الإنسان لا يخلو من أن يكون إما دائنا أو مدينا، رغم ما يكون عنده من المال والثروة، ورغم ما بلغ من الجاه والحظوة، ما دام يعيش في مجتمع بشري ويرتبط به ارتباطا تبادليا. وهو في وضعيته كدائن أو مدين محتاج لأن يتسلح بآداب وتوجيهات تضبط معاملاته، وتمتن علاقته المجتمعية، وإلا تمرغ التزامه الديني في وديان الإخلاف أو التماطل أو قسوة القلب وعدم الرحمة بالمحتاجين. فالتاجر الكبير يستدين سلعته من صاحب المتجر الكبير، وصاحب المتجر الكبير يستدين من البنك، والبنك يقضي معاملاته من ودائع زبنائه، وهكذا التعاملات المالية في تسلسل يشبه السلسلة الغذائية، ولا يستثنى منها إلا ساكن الفيافي والخيام، حيث يتعامل مع الطبيعة دون أن يأبه لمتطلبات الحياة المعاصرة. وصار بعضنا يسبح في دنيا الديون، فمأكله ديون، ومشربه ديون، ومسكنه ديون، فاقتنصت البنوك والمؤسسات المالية هذه الرغبة الجامحة في الاقتراض، فيسرت القروض والسداد بالاقتطاعات، حتى إننا نجد بعض الاقتطاعات تصاحب الأفراد بعد تقاعدهم عن العمل! وفي واقع الناس الراهن، حيث أصبح الإنسان يوزن بالمال والمادة، وأصبحنا نسمع مجازا: بطل من ذهب، وامرأة من فضة، حتى المثقف والعالم يكتب تاريخه وجهاده العلمي بمداد من ذهب.. يبقى لزاما علينا أن نكون حازمين مع أنفسنا في تصفية علاقتنا المالية مع المجتمع بكل شفافية. فأن تكون دائنا لأخيك، فذلك فضل من الله تعالى عليك كبير، لكن يحسن بك أن تنظر مدينك إلى حالة الميسرة أو تسقط عنه قسطا من الدين بصرف نصيب من زكاة مالك في هذا المجال، أو أن تتصدق بما أعطاك من ينزل الرزق بقدر. وأن تكون مدينا من أخيك فتلك سنة الله تعالى في تداول الأموال والأرزاق، لكن واجب عليك أن تصاحب هم الأداء في كل وقت من حياتك، وتدعو الله السداد، وإذا لم يتيسر لك السداد بالكامل، فبرمج طريقة الأداء على مراحل، ولا تذهب نفسك حسرات إذا ما طلب منك أخوك تدوين ذلك الدين، فالله تعالى يقول: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا، إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها). وقد حفل ديننا الحنيف بتوجيهات صارمة لأداء الديون، فجاءت أحاديث صحيحة توضح تعوذ الرسول الكريم من المأثم والمغرم: «اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء»، وأخرى توجه الدائن وتعتبر إمهال المدين صدقة: «من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة»، ولم يتوقف التوجيه النبوي حول الدين في الجانب الدنيوي، بل إن مسألة الدين يمتد أثرها إلى الجانب الأخروي، لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه اقتضى منه شيئا أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء»، حتى إن الشهيد، على جلال منزلته، يغفر له كل ذنب إلا الدين، وكما تجب تسوية الالتزامات المالية مع مجموع أفراد المجتمع، فهي بالنسبة للمشروعات الإسلامية العامة أوجب. فالمال محك الرجال، فإن سلمت الالتزامات المالية سلم تدين الفرد، فلا ينبغي أن يطلب الدين عند الحاجة إليه بكل وسائل الاستعطاف، وعند الأداء تتحرك في النفس نوازع الشح، فيتقدم تأثيث البيوت وتوفير الكماليات على أداء حقوق الدائن، كما أن على الدائن ألا يعمم تماطل أحد أفراد المجتمع في السداد، فيحرم المحتاجين أو يضطرهم إلى الوقوع في الحرام والاستدانة من الربا.