بعد أن أوضح الدكتور مصطفى بن حمزة في الحلقة السابقة مسألة ارتباط الأخلاق بالآخرة، من خلال التعرف على مقام المقربين عند الله تعالى، يبسط في هذه الحلقة صفات هؤلاء المقربين، وأسباب تقسيم الله عز وجل بين أصحاب الخير. التحفيز على المنافسة المقربون هم أعلى درجة من أصحاب اليمين، وإن كانوا كلهم من أهل النجاة، فالمقربون بذلوا كل ما في وسعهم لتحقيق رضى الله عز وجل، وهذا التقسيم بين أصحاب الخير هو تحفيز على المنافسة، لأن الجنة درجات وأعلى درجاتها الفردوس. والإسلام يصنع في النفوس الطموح نحو الأفضل و الأعلى في أمور الدين، وترجع سلبية المسلم اليوم إلى تكوينه المعوج واقتصاره على الضروريات من الدين وعدم طموحه للأحسن، وهذا خلاف ما كان عليه السلف، فقد دخل الناس يوما على البيروني عند احتضاره، فقال لهم: لقد أشكل علي أمر الجدات الفاسدات (والجدة الفاسدة هي أم الأم)، فقالوا: لما خرجنا من بيته سمعنا صراخا فتأكدنا من موته.وكان الرجل يبدأ رحلته من خرسان ماشيا إلى أن يصل إلى سلا في المغرب، ليس له من غرض سوى طلب العلم. أما نحن حاليا، فهممنا فاترة، والرجل منا لا يطلب العلم حتى وهو قريب منه، فلو تصورنا أن الجزاء واحد لتساوت الأعمال، لكن ما دام هناك تفاضل في الجزاء، فسيكون تنافس نحو أفضل الأعمال حتى يكون الإنسان في أعلى المراتب ويكون من المقربين. جزاء المقربين ومن أوصاف المقربين أنهم كانوا في ضنك وتعب ومكابدة، فكانت لهم تكاليف، أي ملزمون بما فيه كلفة ومشقة، والمشقة جزء من العبادة. لكن الشرع لا يلزم المسلم بكلفة غير معتادة. أما ما ليس في طاقته فهو غير مكلف به. قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، والحرج مرفوع شرعا. هؤلاء المقربون كانوا في مشقة وتعب، فارتاحوا في الجنة. وإذا أخذنا بقراءة رُوح، فهي لها معاني أخرى منها الروح الحقيقية أي لهم روحهم، وريحان أي عطر يعطر المكان، وقال بعض المفسرين أي بمعنى الحياة. فالكفار ليسوا أحياء ولا أموات، وهذه المعاني غير متعارضة، فكلها صحيحة، إذ أن أصحاب الجنة في راحة ورائحتهم طيبة ولهم حياة وروح حقيقية. والمعاني الأربع كلها جزاء للمقربين، والريحان يطلق اختصاصا على نبات أخضر له رائحة طيبة، معروف عند العرب منذ القدم، وكانوا يتخذونه في مجالس الشراب ويضعونه فوق رؤوسهم، وهو جامع لكل الأعشاب ذات الرائحة (والحب ذو العصف والريحان)، والريحان وإن كنا لا نهتم به ولا نقدره قدره فقد جعله الله جزاءا للمقربين. قد يكون المعنى أن أرواحهم مقترنة بالريحان، أي أن لها رائحة طيبة، وروح الكافر منتنة ولها رائحة كريهة. والريحان هو كل نبات له رائحة محببة إلى النفوس، وكان من عادات الناس في المغرب أن الرجل إذا عطر أول ما يفعل هو الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بالروائح الطيبة جزء من ثقافتنا، وهو مظهر من مظاهر التحضر. ومن الجزاء أيضا جنات النعيم، والنعيم بمعنى النعمة في الدنيا وهو دائم متصل بالآخرة (وما بكم من نعمة فمن الله)، (وتسألون يومئذ عن النعيم). جنات النعيم هي متع جسدية، والله بهذا يحفز النفوس على التطلع إلى هذا المقام.