إذا كان معظم الداء في الأمم قبل الإسلام في علمائها، فهم في أمتنا عين الدواء وبلسم الشفاء، وليسوا في حقيقة الأمر غير طليعة الخيرية والوسطية والطائفة المنصورة الواردة في نصوص وحي القرآن والسنة، بحيث لا يتصور الاتصاف بتلك الصفات النبيلة بغير العلم ودور العلماء. وهم، إن لم تكن لهم عصمة الأنبياء بصفتهم الفردية، فهم كذلك في مجموعهم لا يمكن أن يقع منهم الإجماع على باطل. وخيرهم مقطوع به، ويبقى فقط مستوى كفاية هذا الخير لصلاح الأمة بحيث يضعف هذا الصلاح لقلة أعدادهم وضآلة نفوذ تأثيرهم مقارنة باتساع الفساد والانحراف. ومتى كثر عددهم، وتيسرت سبل وصولهم إلى تحريك القلوب وتنوير العقول، اتسعت دائرة الصلاح والخير والفضل في الأمة. وإذا لم تجد شيئا من ذلك في من حولك، فاعلم أن خللا ما ينخر جسم تلك المضغة الاجتماعية، والتي إن هي صلحت وسلمت صلح ما حولها وإن هي فسدت فسد ما حولها، فإما أن يكون الالتباس واقعا في معنى العلماء في ذاته فيتزين باسمهم من ليس منهم أو يراد إطلاق هذا اللقب الشريف على من يقصد ركوبه إلى أغراض غير شريفة. أو أن العاملين في الاتجاه المعاكس قد نجحوا فعلا في تقليل عددهم وإضعاف نفوذهم وحجب تأثيرهم وبث جو مليء بالمكاء والصفير والتصدية بحيث لا يكاد يسمع صوتهم ولا تبلغ كلمتهم.وقد أصاب بلادنا شيء غير قليل من تلك الأحوال، فبالرغم من المكانة المتميزة التي لا يزال العلماء يحتلونها في ضمير الأمة ووجدانها،فإنه لا ينكر أحد التراجع الكبير في دورهم الريادي والطلائعي،وخلو العديد من الساحات الفكرية والسياسية والاجتماعية والفنية والاقتصادية من تأثريهم. ولم يعد الإحساس بغيابهم يقتصر على العامة، بل صدر أيضا من الجهات الرسمية، وآخر ذلك ما جاء في الخطاب الملكي عند تنصيب المجالس العلمية (..أبينا إلا أن يشمل إصلاحنا رابطة علماء المغرب لإخراجها من سباتها العميق وإحيائها بشكل يجعل منها جهازا متفاعلا مع المجالس العلمية...) وهي صرخة من أعلى سلطة في البلاد، بأن غيابكم أيها العلماء قد طال، وأن ما حولكم في حركة دائبة، وعولمة الفساد زاحفة وخصوصية المغرب مهددة والقيم في طريقها إلى التفسخ والانحلال.. وهذا الزمان تحرك من فيه حتى الحجر، ولا تقولوا إننا في شغل بين محاضرة وندوة ووعظ وخطبة وإرشاد. هنا وهناك. ففعالية الحركة تقاس بفعالية ما حولها، وسرعة الميل الواحد إلى الألف ميل كأنما هو سير إلى الوراء.. ولا شك أن المسؤولية بالتأكيد ليست هي مسؤولية العلماء وحدهم، وأن الحاجة ماسة إلى ورش كبير لتدارس هذا الأمر الخطير الذي يستهدف التنمية البشرية في جانب القيم وتزكية النفوس وتربية الإنسان والسمو بروحه إلى فضائل الدنيا وجنة الآخرة، والنظر في تفعيل دور العلماء.. وهذا الطموح في إشراك الجميع في هذا الورش الكبير،لا يمنع التململ الذاتي وتهيئ أرضية الحوار، تحدد معالم الإصلاح وتبدأ بضبط المفهوم حتى لا يدخل في العلماء من ليس منهم ويقرر مكانهم من ليس من زمرتهم. ثم تحديد وظيفة الرسالة أو بالأحرى تفعيل ما كلف به العلماء من لدن رب العالمين وما أوصى به محمد صلى الله عليه وسلم عندما عهد إليهم بميراث النبوة، ولا شك أن الوظيفة الرسالية تفرض قدوة الفعل قبل القول، فيكون العلماء أولى الناس بتطبيق الشرع في أنفسهم وهيئاتهم وما يتولونه من مسؤوليات في حدود الطاقة والوسع. ومن ذلك الحرص على الاستقلالية، فهم ملك للأمة كلها يلجأ إليهم الحاكم ليستعين بهم في ضبط أمر الرعية وغرس معاني الطاعة بالمعروف والحكمة في التوجيه والنقد والنصح والمراقبة، وقد استعان علي رضي الله عنه بابن عباس رضي الله عنهما عالم زمانه لمحاورة الخوارج وإرجاعهم إلى التسليم بطاعة الإمام، واستعانت السلطة المصرية في زماننا بالعلماء لمحاورة تيارات التطرف في السجون. كما تحتاج إليهم الرعية والحاكم للتعاون على إقامة الدين وسياسة الدنيا به. فتكون حركتهم ذاتية لا تنتظر من يحركها.وإنما قوامها مصلحة الدين والوطن والحق والخير. ومن ذلك مبدأ الشورى داخل هيئاتهم وعدم الانفراد بالقرارات، والتحاكم إلى لوائح تنظيمية تضبط الاختلاف وترقى بالعمل إلى مستوى المؤسسة، وليس مجرد السير وفق أمزجة الأفراد ضمانا للجودة والاستمرار.