أما المجاهدون فقد تفرقوا مطبقين خطة رجوع ظافر بالنصر المبين، حيث انفرد صالح بن إبراهيم بالأسير وتكلف بسياقته والوصول به إلى مركز المجاهدين بقمة جبل الأطلس الكبير، مهما كلفه الأمر من صعوبات ومخاطر، وكان على راكبي الجياد الذين كانا يتستران بألبستة شبه عسكرية أن يعبرا الطريق الرسمية المعروفة إلى أن وصلوا قرب نقطة مراقبة كان موقعها قنطرة واد درنة، قبيلة أولاد يعيش، وكان الوقت ليلا، ثم التجآ إلى هضبة تطل على سد المراقبة. وانتظر المجاهدان لحظات وهما مختفيان قبل أن يقلدا دوردورية مراقبة أخرى. وبذكاء فائق لعبا هذا الدور، حيث أوهما رجال السد عندما فاه بوزكري بعبارات مماثلة لما سبق أن نادى بها الحاكم الفرنسي، الشيء الذي جعل الحراس يعتقدون بأنه تمت مراقبتهم وتفقدهم مرة ثانية. ونجا المجاهدان بسهولة لأن إرادة الله كانت قوية وتمكنا من الرجوع سالمين إلى الجبل. أما صالح بن إبراهيم، الرجل الثالت الذي كان مكلفا بسياقة الرهينة وهو مكبل اليدين ومعصوب العينين، فقد استغل ظلام الليل واستعمل المسالك والمعابر التي يعرفها القليل من الناس إلى أن وصل إلى أحد المداشر الأمازيغية، فأثار إنتباهه حفل عرس هناك فترك الفرنسي في إحدى المغارات بعد أن هدده بسكين لكي لا يتحرك وينتظر رجوعه. والتحق بالحفل واختلط بالجمهور الذي كان منهمكا في الرقص وترديد الأغاني الأمازيغية، فتمكن من الاستيلاء على قصعة من الكسكس وحملها إلى الأسير ثم تعشيا معا قبل أن يواصلا طريقهما، إلى أن وصلا سالمين وظفر صالح بن إبراهيم بالوديعة الثمينة. وكان في استقباله عند الوصول المجاهدان بوزكري وعلال صحبة العديد من الرجال والنساء الأمازيغ اللواتي كن يزغردن ويغنين بالأمازيغية والعربية، وكانت تلك الأهازيج ترددها قمة الجبل إلى أعلى السماء ابتهاجا بهذا النصر العظيم. عاش الرهينة الذي تأقلم مع السكان وتمكن من كسب عواطفهم، لأنه كان ذكيا جدا، حيث التجا إلى امرأة أمازيغية وارتمى على ثديها ورضع حليبها فأصبح في اعتقاد السكان أحد أبنائها، وبهذا السلوك نجا الفرنسي من موت محقق. وبعد شهور وسنين اضطرت السلطة الفرنسية للتفاوض من أجل إطلاق سراحه. وكانت هذه الاتصالات عسيرة ومطولة، يترأسها من الجانب الفرنسي بعض الضباط والباشا بوجمعة المسفيوي، باشا مدينة بني ملال، الذي كان أحيانا يتبادل الشتائم مع المجاهدين حتى كاد أن ينسحب من المفاوضات مهزوما، لكن حكمة أحد الكولونيلات وصبره في أوقات حرجة كان يردد أثناءها : لنرحل من هنا ونبدل موقع الحوار لعلنا نتفق من فضلكم. وتوجت تلك المفاوضات بنتائج إيجابية أطلق أثناءها سراح الرهينة مقابل دفع مبالغ مالية (السكة الحسنية) و بنادق وذخيرة و بغال للركوب تسلمها المجاهدون. ورغم كل المحن من هنا وهناك، لم يقف المستعمر في جلب وإغراء السكان إلى أن تمكن قائد كبير متعاون من الإطاحة بعشرة قواد أمازيغ كانوا متمركزين مع المجاهدين بالجبال بضواحي القصيبة، حيث وعدهم هذا القائد الكبير المعروف بالغدر برفع رؤوسهم إلى أعلى السماء إذا ما ساعدوه في مهمته ببسط النفوذ الفرنسي على المناطق التي مازالت مستعصية، وبالتالي تحقيق استسلامهم. ونجحت خطته واستسلم القواد الأمازيغ وأمر القائد بقطع رؤوسهم وتعليقها بباب القصيبة وفاء لعهده لكونه سيرفع رؤوسهم إلى أعلى قمة. هكذا كان مصير هؤلاء القواد الأمازيغ العشر الذين أبلوا البلاء الحسن في مقاومة المستعمر، ولم تبق إلا صلابة زوجة أحدهم المسماة إيطو التي قادت مجموعة من الأمازيغ في عدة هجومات ضد الفرنسيين بالمنطقة الجبلية وفاء لروح زوجها رحمه الله. وذات يوم حاول أحد كبار الضباط الفرنسيين استقطابها فأرسل لها هدايا وطلب مقابلتها واستقبالها استقبال الأبطال مقابل مكافآت ثمينة، لكنها رفضت الاستسلام، وكان جوابها على عرض الضابط الكبير أن عينيها لا تنظر عين الكافرين (إيرومين) إلا عبر مقدمة البندقية المصوبة لرميهم بالرصاص وقتلهم انتقاما لزوجها، واستمرت في الجهاد حتى استشهدت رحمها الله. أما مصير القائد المجاهد بوزكري بن خلوق، فقد كان نصيبه الغدر الدفين عندما اغتاله أحد المتعاونين الذي استأجره الفرنسيون وقع هذا الحدث بسوق الأحد بالقصيبة الذي تعود الناس زيارته بعد اتفاق الهدنة ليتمكنوا من التزود بالمؤن والسلع التي يحتاجون إليها، ومات المجاهد بطلا وكان بجانبه طفل يسمى المكي بن محمد الدرقاوي، الذي حاول الدفاع عنه معتمدا على بندقية لم يحسن استعمالها نظرا لصغر سنه وفر المعتدي، الذي لاحقته الجماهير وقتلته بدوره بخناجرها. لكن هل انتقام هؤلاء الرجال يكفي لأخذ الثأر لبطل كان لا يخشى أبدا طائرات ومدافع الجيش الفرنسي، حيث كان رحمه الله ينعت الطائرة بذبابة وكان أيضا يطلب من الفارين حين تشرع الطائرات في قنبلة المجاهدين بالاحتماء تحت جواده وسلهامه لكي يسلموا من القصف، لكن لا مفر من حتمية القدر الذي أصاب أولئك المجاهدين، عربا و أمازيغ بالأطلس في تلك الحقبة من التاريخ، و دفن بوزكري رحمه الله شأنه شأن جل رفاقه في الجهاد، الذين دفنوا بمقابر مجهولة رحمة الله عليهم جميعا. وانتهت المعارك التي دارت بكل ضراوة بين الجيش المحتل وهؤلاء المجاهدين ومعاونيهم الخونة، مما جعل المستعمر يقوم ببناء أربعة أعمدة خرسانية صلبة تذكارية بأعلى هضبة تطل على مدينة قصبة تادلة وترمز إلى أربعة فيالق عسكرية ذاقت تارة حلاوة الانتصار وأخرى مرارة الانهزام الذريع بالمنطقة تعود الفرنسيون وأعوانهم من قواد على زيارتها في كل مناسبة. والغريب في الأمر أن أحفاد أولئك القواد أصبحوا يتقمصون لباس المقاومين لنيل صفتهم، وكادوا أن يخدعوا الناس لو لم تزل أقنعتهم وتنكشف أكاذيبهم. أما المجاهد امبارك بن علال بن لحسن، الذي سجن بمعتقل اغبيلة بالدار البيضاء، فقد قام بعمل إنساني لا يمكن للتاريخ أن يهمله بعد خروجه من السجن، إذ استطاع أن يدخر أطنانا من حبوب الشعير إلى أن اندلعت الحرب العالمية الثانية وجاءت السنوات العجاف أي المجاعة الكبرى وبدافع من خصاله بالكرم العربي الأصيل، بادر امبارك بن علال بالقيام بعمل إنساني، حيث دخل السوق الأسبوعي لمدينة بني ملال وطلب من كراب في السوق أن ينادي في المحتاجين أن يتصلوا به كي يزودهم بما يحتاجون إليه، سواء مقابل أثمنة منخفضة إلى النصف أو الاقتراض أو التصدق، ودامت عملية تزويد المحتاجين بالشعير ثلاثة أيام، و شاع الخبر وعلم به باشا مدينة بني ملال فاستدعى امبارك بن علال لمحاكمته مرة أخرى على فعل الخير هذا، وكانت جلسة المحكمة التي ترأسها المراقب العام الفرنسي إلى جانب الباشا المسفيوي جلسة مثيرة ردد أثناءها الحاضرون عبارة: اللهم هذا منكر. وطالب الباشا بسجن المحسن امبارك بن علال حيث نعته بالطائش المتكبر الذي خلق بلبلة، ويحرض المواطنين على معاداة الفرنسيين، مضيفا أنه يخرب اقتصاد المدينة والمنطقة بفعله هذا، حيث تضرر كل التجار الكبار للحبوب من منافسة هذا المحسن. أما المراقب العام الذي كان يترأس الجلسة فقد كان له رأي مخالف، حيث برأ المحسن من التهم المنسوبة إليه، ناعتا إياه بأنه شخص شجاع وكريم. واستمر الكفاح والدفاع عن المكاسب وحوزة الوطن وكرامة المغاربة ومواطني منطقة تادلة بالخصوص رغم كيد ومؤامرات المستعمر وأذنابه.