إننا نعتبر أن العدالة قيمة إنسانية لا يمكن البتة الحكم عليها بالفناء والموت. بل يجب على كل أفراد المجتمع، حكاما ومحكومين، الاتفاق عليها وحمايتها. وهذه الحماية تكون بفرض القانون وتنفيذه والاحتكام إليه من طرف الجميع. فالاقتصار على فئات محددة من المجتمع والدفع بها إلى احترام القانون دون فئات أخرى تتميز بمزايا الجاه والسلطة والمال والنفوذ يفرغ العدالة من قيمتها الإنسانية والاجتماعية والحقوقية. إن هناك إجراءات قانونية تحتاج إلى مقاييس معيارية للحفاظ على مميزاتها وقيمها المتعارف عليها. فالعدالة التي تفتقر إلى هذه القيم في مجتمع ما تدفع أفراده إلى فقدان الثقة فيها، وبالتالي تدفعهم إلى البحث عن سبل أخرى للحفاظ على حقوقهم، كالالتجاء إلى الخارج مثلا أو طرق باب منظمات حقوقية وطنية ودولية لحمايتهم من انتفاء العدالة في مجتمعهم. وبالتالي تكون صورة هذا البلد وهذا المجتمع على المحك وتترك أثرا في عقول الآخرين الذين كانوا يعتقدون أن هذا المجتمع يتميز بتطبيق القانون واحترام العدالة فيه. نحن نحتاج إلى العدالة في مجتمعاتنا كأفراد أكثر منها كمجموعات مثلا، لأن الفرد إذا لم يجد العدالة إلى جانبه في محنة ما يقع فيها فإنه ينقلب إلى النقيض إلا ما رحم الله من الناس. فالعدالة مبدأ معياري لا يجب الحياد عنه وجعله غير معياري، خاصة داخل مجتمع يعاني الكثير من المشاكل كالفقر والأمية والفوارق الطبقية والتمييز الثقافي والمجتمعي... ولذلك يكون من الخطإ التفكير في الدفع بالعدالة إلى الفناء والموت. بكل تأكيد العدالة نوع من القيم الاجتماعية السائدة، وقد تكون أكثر من ذلك. فهي تحمي المجتمع من الانحلال والتفسخ وتجعل كل أفراده متساوين في كل شيء وفي كل الأمور الحياتية. بل هي الرباط المتين الذي يربط أفراد المجتمع ويجعلهم صوتا واحدا لا يقهر. وما دام هذا الأمر غير متوفر فيه فلا داعي لأن نحكم على مجتمع من هذا القبيل بالتماسك والتكامل. كانت العدالة، في وقت من الأوقات وتبعا لثوابت دينية أو عرفية أو قيمية، هي السن بالسن والعين بالعين وبالقصاص من مقترف الجرم كيفما كانت وضعيته، ثم أصبحت اليوم أكثر تطورا وتغيرا فأصبحت تحتكم إلى قوانين وإجراءات قضائية وعقابية تمر عبر مساطر معقدة تنتهي بأحكام منطوقة أغلبها بالسجن والحبس أو بالغرامة المالية. وهذه التطورات في مفهوم العدالة في أغلب المجتمعات العالمية لم تستطع أن تحقق مفهوم العدل بين المتقاضين والمحتكمين إليها، لأنها تفتقر إلى عنصر الحياد والاستقلالية في أغلب المجتمعات. ولذلك فالحكم على العدالة بالانتفاء والغياب ليس حكما جاهزا ومطلقا أساسه المزاجية في الفكر والنظر، بل هي الرؤية العميقة للأمور في مجتمعات زمننا المعاصر التي أصبحت فيها القيم الهدامة والبعيدة عن الأخلاق الإنسانية هي السائدة. فمن أجل السلطة والمال والجاه، يمكن الدوس على القيم والضرب بها عرض الحائط. ترتكز العدالة على الإنصاف والمساواة والحقوق الفردية والمبادئ المجردة والتطبيق الذي يلائمها. فالإنصاف يكون باحترام مسطرة التقاضي والحكم طبقا للقانون، حيث لا ينتج عن هذا الحكم ظلم أحد الطرفين. وإذا ما وقع ظلم على طرف فإن تأثير ذلك عليه سيكون قويا فيحس بالظلم والإهانة من طرف القضاء المفترض فيه الحفاظ على حقوق الملتجئ إليه. ويمكننا هنا أن نستحضر واقعة الحكم الجائر على جريدة «المساء» المغربية بغرامة مالية خيالية قدرها 800 ألف دولار أمريكي لصالح وكلاء الملك الأربعة بمدينة القصر الكبير بشمال المغرب، وهذا الحكم لم يكن مناسبا للتهمة التي وجهت إلى مدير تحريرها والمتمثلة في المس بشرف الوكلاء الأربعة في فضيحة عرس الشواذ. وبالتالي فمسألة الإنصاف هنا انتفت في هذه القضية، وبالتالي انتفى مرتكز من مرتكزات العدالة. وأما المساواة بين أفراد المجتمع في مرحلة التقاضي وفي مستوى التعاطي مع العدالة فإنها تفترض الاحتكام إلى مسألة الخَلْق والانتماء الإنساني دون غيره من الأمور الأخرى كالجاه والسلطة والنسب والمال والغنى... فهذه المرتكزات تنتفي في مرحلة التقاضي واللجوء إلى العدالة، وإذا ما تم استحضارها فإننا سنصلي على العدالة صلاة الجنازة. فالاحتكام إلى المساواة ينطلق من الاحتكام إلى العدل الإلاهي في مسألة التقوى التي فصل فيها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث: (لا فرق بين عربي أو أعجمي ولا بين أبيض وأسود.... إلا بالتقوى) فالتقوى هي المعيار الوحيد في الأفضلية بين الناس عند الله تعالى، وكذلك يجب أن تكون المساواة في العدالة البشرية، فالمجرم والمذنب يجب أن يأخذا جزاءهما حسب ما اقترفاه من ذنب أو جرم دون تمييز أو عنصرية، حتى لو كان خصمهما إنسانا ضعيفا فقيرا لا يملك إلا كرامته ونفسه. تكون الحقوق الفردية ضرورية عند مسطرة التقاضي والاحتكام إلى العدالة. فحق الدفاع من مرتكزات إنجاح أي محاكمة لأنها تمنح المتقاضي الحق في التعبير عن موقفه وأسباب ودوافع ارتكابه للذنب أو الجرم أو أسباب مقاضاته لخصمه. وبدون حق الدفاع لا يستطيع أي قاض يحمي العدالة أن يحكم على المتهم من فراغ. ويبقى للمتقاضي الحق في أن يرد التهم الموجهة إليه مدافعا عن نفسه، دون خوف أو وجل فهذا حق من حقوقه الفردية. إذن، ترتكز العدالة على الإنصاف والمساواة والحقوق الفردية لتحقيق مجتمع سليم من الاختراق المدمر للقيم والحضارة والثوابت. فالعدالة هي القيمة الأساسية في التنظيمات الاجتماعية والسياسية، فهي توزيع منصف للحقوق بين أفراد المجتمع، بعيدا عن التركيز على مواقع ومراكز النفوذ والسلطة والجاه. فما إن تظهر مثل هذه الظواهر حتى تنتفي العدالة وتصبح مجرد شعارات جوفاء لا تقدم شيئا للناس. فالعدالة يجب أن تعم الجميع دون تمييز وتفرض توزيع الحقوق والثروات والإنتاج على أفراد المجتمع حسب مجهوداتهم ومساهماتهم داخله. بل تدعو العدالة إلى محو قيم اللبرالية المتوحشة المبنية على استعباد الناس والفقراء والمحتاجين الذين هم في حاجة إلى لقمة العيش وإلى حقوق آدمية في حياتهم الدنيوية. فهل يمكننا أن نجزم أن هذا هو الحاصل في مجتمعاتنا المعاصرة؟ بالمطلق الجواب سيكون بالنفي، ما دمنا نشاهد ارتكاز الثروة في أيدي فئة صغيرة فقط في كل المجتمعات العالمية، بل إن الفئة الكبيرة من سكان هذا العالم لا تتمتع إلا بربع ما تتمتع به أقلية من الناس يتمركزون في الدول المتقدمة وذات الاقتصادات القوية التي بنيت بالاستعمار والاستيلاء على ثروات المجتمعات الضعيفة التي استعمرتها. المفترض في العدالة أنها تمنح كل الأفراد الحق في البحث عن مصالحهم الشخصية والمنفعية، دون المساس بحقوق الآخرين وما دامت الحدود الدنيا لهذه المسألة – أي احترام حقوق الآخرين- محترمة فإنها لا تنتفي مع العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي توجب على الدولة حمايتها بكل غال ونفيس وإلا أصبحت الدولة عاجزة عن القيام بدورها الحقيقي الذي وجدت من أجله. ولذلك فإن النفعية والمصالح الشخصية المطلقة تتعارض مع العدالة وتجعلها فارغة من محتواها إذا كانت هذه النفعية وهذه المصالح تضرب بعمق مصلحة الآخرين ومصلحة الدولة والمجتمع ككل. ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن هذه النظرية هي السائدة اليوم في أغلب المجتمعات والدول في العالم، فتغليب مصلحة شخصية لفرد ما أو لجماعة ما هي الغالبة، بل نرى أن كل الوقائع تدل على أن العدالة مجرد شعار فارغ يتبناه البعض للتغطية على ما يقترفه في حق الآخرين وأفراد مجتمعه، ونرى أن المصلحة الشخصية لديه هي الدافع الأول له للخروج بهذه الادعاءات المجانية التي لا تغير من الواقع شيئا. نحن نؤمن بأن النظام الرأسمالي قد فشل فشلا ذريعا في الحفاظ على العدالة الاجتماعية وترك الحبل على الغارب لبعض الفئات لكي تعيث فسادا في مجتمعاتها باسم إيديولوجيات غير مقبولة، بل دفع الكثيرين من أصحاب النفوذ والسلطة ليستولوا على حقوق الآخرين تحت عناوين كثيرة ابتكروها بأنفسهم وجعلوها من المسلمات. ونحن ندرك أيضا أن النظام الاشتراكي هو مجرد كلام فارغ وإيديولوجيا لا تقود إلا إلى الهلاك والدمار وتغيير الرسالة الإلاهية والدعوة الربانية التي فرضت على الإنسان أن يؤمن باختلاف الأرزاق واحترام العدالة الإلاهية والعمل على أساسها في ما بين أفراد المجتمع. يمكننا أن نقبل في بعض الأحيان أن تكون العدالة ناقصة المظاهر داخل أسرة ما، وهذا منطقي ما دامت الأسرة التي تنبني على فكرة الذكورة يمكنها أن تدفع إلى تبني عدالة أسرية متفاوتة النسبة كالعلاقة بين الأب والأولاد من الذكور والإناث بتفضيله التعامل مع الذكور بطريقة سلسة أكثر منها مع الإناث في مجتمع محافظ مثلا دون التقليل من آدميتهن طبعا. وإلا فإنه سيصبح في حكم الظالم والمستبد. وهذا الأمر يمكنه أن يكون ظرفيا في العديد من المواقف، لكن أن نحاول إسقاط هذا الواقع على المجتمع في التعامل معهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فهذا غير مقبول ألبتة لأنه سيعمل على تغيير وجه المجتمع وخلق جو من التوتر وعدم الانضباط كما تعيشه العديد من المجتمعات اليوم..