المجتمع الإسلامي مجتمع عقدي أو مجتمع إيديولوجيبتعبير مالك بن نبي، وتتحدد العلاقات داخله على أساس أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها وقواعدها الكلية التي أشرنا إلى بعضها، وبهذا التحديد فإن خصائص الوسطية في مجال العقيدة والتصور وفي مجال الشريعة والأحكام تصدق على نظرة الإسلام للبناء الاجتماعي. وإذا كانت الوسطية والتوازنية تعنيان صياغة إنسانية للمجتمع وذلك يعني الاعتراف بالجوانب الإنسانية كلها في تآخ وتكامل،كان من أبرز خصائص المنهج القرآني في علاج القضايا الاجتماعية والاقتصادية أنه لا يقيم البناء الاجتماعي، أو السياسية الاقتصادية على أساس الصراع بين الأفراد أو الطبقات. إنه قبل أن يضع القوانين، وبعد أن يرسي أساس الربوبية، يقيم دعامات أخرى إنسانية تشيع بين الناس أواصر الرحمة، والحب، والتسامح والفضل والتعاون ومراقبة الضمير وخشية الله وإلى غير ذلك من المعانيوتتحدد معالم الصياغة الإنسانية للمجتمع في التصور الإسلامي في عدة جوانب منها: إيمان الإسلام بنظافة الفطرة الإنسانية، وبأنها لم تولد آثمة أو خاطئة، وإنما ولدت كريمة تنزع إلى المثالية، وما يلحقها من عيوب إنما هو حصاد تأثرها بأوضاع غير كريمة في المجتمع. والإسلام يعتمد في تشريعاته على هذا الرصيد الكريم للفطرة ويحاول تحريك الإنسان بالإرادة الذاتية من داخله قبل أن يقوده بسلاسل القانون من خارجه. إشباع الإسلام لكل جوانب الإنسان بالطرق الحلال وتصعيد كل غرائزه وليس كبتها أو حرمانها بالرهبانية المبتدعة أو الزهد الكاذب.... إعطاء الإسلام كل ذي حق حقه، في توازن وبلا إفراط أو تفريط، فللرجل حقه كإنسان وللمرأة حقها وللابن حقه، وللأب حقه، وللأم حقها وللضعيف حقه وللمريض حقه وللعاجز حقه، وللفقراء والمساكين واليتامى والمعوقين وأشباههم من المعوزين حقوق.... إقامة التوازن بين حق الأفراد وحق الجماعة، إذ ليس من حق المجتمع الإسلامي أن يستحل ثروات الأفراد أو يستبد بها..فالظلم ظلم، والتسلط الظالم مرفوض في منطق العدالة الاجتماعية، وبهذا جمعت النظرة الإسلامية بين الفردية والجماعية في وسطية وتوازن، ومنح الإسلام للفرد حقوقه وفرض عليه في المقابل واجبات مخصوصة للجماعة، كل ذلك في مقابل التصورات والمجتمعات التي تطغى فيها حقوق الفرد فتنسحق أمامها حقوق أفراد كثيرين آخرين يمثلون معظم المجتمع، وفي مقابل التصورات والمجتمعات التي تنسحق فيها حقوق الفرد، فينتهي الأمر بالتصورين معا إلى مصير واحد هو سيطرة قلة باسم الفردية أو الجماعية. والوسطية في المجال السياسي هي نتيجة لاصطحاب مقومات وأسس الوسطية كما تم بيانها في المجال العقدي والتصوري وفي المجال التشريعي. ولهذه الوسطية أسس فكرية ترتبط بتصور العلاقة بين الدين والدولة والعلاقة بين الدين والسياسة، كما أن لها جوانب عملية تطبيقية تتجلى في تنزيلها في الوقائع السياسية المختلفة المتغيرة. أما بالنسبة للشق الأول فالفكر الوسطي السياسي يقع بين تصورين: التصور اللائكي المتطرف، الذي يرفض أي شكل من أشكال العلاقة بين الدين والدولة، وبين الدين والممارسة السياسية، وهو تصور يرى بأن الدين هو مجال المطلق وأن السياسة هي مجال المتغير والنسبي، وأن الدين هو شأن اعتقادي فردي وأن السياسة ترتبط بالشأن العام، الذي هو مجال الصراع بين المصالح، وأن الدولة في أقل الأحوال ينبغي أن تكون محايدة وأن لا يكون لها دين، أما التصور الثاني فهو ما يمكن تسميته بالتصور الثيوقراطي للدولة الذي يجعل من الدولة دولة دينية أي دولة تحكم باسم الحق الإلهي، وتتماهى فيه اجتهادات الحاكم مع الدين بحيث تصبح أية معارضة لسياسات الحاكم أو لتدبيره معارضة للدين، أو دولة يتسلط فيها رجال الدين بالمعنى الشائع أي الفقهاء المنقطعون عن علوم العصر وعلوم الدنيا وعن علوم الواقع التي تمكن من تدبير الشؤون اليومية للمجتمع. وعلى العكس من هذين الموقفين المتطرفين في الاتجاهين، فإن فكر الوسطية السياسية يرى أن الدولة في المجتمع الإسلامي هي دولة مدنية لكن مرجعيتها مرجعية إسلامية، وذلك يعني أنها تستند في أسس شرعيتها على الانطلاق من قاعدة دستورية ترى أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأسمى للتشريع بالمعنى الواسع للشريعة أي أحكاما ومقاصدا ونصوصا واجتهادا، فيها استحضار هنا للمعنى الأصولي للنص واستحضار لقواعد الاجتهاد.