صنف من الناس تجده لا يهدأ له بال ولا يرف له جفن حتى يحقق لنفسه انتصارا مزعوما، فتراه منتشيا بنصره، مزهوا بما حققه، مفتخرا بما كسبه. الأمر لا يتعلق البتةَ بمباراة في كرة القدم أو في المصارعة الحرة، بل هي مبارزة يسعى أحد طرفيها إلى الانتصار لنفسه في الحديث، فيسود الجدال مكان الحق، ويهيمن المراء على المنطق. المجادل تجده في أغلب نقاشاته نافشا ريشه، ناكثا شعره، ورافعا يده، يحاول جهد مستطاعه أن يقنع الآخر بِدُرَرِ رأيه وكنوز معرفته، حتى وإن كان على باطل. المهم لديه، أن يطمس نور الحق ويشيع الخطأ، فقط انتصارا لرأيه، بدعوى أنه حجة زمانه، وفيلسوف عصره، ولا أحد سواه يفهم مثل ما يفهم هو، لأن العقل الذي يمتلكه ما كان ليعرف هزيمة فكرية أبدا. إن الجدال الذي يهدف إلى طمس نور الحق، مرده أساسا إلى تزيين الشيطان للقول الباطل عند المجادل. يقول الله تعالى في سورة الأنعام: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، كما أن الباعث على الجدال والمراء هو اتصاف الإنسان بالكِبْر، مما يمنعه من قبول الحق والعمل به: (إن الذِين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إِن في صدورهم إلا كِبْرٌ ما هم ببالغِيه فاستعذ بِالله إِنه هو السميع البصِير) غافر.56 وأسوأ ما يكون عليه المجادل بالباطل أن يسعى من خلال جداله ومرائه وخصامه إلى التقليل من شأن المُخاطَب، والحط من قدره المعرفي أو قيمته الاعتبارية أمام الحاضرين للجدال الدائر بين الطرفين،. والأسوأ منه أن يوظف نصوصا دينية يلوي أعناقها لَيا كما يشاء هو، فيجعل منها سيفا مسلطا على مخالفه في الرأي أو التقدير ليرهبه بها، أو في أحسن الأحوال لقمع رأيه وأفكاره. وهذا التسفيه لآراء الآخرين، ومحاولة احتكار الحق، والتظاهر بمظهرالعاقل المتميز، علامة على زيغ المجادل عن جادة الصواب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا قوله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، والحديث حسن عند الألباني. كما أن من أبشع صور الجدال والمراء غمط الناس حقوقهم وانتزاعها انتزاعا بلا رادع ولا قانون، تحت ذرائع شتى ومسميات عدة، ما أنزل الله بها من سلطان، كمن يستولي على حق جاره في المسكن أو في الأرض، باستعمال ألوان من الجدال وأصناف من القول المعسل، ولقد حذر الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام من هذا السلوك الخاطئ بقوله: إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار. رواه البخاري. أما الابتعاد عن الجدال السيء فلا يكون إلا بالتخلق باحترام الآخرين وتقدير أفكارهم، والأخذ بما يقولونه مأخذ الجد والاعتبار، ثم نهج سبيل الصمت حين يكثر الجدال المفضي إلى التهلكة، فقد قال الشافعي في إحدى قصائده الجميلة: قالوا: سكتَّ وقد خوصمتَ، قلتُ لهم إن الجوابَ لِبَابِ الشَّرِّ مفتاحُ والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ أما ترى الأُسْدَ تُخْشَى وهي صامتةٌ والكلب يُخْسَى لعمري وهو نباحُ.