كان سلفنا الصالح، رحمهم الله، يبدأون أولادهم في ميدان التعليم بالقرآن الكريم، حرصاً منهم على خيرية أبنائهم، والتأكيد على نجاتهم وفلاحهم، لأن خيرالقلوب قلب وعى القرآن، وخيرالناس عبد حفظ القرآن، وخيرالرجال رجل عاش مع القرآن، وخيرالزمان زمان قضي مع القرآن، وخيرالنفوس نفس ملئت بآيات الله. قال محمد بن الفضل بن محمد رحمه الله: سمعت جدي يعني ابن خزيمة، يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، فاستظهرت القرآن، فقال لي امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت فلما عيدنا أذن لي... وقال الإمام النووي، رحمه الله: كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن. وقال ابن عبد البر رحمه الله: طلب العلم درجات ومناقب ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه.... قال أبو الفضل الرازي رحمه الله: وعلى الحفظ والتحفظ كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سناً وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقربون منهم على العلم بما لم يسعهم جهله منه، غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها... ذكرابن خلدون رحمه الله بقوله: اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعارالدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصارالقرآن أصل التعليم، الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات. وعد ابن جماعة رحمه الله الأدب الأول من آداب طالب العلم في دروسه: أن يبتدئ بكتاب الله العزيز، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها. وهذا ما أكده ابن مفلح رحمه الله: وقال الميموني: سألت أبا عبدالله: أيهما أحب إليك، أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه، ثم قال لي: إذا قرأ أولاً تعود القراءة ثم لزمها، وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما طلب حفظ القرآن: فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علماً: وهو إما باطل، أو قليل النفع، وهو أيضاً مقدم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم: من الكلام، أو الجدال والخلاف، أو الفروع النادرة، والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله. قال ابن الجزري رحمه الله،: ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة. وقال أيضاً: فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرأه بكل حال كما جاء في صفة أمته: أناجيلهم في صدورهم، وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب، ولا يقرأونه كله إلا نظراً، لاعن ظهر قلب، ولما خص الله تعالى بحفظه من شاء من أهله، أقام له أئمة ثقاة تجردوا لتصحيحه، وبذلوا أنفسهم في إتقانه، وتلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم، حرفاً حرفاً، لم يهملوا منه حركة ولا سكوناً، ولا إثباتاً ولا حذفاً، ولا دخل عليهم في شيء منه شك ولا وهم. هذا السلوك يؤكد المكانة العظيمة، التي كانت لكتاب الله في نفوس القوم، ومن هنا عظمت مكانتهم، وسمت منزلتهم.. فهل نرفع هذا الشعار من جديد؟! نربي عليه أبناءنا، على حبه واحترامه وتوقيره وإكرامه، وعلى حفظه والعمل به؟!.