديرة بصفته ممثلا للجمعية هو الذين يستقبل العلماء الذين يفدون على المغرب من الخراج في زيارات علمية أو زيارات خاصة. هل يمكن أن تحدثنا بالتفصيل عن الابتلاء التي ابتليت به ودخلت بسببه إلى المعتقل؟ كانت جمعيتنا تعتمد على الأسلوب القرآني الذي يعتمد الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، وكان هذا الأسلوب يجد قبولا كبيرا لدى الناس، فيلتفون حولنا شبابا وشيوخا، والحقيقة، أننا كنا نتصرف بنية حسنة، وكنا نستقبل كل الذين يزوروننا ويبدون رغبتهم في التعاون معنا من أجل الدعوة. وكان عبد الكريم مطيع يزورنا، وكنا نستقبله كما نستقبل غيره ممن يبدي تعاطفه مع عمل الجمعية. وأذكر أنه زارني أكثر من ثلاث مرات، وشاركنا مرة في اجتماع خاص بالجمعية، وكان هذا الاجتماع في بيتي هذا الذي أسكن فيه، بل وفي نفس الغرفة التي تحاورني فيها. هل طلب منكم عبد الكريم مطيع شيئا كالتعاون على الدعوة وفق صيغة معينة مثلا؟ كنا نعرف أسلوبه وماضيه الحزبي، وكنا نعتقد أن الرجل ما زال يحتفظ في ممارسته الدعوية بالعديد من المفاهيم اليسارية مثل الإيمان بالعنف والصراع مع السلطة، لكنه حين كان يحضر معنا كان يظهر نفسه كأنه يحب الخير لنا، ويبارك خطواتنا ويشجع كل الأنشطة التي نقوم بها، ولم نكن نتصور أنه يضمر لنا شرا، وكنا في نفس الوقت، مطمئنين أنه لا يمكن له أن يلزمنا بشيء نحن لا نقتنع به، فأسلوبنا في الدعوة كان معروفا ولا يمكن أن نغيره. وماذا كان موضوع الاجتماع؟ كان حديثا عاما عن الدعوة وأحوال المسلمين، وكنا نظن به كل الخير، ونحسبه يعمل من أجل الدعوة، لكن الرجل كان يأتينا بقصد، إذ كان يهمه أن يجمع الأخبار عنا، فلاحظنا من خلال زياراته لنا كأنه يتجسس علينا ويريد أن يبدي التعاون معنا لكي يخلو له الجو لاستقطاب كل الذين يأتون إلى الجمعية، وقد وصله أمر الإقبال الكبير الذي عرفته أنشطتنا، وتعرف علينا عن قرب، وأحكم خطته لاستثمار رصيد الجمعية لحسابه الخاص، وأذكر أن رشدي الصديقي وهو أحد المعتقلين الستة الذين اعتقلوا وقتها على خلفية المنشورات كان يعترف لي بطريقته الخاصة، إذ كان لا يقوى على الحديث، فيكتفي بالإجهاش بالبكاء، وقد تحسر في المعتقل على ما اقترفه هو وبقية الستة في حقي من ظلم، لأنهم قالوا لرجال الأمن حين ضبطوا إن المسئول عن توزيع المنشورات هو محمد بخات، فجاء رجال الأمن إلي مباشرة يوم الجمعة 62 يونيو 6791, وكنت أتهيأ لصلاة الجمعة في مسجد الأزرق، وطرقوا باب بيتي فخرجت، فبدا لي شخص تظهر على وجهه علامات الشر، فلما أراد أن يأخذني بعنف إلى السيارة رفضت ذلك، فقال لي إن معه أمرا بالقبض علي، فطلب منه الوالد الإدلاء باستدعاء الضابطة القضائية فرفض أن يدلي بها، فلما دخل الوالد إلى غرفة نومي ليحضر لي ملابسي، أخرج هذا الرجل مسدسا، وأشهره في وجهي وهددني بإطلاق الرصاص علي إن لم أركب معه في السيارة، فقلت له :أتشهر المسدس على رجل بدون سلاح لم يقترف جريمة ولا ذنبا؟ والغريب أنه فعل ذلك أمام مرأى من الناس لأن الساعة وقتها كانت الحادية عشر نهارا، فطلبت منه أن يرجع المسدس إلى غمده حتى لا يشهر بي أمام الناس فيعتقدوا أن ورائي شيئا عظيما، وقلت له : مثلي لا يرفع عليه مسدس، فأنا لا أذبح حتى دجاجة (يضحك الأخ محمد بخات) وركبت معه السيارة واقتادوني إلى قسم الشرطة المركزي بالرباط. كيف مر التحقيق؟ وما هي بالتحديد الأسئلة التي وجهت إليك؟ كان التركيز على المنشورات، وهل لي صلة بها، وكنت أنكر أية صلة لي بهذه المنشورات،وكان مما قلته لهم إني لم أومن قط في يوم من أيام حياتي بأسلوب المنشورات في الدعوة إلى الله وكيف كان رد فعل المحقق وأنت تنكر صلتك بالمنشورات؟ كان حامد الخلطي يضربني حين لا تعجبه أجوبتي، وكأنه كان ينتظر مني أن أعترف بشيء ليس لي به أي صلة. تقصد محمد الخلطي.؟ كان يقال له في المعتقل حامد الخلطي. وهل خضعت للتعذيب؟ مارس علي حامد الخلطي كل أنواع التعذيب حتى أعترف، ولم يبق له إلا الصعق الكهربائي، وأذكر أنهم عزموا على تعذيبي به وأعدوا كل شيء، وجهزوا الغرفة، وهيئوا الأسلاك الكهربائية، وبدأت أشعر بشرارات الكهرباء تنبعث أمامي، لكن من لطف الله تعالى أن فتح الباب في تلك اللحظة، ودخل علينا شخص لا أذكر من هو ولا أعرف ملامح وجهه، فقط سمعت صوته لأني كنت معصوب العينين، دخل علينا وقال لهم بقوة: ماذا تصنعون بالرجل؟ وصار يسبهم ويشتمهم، وطلب منهم أن يتركوني، وكان ذلك على الساعة الرابعة مساء. أي يوم هذا الذي توقف فيه التعذيب؟ دخلت المعتقل يوم الجمعة، واستمر التعذيب دون توقف إلى يوم الاثنين على الساعة الرابعة مساء، وقال لي حامد الخلطي في المعتقل: هنية عليك، لقد اكتشفت المنشورات وصاحبها والدار التي خرجت منها فسألته من يكون صاحبها؟ فقال لي وجدناها في البيت الذي كان يسكنه أحمد بلدهم، ومن اليوم لن يمسك أحد، ولن تتعرض للتعذيب ثانية. وخرجت من المعتقل. ألم يكن لك لقاء مع أحمد بلدهم في المعتقل؟ لم ألقه، وإنما كنت ألتقي برشدي الصديقي، وكان الذي يواجهني بصفاقة وبجاحة هو خالد الكرييم إذ كان يصر على أنني مصدر المنشورات وأنني الذي كلفته بتوزيعها، وكان رشدي الصديقي يتأسف ويقول لي صراحة: أنت بريء مما نسب إليك، ونحن الذي كذبنا عليك وكان رشدي الصديقي قد تعرض لتعذيب شديد، إلى درجة أنه لم يكن يقو على الوقوف من شدة الألم الذي أصاب رجليه. متى خرجت من المعتقل؟ خرجت قبل عيد الشباب في يوليوز 1976, بعد أن قضيت في المعتقل اثني عشر يوما. ولماذا أبقوا عليك أسبوعا كاملا بعد انكشاف الحقيقة وظهور براءتك لديهم؟ أمسكوني عندهم حتى يتأكدوا أنه لم يبق في جسدي أثر للتعذيب. وكيف وجدت الإخوة المؤسسين للجمعية بعد خروجك من المعتقل؟ وجدت بعض الإخوة غفر الله لهم ومنهم الأخ الزموري يلومني بكل قوة، ويتهمني بأنني كنت السبب في ما لحق بهم من اعتقال. وهل اعتقل كل الأفراد المؤسسين للجمعية؟ كنا في المعتقل قرابة اثنين وثلاثين فردا بما فيهم الإخوة السوريين الدكتور معاد الحفار والأخ محمد لحلو الذين اعتقلوا بتهمة الحضور معنا في أنشطة الجمعية، فاعتقلوا كل الذين كانت تربطهم بالجمعية علاقة قوية سواء كانوا أعضاء أم لم يكونوا كذلك. قلت لك لقد لامني الأخ الزموري واتهمني بأنني كنت السبب في اعتقاله، والغريب أنه استنطق فقط ولم يذق شيئا من التعذيب الذي ذقته. وماذا كان مصير الجمعية بعد خروجكم من المعتقل؟ بعد الإفراج عنا أصر الإخوة في المكتب على حل الجمعية. وهل وافقتهم على هذا؟ لم يكن عندي أي اختيار، فما دامت رغبتهم كانت هي حل الجمعية، فكان علي أن أوافقهم، لكن ذلك لم يكن يعني أبدا أن نشاطي الدعوي سيتوقف بتوقف الجمعية، فقد حلت الجمعية، وفتح الله علي بانخراطي في الوعظ والإرشاد، فتحقق تطلعي الذي كنت أحلم به منذ الصغر. كان إصرارهم كبيرا على حل الجمعية، ولم يكن ممكنا أن أبقى وحدي فيها، فوافقتهم على رأيهم رغم أني لم أكن مقتنعا به. هل تأثر هؤلاء بالاعتقال فقرروا هذا القرار؟ أم ضغطت عليهم بعض الجهات من أجل حل الجمعية؟ لم يضغط عليهم أحد، وإنما صدموا بالاعتقال لأنهم لم يفعلوا شيئا، والغريب أن حامد الخلطي وجماعته كانوا ينادون علي في التحقيق برئيس العصابة فكانوا يعتبرون جمعيتنا عصابة، وكان مما قاله لي الأخ عبد الله اكديرة وهو يشرح لي السبب الذي جعله يقتنع بحل الجمعية: أتذكر ماذا كان يقال عنك وعن الجمعية، كانوا يسمون الجمعية عصابة، ويعتبرونك رئيسها وأتذكر أنه لما صدر الأمر بالإفراج عنا قال لي حامد الخلطي غفر الله له: الآن يمكن لكم أن تستأنفوا نشاطكم في الجمعية، فجمعيتكم قانونية فرددت عليه: كيف تقول إن عندنا جمعية وكنت طوال التحقيق تسمينا عصابة؟ والحقيقة أن الإخوة أثرت فيهم هذه التهمة وهذه السبة، فأصروا على حل الجمعية. وكيف اختار محمد بخات مساره الدعوي بعد هذا الابتلاء؟ في سنة 1979, اتصلت بناضر الأوقاف، وكان يعرفني ويعرف أنشطتي، وكلمته في الموضوع، وأعطاني رحمه الله رخصة للقيام بالوعظ والإرشاد متطوعا بمسجد الأزرق، وبقيت على هذه الحال إلى سنة 1981 السنة التي أسس فيها المجلس العلمي بالرباط، إذ بعث إلي الشيخ المكي الناصري رحمه الله بواسطة مولاي هاشم العلوي الذي كان وقتها نائب الناضر، فاتصل بي وقال لي إن الشيخ المكي الناصري يريدك، فقمت بزيارة الشيخ المكي الناصري في بيته بأكدال فلم يسألني عن مستواي العلمي، إنما قال لي: إننا نسمع كثيرا عن أنشطتك، فإذا كان من الممكن أن تتعاون معنا في إطار المجلس العلمي في الوعظ والإرشاد فقلت له: إذا ارتأيتم أني أصلح لذلك فعلى بركة الله وفي نفس السنة أي 1981 طلب مني من قبل الناضر أن أعمل خطيب جمعة في مسجد الحي الجامعي في السويسي، فبدأت بصفة رسمية كخطيب من ذلك التاريخ إلى الآن. هل تذكر محطة أخرى في مسارك الدعوي؟ كان الشيخ العراقي الذي أشرت إليه في الجزء الأول من هذا الحوار يقول لنا في الجلسات الإيمانية التي كنا نحضرها معه أن الداعية الحقيقي هو الذي يلتزم بما يقول، ولا يكون سلوكه مناقضا لقوله، فمن ذلك التاريخ وأنا أجعل هذه الكلمات شعاري الذي ما زلت أعمل به إلى الآن، فالداعية هو الذي يعمل ولا ينتظر النتيجة ولا يفكر فيها ولا يستعجلها، وهذا للأسف ما ينقص كثيرا من الدعاة. وحين قام المجلس العلمي بتكريمي وكتبوا عني الأستاذ الفقيه محمد بخات، لم تعجبني هذه العبارة، وقلت لهم إني لست فقيها، فأنا خطيب جمعة، وكنت أفضل أن يكتبوا الداعية بدل الفقيه. فالداعية هو الوصف الأنسب الذي أحبه، وقد كنت كما يحكي لي من عايش جزءا من طفولتي، أني كنت أحمل مواصفات الداعية منذ صغري، فالداعية يحتاج إلى الرزانة والتبصر، وإذا أراد أن يدعو، فمن منطق الحب لمن يدعو وألا يستعمل العنف وأن يلتزم بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤذى ولا يؤذي أحدا. في الأخير، قلت تعليقا على ما نشره الأخ أحمد المشتالي في شهادته التاريخية إن بعض المعلومات الخاصة بكم والتي وردت في حواره غير صحيحة، كي توضح؟ الأمر يتعلق بما قيل بأني بلغت عن أفراد، أنا ما بلغت بأحد. جاء في الرواية أنك اعتقلت وبلغت ببعض الذين كانوا يصلون معك في المسجد، وصادف أنهم كانوا أعضاء في جماعة التبين؟ لقد طلبوا مني أسماء أعضاء الجمعية وهو معروفون، وهم الذين اعتقلوا، أما كوني بلغت بأحد فهذا غير صحيح ولا يمكن أن يصدر مني، وهو محض افتراء علي، وكما ذكرت لك فقد لامني الأخ الزموري وقال لي أنت السبب في اعتقالي، فقلت له : ألا تريد أن تمتحن في سبيلا الله؟ ألم تقدموا لهيئة الإنصاف والمصالحة ملفا حول الضرر الذي لحقك من هذا الاعتقال والتعذيب الذي تعرضت إليه؟ نصحني أحد الإخوة من مكتب الجمعية وكان معتقلا معي أن أضع ملفي لدى هيئة الإنصاف والمصالحة قصد نيل التعويض عن الضرر، فرفضت الفكرة من أصلها وقلت له هذا ابتلاء في سبيل الله وما عند الله خير وأبقى. ابتلينا في سبيل الله، والحمد لله، وغفر الله لمن كان سببا في إذايتي وتعذيبي، وغفر الله أيضا للإخوة الذين تسببوا في اعتقالي، وقد أخبرت مؤخرا بأن الأخ أحمد بلدهم يريد زيارتي من أجل الاعتذار، فأنا أنتظر زيارته، ومرحبا به.