انعقد أمس الثلاثاء بشرم الشيخ في مصر المؤتمر الدولي حول مستقبل العراق الذي يستمر حتى اليوم الأربعاء، بعد الاجتماع الذي عقده وزراء الخارجية للبلدان المشاركة يوم الإثنين الماضي. ويبحث المؤتمر الأوضاع الداخلية في العراق وموضوع الانتخابات والديون المترتبة على الحكومة العراقية وقضايا الحدود والوحدة الوطنية . وشارك في المؤتمر المنعقد بطلب من بغداد وبدعم من واشنطن وزراء خارجية عشرين بلدا بينها الولاياتالمتحدةالأمريكيةوإيران، وإلى جانبهم ممثلون عن الأممالمتحدة والاتحاد الاوروبي ومجموعة الثماني الكبرى والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي واللجنة الثلاثية العربية المكلفة بالملف العراقي (البحرين وتونس والجزائر). ويمكن القول بأن المؤتمر الذي جاء وفقا للرغبة الأمريكية في تحصيل نوع من الإجماع حول مستقبل العراق كما تريده لا يشكل أي نقلة نوعية في أوضاع العراقيين تحت الاحتلال، إذ حسب مشروع البيان الختامي المقرر أن يتم الإعلان عنه اليوم، لم يخلص المؤتمر إلى إدانة الاحتلال الأمريكي أو تحديد توقيت معين لخروج القوات الأمريكية والبريطانية من العراق، أو شجب عمليات التقتيل الجماعي التي تنفذها القوات الأمريكية والبريطانية في مدينتي الفلوجة والرمادي، بقدر ما سار في نفس التوجه الذي رغبت فيه واشنطن، وهو إضفاء نوع من الشرعية على الاحتلال وتوجيه الإدانة إلى المقاومة العراقية ونعتها بالإرهاب. البحث عن الشرعية تعود فكرة عقد مؤتمر دولي حول العراق إلى ما قبل الحرب في السنة الماضية، وكانت من اقتراح فرنسا وألمانيا، لكن إقدام الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا على غزو العراق خارج أية تغطية قانونية من الأممالمتحدة دفع فرنسا وألمانيا إلى التراجع لمراقبة الأوضاع عن بعد. وقد ظلت الولاياتالمتحدة تحتل العراق بدون أي سند قانوني، الأمر الذي كان يظهرها بمظهر الدولة المحتلة بالرغم من مشاركة عدد من الدول في القوات المتعددة الجنسيات ضمن ما سماه الرئيس الأمريكي جورج بوش قبل الحرب بتحالف الراغبين. من هنا جاءت الدعوة من طرف الولاياتالمتحدة والحكومة العراقية المؤقتة برئاسة إياد علاوي إلى عقد هذا المؤتمر الدولي، وحشد أكبر عدد من المشاركين فيه بقصد إضفاء الشرعية على الاحتلال القائم في العراق وجلب المساعدات المالية للحكومة وضمان انتقال هادئ للسلطة في العراق من خلال تنظيم انتخابات في متم شهر يناير القادم. إن الهدف الرئيسي من وراء المؤتمر بالنسبة لواشنطن هو تحصيل توقيعات الدول المشاركة على سياستها في العراق وانتزاع موافقتها على الوضع القائم، وتوسيع قاعدة تحالف الراغبين أو المتطوعين في مرحلة ما بعد الاحتلال وتعيين حكومة بإشراف البيت الأبيض. وقد انكشفت النوايا الأمريكية منذ بداية التحضير للمؤتمر، حيث رفضت واشنطن مقترحات تقدمت بها فرنسا، تتعلق بضرورة أن يحدد البيان الختامي للمؤتمر جدولا زمنيا لخروج قوات الاحتلال من العراق، وتوسيع عملية المشاركة في الانتخابات لتشارك فيها جميع القوى السياسية الموجودة في العراق، ومشاركة المقاومة العراقية في المؤتمر. ولوحظ أن فرنسا تراجعت في اللحظة الأخيرة وقبلت المشاركة دون التشبث بمواقفها، مما ينبئ عن احتمال وجود مناورات أمريكية فرنسية معينة في العراق ربما يكون من بينها التوافق على حصة معينة من العقود النفطية في مرحلة ما بعد استقرار الأوضاع وزوال الاحتلال. المأزق الأمريكي في العراق من المؤكد أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد قرابة عام ونصف من غزو العراق واحتلاله تجد نفسها اليوم في مأزق حقيقي، وتبحث عن سبل الخروج منه بمساعدة المجتمع الدولي من خلال انعقاد مؤتمر شرم الشيخ الذي ستحاول واشنطن تحقيق أكبر قدر من المكاسب فيه ودفع أكبر قدر من الأضرار. ويمكن رصد هذا المأزق الأمريكي في العراق من خلال المعطيات التالية: المعطى الأول يتعلق بالانتخابات العراقية التي حدد لها موعد 31 يناير من العام القادم، من أجل إضفاء الشرعية السياسية والدستورية على الواقع الحالي. فقد أعلنت عدد من الأحزاب والهيئات السياسية والطائفية العراقية عن عدم مشاركتها فيها بالنظر إلى استمرار واقع الاحتلال ووجود إمكانيات واسعة للتزوير فيها، وعدم شرعية الحكومة الحالية التي ستشرف عليها، كما سحبت بعض التنظيمات الأخرى مثل هيئة علماء المسلمين السنة تراجعها عن المشاركة بعد الأحداث الأخيرة في الرمادي والفلوجة وعمليات التقتيل الأمريكية فيهما، ولم تعد الانتخابات تكتسي أهمية كبرى لدى المواطنين العراقيين الذين يرون فيها محاولة أمريكية لخداعهم، مما يهدد ترتيبات العملية السياسية الأمريكية في العراق بالفشل، ويحتمل أن يؤدي ذلك إلى تأجيل الانتخابات حتى تتوفر لها شروط النجاح والمصداقية، حيث برزت بعض الأصوات التي تنادي فعلا بالتأجيل قبيل عقد مؤتمر شرم الشيخ. المعطى الثاني يتعلق بالمقاومة العراقية والعمليات العسكرية الأمريكية المضادة لها، إذ أن بروز مقاومة قوية في الفلوجة والرمادي وما حدث فيهما من تقتيل وإبادة من شأنه أن يؤدي إلى تأجيج مشاعر السخط والغيظ ضد الأمريكيين والبريطانيين لدى العراقيين، ويقود بالتالي إلى انتشار مد المقاومة في المناطق الأخرى، خاصة بعد الصور التي تناقلتها تلفزيونات العالم والتي تصور جنودا أمريكيين يجهزوون على شيخ عراقي جريح في الفلوجة. المعطى الثالث يتعلق التحالفات العسكرية التي بنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية أثناء غزو العراق، فقد سحبت ثماني دول أوروبية قواتها العسكرية إثر اشتداد حدة المقاومة العراقية وارتفاع وتيرة عمليات الاختطاف التي أقنعت حكومات هذه البلدان تحت ضغوطات الشارع بسحب قواتها، ويتوقع أن تقوم كل من بولونيا وهنغاريا بنفس الإجراء في الفترة المقبلة، مما سيظهر الولاياتالمتحدة بمظهر الدولة الغازية المحتلة خارج أي تأييد من أي كان. هذه المعطيات الثلاثة تشير إلى أن السياسة الأمريكية في العراق لا تمر اليوم في أيام اللبن والعسل، وإنما هي مرشحة لأن تتلقى المزيد من الضربات في المراحل القادمة، لكن ما تريده واشنطن التي كانت تدرك تلك الصعوبات وكانت واستعجلت المؤتمر هو أن يقدم لها مؤتمر شرم الشيخ حبل النجاة الذي يخرجها من المستنقع العراقي بدون كلفة باهظة. بيان ختامي أخرس بحسب مشروع البيان الختامي الذي صودق عليه في اجتماع وزراء الخارجية في شرم الشيخ ويتوقع أن يكون قد صادق عليه المؤتمر في جلسته الختامية اليوم، أكد المشاركون مجددا الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية للعراق، وهي إشارة لإرضاء الدول المجاورة للعراق، وخاصة إيران وتركيا وسوريا التي كانت تتخوف من أي سيناريو لاستقلال أكراد العراق في الشمال والجنوب، مما من شأنه أن يقود إلى نشر العدوى لدى أكراد البلدان الثلاثة ويقود إلى خلخلة التوازن الطائفي والإثني فيها. وأدان البيان ما أسماه بأعمال الإرهاب، مطالبا بالوقف الفوري لها، في إشارة إلى المقاومة العراقية ضد الاحتلال، لكنه سكت عن هذا الأخير وعما يحدث في الفلوجة والرمادي من جرائم، واكتفى بوصف ما تقوم به القوات المحتلة بالقوة المفرطة حين دعا كل الأطراف إلى تجنب الاستخدام المفرط للقوة، وإلى التحلي بأقصى قدر من ضبط النفس لتجنب العنف ضد المدنيين. كما أدان أعمال الاختطاف والاغتيالات بما في ذلك ضد المدنيين الذين يعملون لشركات محلية أو أجنبية تعمل على إعادة بناء العراق، وأشار إلى الالتزامات المترتبة علي أعضاء الأممالمتحدة بشأن منع مرور المسلحين من وإلى العراق ومنع مرور أسلحتهم أو موارد لتمويلهم، و أكد مجددا أهمية علاقات حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخري. وفيما يخص توقيت زوال الاحتلال، لم يحدد البيان الختامي جدولا معينا لخروج القوات الأمريكية والبريطانية، وإنما أشارفقط إلى أن ولاية القوة المتعددة الجنسيات ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية، وهو معنى مضبب حاصله أن وجود القوات الأمريكية والبريطانية في العراق مفتوح بالفعل لكن ليس إلى ما لا نهاية، وذلك يتضمن عاما واحدا كما يتضمن عشرة أعوام بمثل ما يتضمن أيضا أسبوعا. إدريس الكنبوري