مازالت أعمال العنف تتواصل بفرنسا بعد أن لم تعد مقتصرة على ضواحي العاصمة باريس، فقد أحصت أجهزة الأمن الفرنسية ما لا يقل عن 918 سيارة جرى إحراقها وتم اعتقال 193 شخصا خلال أعمال العنف التي تشهدها مناطق مختلفة في البلاد لليلة العاشرة على التوالي. وفي باريس نفسها اقتحمت هذه الأعمال وسط العاصمة بعد أن كانت في البداية مقتصرة على الضواحي حيث يعيش الفقراء والمهمشون من شباب الهجرة. فقد ألقيت الزجاجات الحارقة للمرة الأولى في وسط باريس. وفي ضاحية إيسّون القريبة من العاصمة أحرقت مدرستان، كما اقتحمت سيارة مطعما تابعا لشبكة ماكدونالدز للوجبات السريعة في الضاحية نفسها، وأضرم من كان في داخلها النار بالمطعم الذي دمرت أجزاء كبيرة منه. وفي جنوب غرب فرنسا أضرمت النيران في مكتبة البلدية بضاحية تولوز، في حين سيطر رجال الإطفاء على 14 حريقا متعمدا مساء أمس في الضاحية نفسها. وقالت مصادر في الشرطة إن نصف مباني حضانة للأطفال في ضاحية غرينيي قد دمرت. وأشارت إلى أن سيارات التهمتها النيران في المنطقة نفسها، كما اندلعت النيران في مستودع للورق بمساحة 800 متر مربع في منطقة فينيو سور سين. وقد سيطر رجال الأمن على النيران التي لم يعرف سبب اندلاعها. وأعلنت الشرطة أنها نشرت سبع مروحيات مجهزة بكاشفات أضواء قوية وكاميرات فيديو لمراقبة أعمال العنف في الضواحي. وكانت هذه الأعمال قد اندلعت في البداية كرد فعل تلقائي على مقتل شابين مهاجرين من لدن عنصريين متطرفين، وسرعان ما تم إخماد ردة فعل الشباب هذه، مثلما تم من قبل تطويق العديد من مثيلاتها بعد تدخل عقلاء وإقناع الشباب بأن أعمال العنصريين هي أعمال معزولة لا يجوز أن تؤدي إلى شرخ في المجتمع الفرنسي يكون أبطاله هم المهاجرون. ولكن سوء تصرف بعض المسؤولين الفرنسيين سرعان ما تسبب في أعمال شغب لم يستطع أحد إخمادها لحد الآن، وذلك بعد أن وصف وزير الداخلية الفرنسي الشبان الذين ردوا على مقتل أصدقائهم بالتظاهر بالأوباش، وزاد الطين بلة إلقاء قنبلة مسيلة للدموع وسط أحد المساجد، ومعروف أن مثل هذه القنابل لا تتوفر إلا عند رجال الأمن. ولم تكلف الحكومة نفسها عناء الاعتذار عن إهانة المسجد بتلك الطريقة ولا معاقبة من ألقى بتلك القنلة في المسجد، وهو ما فجر الوضع بعد أن شعر الشباب المهمش بالإهانة وعدم الاعتبار. هذا الإهمال كانت له عاقبة وخيمة بأن انفجرت ثورة عارمة في الضواحي سرعان ما انتقلت إلى وسط العاصمة باريس وانتقلت إلى مدن فرنسية أخرى. في انتفاضة لم تشهدها فرنسا منذ ثورة ماي .1968 وفي محاولة لتدارك الأمر، اجتمع رئيس الحكومة الفرنسي دومينيك دوفيلبان مع عدد من شبان الضواحي للاطلاع على مشاكلهم. ومن بين هؤلاء الشبان مهاجرون وطلبة وعاطلون تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاما، وقد امتدحوا مبادرة رئيس الوزراء. أخطاء الحكومة استغلتها المعارضة استغلالا سياسيا، فقد أصدرت 3 أحزاب فرنسية معارضة هي: الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب الخضر والحزب الاشتراكي، بيانا مشتركا طالبوا فيه باستقالة وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، باعتباره «المسؤول الأول عما يحدث من أعمال شغب» و «يقود البلاد إلى كارثة». وفي حوار مع قناة ل. س. ي الإخبارية الفرنسية يوم الجمعة الماضي، قالت ماري جورج وفييه، الأمينة العامة للحزب الشيوعي الفرنسي: «حينما يموت مراهقون، ويصف وزير الداخلية شباب الضواحي الذي يتعرض أساسا لظروف اجتماعية قاسية بالأوباش، فإن عليه أن يستقيل». واعتبرت أن هذا السلوك «لا يليق بوزير داخلية، ولو كانت لديه طموحات رئاسية». وطبعا حاولت بعض الجهات استغلال الوضع لاتهام الإسلام والإسلاميين بأنهم وراء الأحداث، ففي هذا الإطار قال الشرطي الفرنسي برونو بيتشيزا: «إن إسلاميين متشددين دربوا وتلاعبوا بشباب». وأضاف أنه «شكل جديد من الإرهاب في المدن ترتكبه أقلية من الزعماء لديهم مصلحة مالية وإيديولوجية». ولكن عددا من الأئمة الفرنسيين أعربوا عن رفضهم تلميحات بعض المسؤولين الفرنسيين المحليين بتورط مسلمين في تصعيد أعمال الشغب التي تشهدها الضواحي الشمالية الفقيرة بباريس وغيرها من المدن الفرنسية. وأنهم توجهوا منذ اندلاع أعمال الشغب بنداءات تدعو للتهدئة، إلى جانب محاولة الشباب «المتدين في الضواحي إقناع الشباب الغاضب بالكف عن أعمال الشغب». وقال زهير بريك، إمام مسجد طارق بن زياد بحي الإيفلين الذي شهد ليلة الخميس 2 11 2005 إحراق حوالي 21 حافلة بمجمع تابع لوزارة النقل الفرنسية: «إن الشباب المسلم المتدين لا يمكن أن يقوم بمثل هذه الأعمال التي تنافي مبدأ الإعمار ونبذ التخريب الذي يحثنا عليه الإسلام». وأكد أنه توجه في خطبة الجمعة 4 11 2005 بنداء جديد للشباب الغاضب للكف عن مثل هذه الأعمال، واصفا الذين يقومون بعمليات الحرق بأنهم «يعطون ذريعة جديدة للمعادين للإسلام بفرنسا لوصف هذا الدين بالهمجية والتطرف». من جانبه، قال أحمد جاب الله عضو المجلس الأوربي للإفتاء وإمام مسجد حي لاكورناف الذي عرف أيضا أحداث شغب: «إن هذه الأحداث لا علاقة لها بالشباب المسلم المتدين». وأردف: «بالعكس فإن الشباب المتدين عمل منذ اليوم الأول على تهدئة الأوضاع، إلا أن البعض لا يعجبه هذا الدور الإيجابي للشباب المسلم ويعمل على تشويهه». أما الشيخ ضو مسكين الذي يؤم المصلين في مسجد ضاحية كليشي سو بوا، حيث انطلقت الشرارة الأولى لأعمال الشغب فنفى أن يكون «المتدينون قد ساهموا في أي من الحرائق وأعمال العنف التي وقعت». واستشهد بأن «كل الأجهزة الأمنية لم تثبت تورط الشباب المسلم في أي من أعمال الشغب». ويبقى أنه شتان بين تصريح دوغول بعد ثورة ماي ,68 حيث قال: «رغم كل ما جرى فأنا فخور بشباب فرنسا»، وبين قولة ساركوزي الآن: «هؤلاء أوغاد وأوباش». فهل تستطيع فرنسا اليوم أن تكون فخورة بشبابها المسلم؟