منذ فترة، قامت إحدى الفتيات في دولة من الدول الإسكندينافية بإحضار صباغة سوداء، وعمدت إلى لوحة إشهارية فيها امرأة عارية، فغطت عورتها بتلك الصباغة، فقامت ضجة وقيل إن الشركة صاحبة الإشهار رفعت دعوى ضد الفتاة، وجرى نقاش إعلامي موضوعه هو الصور الإشهارية المهينة، والمشاهد التي توظفها شركات الإعلان، وتسيء إلى الأخلاق العامة، ومن الأسئلة التي طرحت في النقاش هناك: هل من حق الشركات الإشهارية، أن تفعل ما فعلت وتنشر ما نشرت؟ وهل من حق الفتاة أن تفعل ما فعلت وتستر ما سترت؟ ! وفي المغرب، قام المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري بإصدار قرار يأمر بسحب لقطة إشهارية لشركة اتصالات المغرب، لأنها تتعارض مع التاريخ الوطني .. هاتان الحادثتان الخارجية والداخلية تدعو إلى مناقشة المسار الذي سار فيه الإشهار؟ الإشهار تغلغل في حياتنا المعاصرة بشكل غير مسبوق، فالإشهار في الإذاعة والتلفزة، والإشهار في الجريدة والمجلة، والإشهار في الجدار والباب والإشهار في المطعم والمتجر، والإشهار في الحافلة والباخرة والطائرة. فموضوع الإشهار قد شمل كل شيء، حيث يجري إشهار البضائع والسلع والخدمات، والمنازل والشقق والبقع والتجزئات والكتب والجرائد، والأدوية والمستحضرات والأسفار والرحلات والأندية والجمعيات والمؤتمرات والندوات ..وأي شيء لم يدخل إلى عالم الإشهار؟ فهل للإسلام ما يقوله في هذا الإشهار بموضوعاته ووسائله؟ والجواب، نعم مادام الإشهار معدود ضمن المعاملات، وقد جاء الإسلام فبين ما يحل وما يحرم من المعاملات. وحتى نعرف حكم الإسلام في هذا الطوفان من الإشهار، نتساءل عن الهدف من الإشهار أولا، ثم نتساءل هل بقي الإشهار وفيا للهدف الذي قام من أجله؟ إن هدف الإشهار، هو تعريف المستهلك بالمنتوج وتشجيعه على اقتنائه واستعماله، والإسلام لا يمنع من وجود إشهار يتولى التعريف بالأشياء، ويرشد إلى وجودها ويخبربمزاياها، وقد يبين ثمنها ويدل المهتم بالطريق الذي يوصله إليها، وهذا القدر جائز لا شك فيه، لكننا عندما ننظر إلى الإشهار الموجود في الواقع على ضوء هذه الأهداف، ما ذا نرى؟. الذي نراه هو التفاوت القائم بين الإشهارات، فبينما يتطابق بعضها أو يقترب من الأهداف السابقة، نرى بعضها الآخر يشرد بعيدا عنها، لذلك يمكن القول إن الإشهار سيف ذو حدين، فيه منافع ومضار. والسؤال هو: كيف نجلب منافعه وننميها ونكثرها، وكيف نتجنب مضاره ونقللها. إذا أردنا أن يكون الإشهار في خدمة المستهلك والمجتمع، يجب أن يتحلى بالصدق ويتخلى عن الكذب، وأن يلتزم الأمانة ويجتنب الغش وأن يلتزم الحياء ويتجنب الفجور. وبهذا يكون الإشهارعونا للمواطن على حسن الإختيار، ومحققا للمنافسة الشريفة بين العارضين والمنتجين. وفي القرآن الكريم، والأحاديث النبوية نصوص كثيرة تؤصل الأخلاقيات في هذا المجال وهذه أمثلة: يقول الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، ويقول عز وجل : (يا أيها الذين آمنو كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)ويقول سبحانه:(قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما رواه البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام . وهذا الحديث الجامع يقابل بين الصدق والبيان، وبين الكتمان والكذب، فأما ثمرة الصدق والتبيين، فنزول البركة والخير والمنفعة. وأما ثمرة الكذب والكتمان، فزوال هذه البركة ومحقها. ويقول عليه الصلاة والسلام: من غشنا فليس منا ، وهذا الحديث له سبب معروف، هو أن رجلا عرض في السوق زرعا للبيع، ومر به النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده فيه واستخرج الذي بداخل الصبرة مبللا، فقال ما هذا يا صاحب الطعام، قال أصابته السماء يعني المطر، فقال: هلا جعلته فوقه كي يراه الناس، من غشنا فليس منا (والزرع قد يبلل عمدا لينتفخ ويرجع عند الكيل). ويبدو واضحا، أن هذا الرجل قام بإشهار طعامه واستعمل الغش في ذلك، سواء كان قوله صحيحا أم لم يكن كذلك، فنبهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإشهار يجب أن يكون عماده الصدق. ويقول عليه الصلاة والسلام:إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود. هذه نصوص مضيئة، يمكن الاستضاءة بها لرسم ملامح إشهار صادق مفيد ونافع، ولا يخفى أن السبب في ابتعاد الإشهار في بلادنا عن هذه التقاليد السامية، أنه بموضوعاته وتقنياته إشهاروافد علينا من الغرب، والإشهار هناك لا يتمسك بدين، لأن اللادينية هي خيار الغرب المعاصر في السياسة والاقتصاد والفن، والمهم هو الوصول إلى المستهلك والتأثير عليه، وقد وفد إلينا هذا النموذج الغربي في الإشهار، وتدرج منذ الاستقلال في تطويعنا لقيم الغرب على حساب قيمنا الاسلامية، وتجرأت شركات الإشهار شيئا فشيئا، وتدرجت في تعويد المسلم ما كان يستحيي من مشاهدته ويخجل من رؤيته، ولعب الإشهار دورا خلفيا لا علاقة له بالهدف التجاري الذي يتظاهر به، وأصبحنا أمام إشهار داخل إشهار . ولقد وصلت بعض اللوحات واللقطات الإشهارية في بلادنا، إلى حدود متقدمة جدا من الجرأة على الآداب والأخلاق العامة، حتى إن المرء ليتساءل هل من الضروري أن تكون تلك اللقطات والمشاهد على ذلك الحال لتؤدي دورا إشهاريا، لو كان المقصود حقا هو الإشهار. إن الحالة التي عليها كثير من لوحات ولقطات الإشهار في بلدنا، تستحق وقفة للتصحيح. وهنا يوجه الإسلام خطابه إلى الفئات الآتية: أولا :الأشخاص و الشركات التي تطلب الإشهار، والتي تختار مشاهده ولقطاته من أموالها. ثانيا:الشركات المتخصصة في الإشهار والتي تختار مشاهده ولقطاته. ثالثا:الجهات المسؤولة عن الترخيص والمراقبة. رابعا:المستهلك الذي يتوجه إليه هذا الإشهار. فمسؤولية الشركات والأشخاص، الذين يلتمسون الإشهارلبضائعهم، أن يلتزموا بأخلاق الإسلام عند اختيار نموذج الإشهارالمعتمد، وأن يراجعوا معها ذلك قبل إعلانه وتعميمه. ومسؤولية شركات الإشهار، أن تكون ملتزمة بأهداف الإشهار السابقة، وألا تتخفى وراء الإشهار لتحقيق أهداف أخرى مشبوهة، كإفساد الأخلاق والأذواق، وهذه المسؤولية يتحملها مديرو شركات الإشهار والمهندسون الخبراء، الذين يبدعون أفكار الإشهار ويختارون تصاميمه ولوحاته، فواجبهم أن يطوعوا الإشهار لمصلحة الفرد والمجتمع، وأن يتقوا الله فيما يخرجون به على الناس من لوحات ومشاهد .. ومسؤولية القائمين بالرقابة أن يمنعوا الإشهار الماجن، والإشهار الذي يروج للمحرمات مثل الخمر والقمار، والإشهار الكاذب والمخادع وأن يشجعوا الإشهار النظيف والملتزم بأخلاقيات المهنة. وأخيرا، فواجب المستهلك أن يكون مستقلا بقراره، وألا يتنازل عن استقلاله أمام طوفان الإشهار، وعليه أن يختار ما يصلح له وأن يكون دينه هو الحكم بينه وبين ما يقدم له من إشهار، وإذا حرم الله عليه شيئا يتركه، ولوزينه الإشهار وأغرى به، فالخمروالميسر والسحروالتنجيم وإتيان العرافين والكهنة، من أجل الاستشارة والتطلع إلى معرفة الغيب، وكذلك السياحة الماجنة والسهرات الفاجرة، وأوكار الفساد والدعارة، وأمثال ذلك حرام في ديننا ولو زينها الإشهار، وسماها بغير أسمائها وزعم لها فوائد ومنافع. إننا نعلم أن احتفاظ المستهلك بحريته واستقلاله، ليس سهلا أمام تقنيات الإشهاروطرقه في التأثير، ولكنه الخيارالوحيد حتي لا تضيع منا المناعة الروحية والفكرية، التي نبصربها مواقع خطواتنا، ونتبين بها ما ينفعنا وما يضرنا، وفي الحديث:المؤمن القوي خيروأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي مثل هذا الموطن ينبغي أن يكون المؤمن قويا، لأن الإشهارأحاط بنا من كل جانب واستخف بنا، فأطاعه الكثيرون. وقلة من الناس الذين لم يفقدوا قدرتهم على التمييز، فهل تستطيع أن تكون منهم؟.