تبدو معركة الفلوجة الثانية أكثر أهمية من المعركة الأولى التي وقعت في إبريل الماضي، والتي انتهت بتسوية معروفة شكّل على إثرها ما عرف بلواء الفلوجة المكلف حفظ الأمن في المدينة، وهي التسوية التي بدت للمراقبين نوعاً من الانتصار السياسي للمقاومة. لعل مصدر الأهمية الأبرز للمعركة الجديدة هو وقوعها بعد مرحلة تصعيد غير مسبوق في أعمال المقاومة حيث غدا معدل العمليات اليومي يتراوح باعتراف الأميركان بين ستين وثمانين عملية في اليوم الواحد، فيما بدا أن عدد المنخرطين في فعالياتها قد تجاوز رقم العشرة آلاف مقاتل ومساند، إلى جانب توفر حاضنة شعبية واسعة في عدد كبير من المدن، على رأسها الفلوجة وبغداد والرمادي وسامراء وبعقوبة والموصل. في ضوء المعطيات العسكرية والسياسية والإعلامية المتوفرة كان من الصعب على المعركة الجديدة أن تنتهي بذات الطريقة التي انتهت بها المعركة السابقة، على رغم أن عدد المقاتلين في المدينة هذه المرة كان أكبر، كما أن مستوى البسالة والصمود لم يكن ليقل عن السابق إن لم يزد على نحو لافت. في المعركة الجديدة كان ميزان القوى مختلاً تماماً لصالح الاحتلال على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والإعلامية. فمن الجانب العسكري حشدت قوات الاحتلال ما يكفي لاحتلال دولة بل ربما دولاً بكاملها حول مدينة لا تتعدى مساحتها ستة عشر كيلو متر مربع، يدافع عنها أقل من ألفي رجل. عشرون ألف مقاتل مدججون بأقوى الأسلحة، تدعمهم الدبابات والطائرات في مواجهة ما لا يزيد عن ألفي مقاتل لا يملكون غير الرشاشات والقاذفات اليدوية متواضعة التأثير. والأسوأ هو سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها قوات الاحتلال، وحيث لا يتم التقدم إلا بعد تدمير المباني التي يتحصن فيها المقاتلون، وهو ما بدا سهلاً بعد أن شنت قوات الاحتلال ومعها الحكومة المؤقتة حرباً نفسية نجحت من خلالها في تهجير الغالبية من سكان المدينة، الأمر الذي جعل القصف الجوي أكثر سهولة على مباني قد لا تؤوي الكثير من المدنيين، مع أن ذلك لم يكن مضموناً بدليل العدد الكبير من القتلى في صفوفهم. لم يكن ذلك هو كل شيء، فمن أجل ترتيب معركة من دون شهود ولا ضجيج بادرت قوات الاحتلال إلى إخراج وسائل الإعلام من المدينة، واكتفت بالإعلاميين الذين ساروا في ركابها، ولم ينجح نداء "مجلس شورى المجاهدين" في استقطاب الإعلاميين لدخول المدينة ومن ثم توفير رؤية أخرى لما يجري. لا خلاف على أن لتغييب وسائل الإعلام بعد سياسي أيضاً، لكن هذا البعد (السياسي) في تجلياته الأبرز كان يسير لصالح الاحتلال من مختلف الجوانب؛ الداخلية العراقية، والعربية والدولية. فعلى الصعيد الأول كانت الحرب قد شنت بغطاء سياسي من الحكومة العراقية المؤقتة، والأسوأ بمشاركة من قوات الحرس الوطني التابعة لها، الأمر الذي لم يتوفر في المعركة الماضية، في حين كانت معظم القوى السياسية الشيعية والكردية، بل وحتى المراجع الدينية، على علم بما سيجري، فضلاً عن الدعم وأقله السكوت، اللهم باستثناء التيار الصدري الذي وقف ضدها، ومعه بعض السياسيين الآخرين في الساحة الشيعية مثل الخالصي والبغدادي والحسني، لكن وضع التيار الصدري في المرة السابقة كان مختلفاً، إذ كان يخوض معاركه الخاصة؛ السياسية وحتى العسكرية مع قوات الاحتلال. والخلاصة من ذلك كله هي أن الأوضاع الداخلية العراقية كانت مهيأة للعملية من زاوية نظر قوات الاحتلال والحكومة المؤقتة. الموقف العربي هذه المرة كان بائساً، سيما على مرمى أسبوعين من مؤتمر شرم الشيخ الذي قدم دعماً استنائياً لحكومة علاوي ومسار الانتخابات التي يفترض أن تجرى في شهر كانون ثاني/ يناير المقبل. وقد رأينا كيف اكتفى وزير خارجية أكبر دولة عربية بمطالبة الأميركان بالحرص على حياة المدنيين في المدينة، فيما لم يجر التفريق في أوراق شرم الشيخ بين المقاومة والإرهاب، بل إن المضمون قد اعتبر كل ما يجري من عنف محض إرهاب مدان!! الموقف الدولي كان متراجعاً هو الآخر، إذ لم نسمع سوى تصريح خجول من طرف الصين، فيما التزمت فرنسا الصمت. وفي العموم وبعيداً عن التصريحات العابرة فإن المواقف العربية والدولية قد تراجعت على نحو لافت للنظر خلال الشهور الأخيرة، أكان بسبب الضغوط أم بسبب المقاربة السياسية الخائفة من المد الشعبي العربي الذي يمكن أن يطلقه انتصار المقاومة العراقية، ومعه خوف الأوروبيين من هزيمة الولاياتالمتحدة على يد قوىً تصعب السيطرة عليها. وقد جاءت قمة شرم الشيخ لتؤكد معادلة التراجع المشار إليها. نأتي هنا إلى نتائج المعركة التي لا يمكن قراءتها من دون معرفة الأهداف التي وضعها المحتلون ومعهم الحكومة المؤقتة لها، والتي يمكن تلخيصها في هدفين اثنين؛ الأول وهو ضرب خيار المقاومة في مدينته الرمزية وفي منبته الأصلي وموئل الدعم الدائم له، فيما يتمثل الثاني في محاولة توفير الأجواء المناسبة لإنجاح الانتخابات المقبلة. على الصعيد الأول يمكن القول بكل بساطة إن احتلال الفلوجة لن يشكل ضربة لخيار المقاومة بحال من الأحوال، حتى لو استشهد جميع المقاتلين فيها، مع أ، ذلك لم يحدث حيث انتقل كثير منهم إلى مواقع أخرى، وقد يعودون لاحقاً. فمن ناحية المدينة ذاتها من المرجح أن موقفها سيغدو أكثر تشدداً حيال الاحتلال والحكومة المؤقتة، سيما بعد مشاركة هذه الأخيرة المباشرة في المعركة، الأمر الذي سيزيد في عدد المنخرطين في برنامج المقاومة، في حين ستغدو المواجهة التالية أكثر سهولة بوجود الاحتلال داخل المدينة، كما يحدث في الرمادي والموصل والمدن الأخرى. أما المقاومة عموماً فقد جاءت تأثيرات المعركة عليها سريعاً، بل أسرع مما يتوقع، فقد اشتعلت المدن الأخرى على نحو غير مسبوق، وصرنا نشهد معارك جماعية وليس مجرد كمائن وحركة مجموعات صغيرة، والخلاصة هي أن المقاومة قد زادت وستزداد قوة بعد ما جرى، سيما في ضوء ما وفرته من فضاء شعبي داعم لخيارها في مختلف المناطق السنية. بالنسبة للانتخابات، يبدو مؤكداً أن فرص نجاحها قبل معركة الفلوجة كانت أفضل، ليس لذات السبب السابق ممثلاً في منحنى المقاومة، ولكن أيضاً، وهذا هو الأهم، بسبب أن جزءً من العرب السنة كانوا قد قرروا المشاركة فيها، كما هو حال الحزب الإسلامي الذي سبق وشارك في مجلس الحكم والمجلس الوطني، لكن معركة الفلوجة قد حسمت المواقف إلى حد كبير، فقد دعت هيئة علماء المسلمين، التي تشكل المرجعية الحقيقية للسنّة إلى المقاطعة، فيما هددد الحزب الإسلامي بالانسحاب من العملية السياسية، لكن تجاوزه للأزمة لاحقاً ومشاركته في الانتخابات لن تغير كثيراً في الموقف بقدر ما ستضرب ما تبقى له من مصداقية في الوسط الشعبي. أما الأهم فهو انضمام المشاركين فيما يعرف بالمؤتمر التأسيسي لمقاومة الاحتلال الأميركي في العراق إلى دعوة المقاطعة، وهؤلاء ليسو هامشيين، سيما وأن من بينهم شيعة وأكراداً وتركمان ومسيحيين. هناك تداعيات أخرى لا تقل أهمية عن ذلك كله، لعل أهمها ذلك الشرخ العميق الذي وقع بين الحكومة المؤقتة وبين الشارع السني، وهو الشرخ الذي سيلقي بظلاله على المرحلة المقبلة، سيما في ظل لجوء كثيرين إلى المساواة بينها ومعها حرسها الوطني وبين الاحتلال. ثمة شرخ آخر خطير يمكن القول إنه قد تعمق كثيراً بعد معركة الفلوجة، أعني ذلك الشرخ بين العرب السنة من جهة وبين الشيعة والأكراد من جهة أخرى، والشكر لا بد أن يزجى هنا للتيار الصدري وآخرين ممن أشرنا إليهم سابقاً، فقد ساهموا في تعديل المسار قليلاً بموقفهم الجيد من المعركة، الأمر الذي لم يتوفر في الحالة الكردية من قبل التيار الإسلامي الأكبر هناك (الاتحاد الإسلامي)، وفي العموم فإن من غير العسير القول إن العرب السنة قد أصبحوا أكراد هذه المرحلة، وربما شيعة المرحلة الماضية، حيث سيكون بوسعهم الحديث عن القتل الهمجي والمقابر الجماعية على نحو صريح، وفي العموم فإن الدم هنا يظل طازجاً قياساً بالحكايات القديمة. ثم إن الحكم الذي كان يرتكب المجازر بالنسبة للآخرين هو حكم عراقي وطني يقاتل متمردين عليه، بصرف النظر عن مستوى دمويته أو الموقف منه، أما هنا فالموقف أكثر وضوحاً من حيث كون القتلة محتلين يساندهم آخرون من أبناء الوطن لاعتبارات غير مقنعة بحال. ولعل الحديث عن طائفية المقاومة في هذا المقام لا يبدو ذا قيمة، فالمقاومة في جنوب لبنان كانت طائفية، لكن أحداً لم يعب ذلك على حزب الله، فضلاً عن أن الحزب لم يطالب بحصة أكبر للشيعة في الكعكة السياسية بعد الانتصار الذي حققه. أما المحتلون أنفسهم فسيتمتعون بعدما جرى بالمزيد من الكراهية في الشارع العربي والإسلامي، ومعلوم كيف تترجم تلك الكراهية على أرض الواقع، سيما في ظل مشاهد القتل الهمجي التي نقل أكثرها صوتاً، فيما غابت صورة بسبب إجراءات الاحتلال. في ضوء ما ورد سابقاً يمكن القول بكل بساطة إن معركة الفلوجة، وفي ضوء ميزان القوى المختل، قد شكلت إنجازاً عسكرياً للمقاومة، بما انطوت عليه من بطولات رائعة غيبها الإعلام، فيما فضحتها أرقام القتلى والجرحى الأميركان، على رغم أن أحداً لم يقتنع بأنها أرقام حقيقية، كما كانت المعركة انتصاراً سياسياً للمقاومة، مقابل خسارة سياسية متعددة الجوانب للاحتلال والحكومة المؤقتة، كما أشير سابقاً، فضلاً عن الفضائح الكثيرة التي رافقتها مثل الممارسات الهمجية لجنود الاحتلال، ومعها عبثية قصة المقاتلين العرب الذين ثبت أنهم أقلية في المدينة لا تساوي 5% من المقاومة. وقد تأكد ذلك كله على رغم ظاهر الانتصار باحتلال المدينة التي كان فيها الزرقاوي ثم تبخر منها سريعاً، ربما ليشكل ذريعة للهجوم على مدينة أخرى!! ياسر الزعاترة - كاتب فلسطيني