تجتاح إعلامنا في المدة الأخيرة موجة صاخبة من الإعلانات الإشهارية التي توظف الجسد البشري توظيفا سلبيا ومهينا لإنسانية الإنسان، ويحظى الجسد النسائي كوسيلة للجذب نصيبا أكبر في إعلامنا، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى توظيف مذيعاتنا المغربيات لأجسادهن في عملية التنشيط التلفزيوني لإضفاء طابع "الحيوية" على البرامج. وأبرز مثال في هذا التوظيف هو نادية لاركيت مقدمة برنامج "بوندابار" في القناة الثانية، إذ لا تتردد في تقديم صورة غير حقيقية عن المرأة المغربية، التي تتعامل بشكل محافظ عموما مع جسدها بحكم ثقافتها المحافظة. وبالمقابل لا نجد حركة اجتماعية مدنية قوية تقف في وجه هذا التيار الكسيح الذي يضرب أهم حق من حقوق الإنسان، بإعطاء صورة سلبية للجسد الأنثوي والمرأة عموما. والغريب أن رد الفعل الفرنسي على التوظيف الجسدي في الإعلام أقوى من المغربي، إلا أن ما يثير الانتباه هو الطريقة التي يتعامل بها المواطن الغربي مع وسائل الإعلام، سواء على مستوى نوعية المواد التي تقدمها أو على مستوى الشكل الذي تقدم به هذه المواد، وقد يثير إشهار المواد الاستهلاكية المتضمن لتوظيف سيء للجسد ردود أكبر مما يثيره في بلدان تتميز بالمحافظة والتقليد، ففي فرنسا مثلا نجد تنظيم حملة واسعة لمناهضة استغلال الجسد، سواء أكان جسد رجل أو امرأة، في الصورة الإشهارية، فقد قام برلمانيان أخيرا بتقديم مشروع قانون يهدف إلى وضع حد لتهديد الصورة الإعلامية لكرامة المرأة والرجل، ودافعهما لذلك هو الاستغلال التجاري للجسد من طرف أرباب الشركات الإعلانية، الذين يوظفون الجسد بشكل مبتذل كوسيلة لبيع منتجاتهم، دون وجود أية علاقة له مع المنتوج المعروض، كما ذكرت بعض استطلاعات الرأي التي أقيمت في فرنسا أن المواطنين الفرنسيين يصدمون بهذا التوظيف السيء للجسد البشري، ويعتبرونه عنفا رمزيا ومعنويا يمارس ضدهم. الشارع الفرنسي يطالب بقانون منظم للإعلان والشارع المغربي يستسلم لما يقدم له تعتبر الدعوى التي قدمها النائبان البرلمانيان الفرنسيان أن الحذر من الصورة التي يقدم بها الكائن البشري في الإعلام أصبح يشكل ضرورة أخلاقية، وأنه لا يجب القبول بالرؤية المادية للكائن البشري، والتي يعتمدها مجموعة من الناس بهدف تجاري ويساوون الجسد البشري مع أي منتوج استهلاكي بسيط، كما اعتبرت أن المشرع الفرنسي يجب أن يتدخل للحد من الصورة النمطية ذات الأبعاد الرمزية والغامضة، والتي يمكن أن تحدث على المدى البعيد تأثيرا على السلوك الاجتماعي للكائن البشري. إذا كان الإنسان الفرنسي قد وصل به تاريخه الإنساني وحضارته وتجاربه السابقة إلى قناعة مفادها أن للإنسان قيمة لا تضاهيها أية قيمة اقتصادية وأن الجمع بين جسد إنسان ومنتوج يعتبر استفزازا واستهتارا بالكرامة الإنسانية، فماذا يمكن أن يقوله الإنسان المغربي المحافظ تجاه ما تقدمه وسائل الإعلام المغربية على امتداد اليوم من صور مستفزة للكرامة والقيم الإنسانية، فما بالك بالقيم الإسلامية، حيث نجد التوظيف السيء لجسد الإنسان رجلا كان أو امرأة أو طفلا ويتجاوز الأمر إلى التلاعب بعقله ومعنوياته، فنجد امرأة تخاطب "المنظف" أو تخرج من ثلاجة، ورجل ينظر بشكل أبله في المرآة، وأطفال تؤد براءتهم بمشاهد إشهارية ذات إيحاءات أكبر من سنهم، وكلمة الفصل في إعلاناتنا يأخذها الجسد الأنثوي كوسيلة للإغراء والجذب سواء بالنسبة للمنتوجات التي تعنيها أو التي تبعد عنها بعد المشرقين. إن النظرة التشييئية الطاغية في الوصلات الإشهارية تكرس قيمة الشيء على حساب الكأس البشري، فيصبح الشيء هو الذي يعطي قيمة للإنسان، وليس الإنسان هو الذي يعطي قيمة للشيء، فيتحول الإنسان تباعا إلى شيء يفقد معه خصوصيته الإنسانية. لماذا لا تقوم الجمعيات النسائية بصد التوظيف السلبي للجسد الأنثوي؟ والسؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو لماذا لا تحدث فينا الوصلات الإشهارية التي تقدم مثل هذا الحس ولماذا نظل مكتوفي الأيدي أمام ما يقدم لنا ولأبنائنا ولا نقوم بأي رد فعل كرفع دعاوى قضائية أو أي شكل من أشكال الاحتجاج، ونستسلم لتبضيعنا وتبليدنا وإهانة إنسانيتنا. وإذا كانت الجمعيات النسائية في المغرب الحداثية سنها والمحافظة تعتبر أن دورها هو الدفاع عن الحقوق المشروعة للمرأة المغربية، فلماذا لا تقوم بتحركات حقيقية في هذا المجال على اعتبار أن المستهدف الأول في هذه الوصلات الإشهارية هي المرأة التي توظف تجاريا وتشيئيا وجنسيا بحيث يكرس مثل هذا التوظيف على المستوى البعيد عقلية محقرة للأنثى البليدة المستسلمة (التي ترتدي كل ما يقدم لها ولو كان أقرب من الجنون) والتي يمكن في أي لحظة تشكيلها وتوظيفها حسب الحاجة فمادام الإعلام قد زود ذهن وذاكرة المشاهد بمجموعة من الصور النمطية عن المرأة وتجاوز فيها إنسانيتها وكرامتها، فإنه يخلق تباعا لدى الناس والأجيال القادمة مجموعة من التمثلات النفسية والاجتماعية والتي قد تحتاج إلى جهد ووقت لتغييرها. على قناة دوزيم أن تعتذر لنساء المغرب تحرض قناة دوزيم المغربية العديد من البرامج والأفلام التي تتناول قضية المرأة وتدافع عن حقوقها، إلا أنها في المقابل تقدم صورة بصرية وذهنية سيئة جدا للمرأة المغربية بحيث توظف جسدها ليس فقط على مستوى الإعلانات الإشهارية ولكن أيضا على مستوى تقديم البرامج، فإذا أخذنا على سبيل المثال القرعة التي تقدمها قناة دوزيم لاختيار واحدة من أربع فتيات لاختيار واحدة منهن على أساس الجمال الجسدي وليس على أساس الشهادة العلمية أو الخبرة المهنية أو مهارة معينة، سوى من الجسد المعروض والنظرة المثيرة، ومهما كان الإنسان حداثيا أو تقدميا أو ليبراليا، فلن يجد مبررا عرض أجساد أربع نساء وكأنه يختار بين أربع سلع معروضة، وتعتبر هذه أقسى عقوبة يمكن أن تقدم للمرأة المغربية المناضلة. كما أن النموذج الذي تقدمه بعض المذيعات خاصة "نادية لاركيت" يعتبر نموذجا مسيئا للكرامة الإنسانية والنسائية وشكلا مبتذلا للجسد النسوي، ولا ندري ما العلاقة بين العري وتقديم البرامج، في حين أن أي جولة في بعض القنوات الكبرى كCNN و ANNو fox news، تظهر أن المذيعات في هذه القنوات عجزت عن فهم الربط التعسفي بين العري والحركات الغير المتزنة وتقديم البرامج. فإذا قامت نساء المغرب بتقديم طلب اعتذار لقناة دوزيم على الصورة النمطية السيئة التي تقدمها للنساء المغربيات، فيجب على هذه الأخيرة من منطلق حقوقي محض الاعتذار للمرأة المغربية والتوقف عن استفزاز إنسانيتها. إن مناهضة التوظيف السيء للجسد البشري في الإعلام سواء كان رجلا أو امرأة، بالرغم من أن المرأة هي التي تحظى بنصيب الأسد في إعلامنا، أصبحت تشكل ضرورة ملحة من منطلق إنساني، فإذا كان الغرب يرفض ذلك، فالأولى أن ترفضه دولة محافظة كالمغرب التي ترفض فيه جميع الأسر المغربية المساس بأصالتها وقيمها الإسلامية، وتتحمل فيها الهيآت النسائية بمختلف تلاوينها نصيبا أكبر لأنها مطالبة بالحفاظ على إنسانية المرأة التي تستهدف كل يوم من طرف الإعلام، ولم لا ترفع دعاوى قضائية ضد كل الشركات التي تستغل الجسد النسائي خصوصا والإنساني عموما في وصلاتها الإشهارية، وكذا ضد وسائل الإعلام الأخرى كالجرائد والمجلات التي تجني أرباحها من إشهار الجسد الأنثوي. ح.أ.