لم نكن ندري من قبل أي قدر من الثقافة يملكه من عين وزيرا لها، حتى جاء الوزير بنفسه يعبر عن نوعية ثقافته في حديثه لأجوردوي لو ماروك، الذي قيم فيه بيان النصيحة الذي أصدرته حركة التوحيد والإصلاح حول مهرجانات المدن، ثم عاد مرة أخرى ليؤكد في حديثه ليومية الصباح يوم 13 غشت الجاري صحة الانطباعات السلبية عنه. لقد فرقت الحركة في بيانها بوضوح تام بين ثقافة بناءة معبرة عن الحق والخير والجمال تتخذ من الفن الراقي بكافة تمظهراته وأدواته وعاء لها، وتلتزم بالقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، وأخرى منفلتة عن القيم ومعبرة عن الضحالة والرذيلة والقبح، وهي في واقعها مدانة من كل ذي عقل ودين وضمير. إن هذه البلاد تحتاج إلى ثقافة جيدة تنقذ اقتصادها وأوضاعها الاجتماعية المتدهورة، وتعبئ المجتمع وتنهض به لتغيير الواقع، وبناء مستقبل مغاير له، في عملية تحديث شاملة تحقق الرخاء والنماء والمناعة، وهذه مهمة جسيمة تحتاج فيمن يعين وزيرا للثقافة أن يكون مفكرا واسع الثقافة والأفق والاطلاع، ولأننا لا نجد بين أيدينا مؤلفات ولا نعرف مؤهلات علمية أو شهادات دراسية جامعية لوزير الثقافة الحالي تؤكد لنا أهليته لما نصب له، فقد تصورنا أن من رشحه قد يكون أكثر علما به منا، حتى خرج علينا بما أذهلنا وصدمنا به. إنحركة التوحيد والإصلاح تعلن بوضوح تام أنها تتخذ من الدين الإسلامي مرجعية لها، وهذا أمر لا يمكن مؤاخذتها عليه، إذ أن الدين الإسلامي هو دين الشعب كله، ومن الطبيعي أن يلتزم به الشعب المغربي حكاما ومحكومين. والمرجعية الدينية في نفس الوقت مع الثقافة، لأنها بذاتها ثقافة، ولا تتناقض مع العقلانية، بل تدعمها، وحيث لا تعارض بين العقل والتقوى، وإنما هما بنيان واحد يشد بعضه بعضا. ولا تتعارض المرجعية الدينية مع العرف الحسن والمعرفة بل هي تأمر بهما ولا تتعارض مع القيم المتعارف عليها والمعتبرة بين الشعوب مهما اختلفت معتقداتها وأعرافها وألوانها وثقافتها باعتبارها من العرف المأمور به، ومن هذه القيم ما يتعارف عليه بحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حرية الإنسان في إبداء الرأي.وعندما تقول المرجعية الدينية بمبدأ الدين النصيحة أو بمبدأ وأمرهم شورى بينهم فهي بذلك تحمي الحق في إبداء الرأي المخالف أو الرأي الناقد أو الرأي الموجه للغير. وما تخرج به حركة التوحيد والإصلاح في بياناتها عن الحق المشروع عالميا في إبداء الرأي وممارسة الحرية في هذا الشأن، وسواء في ممارسة حرية الرأي استند الممارس لها على مرجعية دينية، أو أي مرجعية أخرى، فالجوهر في الممارسة واحد وهو حرية للرأي، والاختلاف في الشكل والصورة. إن النصيحة في الدين لا تعدو أن تكون إبداء رأي ناقد يروم إصلاح فاسد، والشورى في الدين هي في حقيقتها اعتراف بتعدد الآراء وإقرار لحرية الرأي، لأنك عندما تستشير الآخرين تتوقع ابتداء أنهم ليسوا على رأي واحد ، وإنما تهدف المشورة استعراض الآراء والتوفيق بينها وصولا إلى كلمة سواء ليس في الأخذ بها ضرر ولا ضرار. ولا يمكن لمن يعرف ما هي الثقافة، أن ينكر على من يمارس حقه في حرية الرأي والنقد ولو بصيغة النصيحة، استعماله لحقه، لأن المثقف الحق يدرك أنه بدون ذلك لن تتحقق وتنمو الثقافة، وتنتج تراكما ثقافيا ومعرفيا. ولذا فعندما يظهر الوزير امتعاضا أو رفضا للنقد/النصيحة، فإنه يثبت أنه خارج الثقافة وليس منها، إذ لو كان مثقفا حقا لعرض النقد على العقل والضمير وجادله بالحسنى وبعقلانية ومنطق سليم، فلنقد الرأي الآخر أصوله العلمية وضوابطه الأخلاقية، وليس مجالا لأعمال إديولوجيا مضللة، أو اللجوء إلى المهاترات الحزبية وما تقتضيه صراعاتها، وعليه في نقد النص، عرض النص، وإثبات ما قد يكون قد اعتراه من خلل ونقص، لا أن يستبدل النص الحقيقي بنص آخر مخالف يتوهمه لا وجود له، كأن يدعي وجود خلط في النصيحة بين التعبيرات الثقافية والانحرافات الأخلاقية، بينما نص النصيحة فرق بينهما بوضوح تام ولم يخلط بينهما، كما تعليل رفض التصيحةبتعويل الدولة على السياحة، هو خلط آخر، تابع فيه نفس النهج المغرض والسيئ الذي اتخذته الصحيفة التي استجوبته، فجاراها، كما يفعل أي امرئ عطل من الثقافة الحقة، وكنا نود لو أنه اعترف بالخطأ والتقصير كنقد ذاتي لعمل وزارته، وأعلن عن تدابير تجعل من المهرجانات الثقافية خادمة للثقافة، وليس على هذا النحو الذي جنح إليه بعضها، وليس كلها، كما جاء في النصيحة/النقد، والذي عبرت عنه النصيحة بلفظ الميوعة، وهو لفظ محتشم ومتحفظ يتفادى أصحابه استخدام لفظ يستغله خصومها المتربصون بها، ومع ذلك، لم ينفعها احتشامها وتحفظها، فارتفعت عقيرتهم بالصياح والاستعداء، وراحوا يقولون النصيحة ما لم تقله. إن حركة التوحيد والإصلاح لا تدعي الكمال في أقوالها واجتهاداتها، وليس في أهلها كبر أو عصبية من أي نوع تمنعهم من تقبل أي نقد موضوعي لهم يجدون فيه مزيد من الاهتداء للحق وما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وإذا مارست حقها في حرية إبداء الرأي فإنما تمارس الديموقراطية في أرقى أشكالها بينما يسعى خصومها إلى تكميم فمها، واستئصالها، إن أمكن، وهو ما يؤكد نفاقهم عندما يدعون الدفاع عن الديموقراطية وهم يذبحونها، ويحيلونها إلى استبداد في الرأي، واستبعاد لمن يخالفهم، توطئة لاستعباد بعد ذلك من ينخدع بهم، وهم يكذبون أيضا عندما يتحدثون عن الحداثة، وهم يقفون عقبة كأداء أمام تحديث الثقافة والاقتصاد والمجتمع ... إنهم في الواقع بلية أبتلي بها المجتمع، لا يسعه إلا الصبر عليها، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. عاد معالي الوزير في حديث للصباح يحاول أن يصلح ما أفسد، فأوقع نفسه في التناقض، فهو يقر أنه أضحى لزاما على الجميع المساهمة في النقد سواء تعلق الأمر بالبرامج أو المحتوى أو التنظيم أو التمويل، وما كان بيان النصيحة سوى نقدا للمحتوى وللتنظيم وللتمويل، نقدا للمحتوى باعتباره كان دون المستوى الذي يأمل فيه من على قناعة بأنه لا أمل في نهضة وتنوير وتقدم حضاري دون استخدام الأدب والفن الراقيين كآليتين ورافعتين ضروريتين للنهوض بثقافة المجتمع وليس الانحطاط بها، أما النقد في شأن التنظيم فقد عبرت النصيحةعن قصوره وكشفه عن نتائج هذا القصور، ولم تقل إن المهرجان حرض على الفساد والتحرش بالنساء وتناول الخمور والمخدرات وإنما كان ذلك نتيجة الخلل الواضح في التنظيم، أما عن التمويل فإنه من المنطقي أن يكون إنفاق المال العام على مهرجانات هزيلة المحتوى وسيئة التنظيم ومضارها أكثر من نفعها بمثابة إسراف وتبذير للمال العام، ولم يصل الأمر بالنصيحة أن تطالب بالحجر على السفهاء ورفع أيديهم عن تبذير أموال لو استثمرت في مشاريع إنتاجية للتنمية الاقتصادية وتشغيل العاطلين لكان ذلك أفضل للمجتمع. يقول معالي الوزير في حديثه الأخير ردا على التجديد: (مع العلم أن الفساد موجود بدون مهرجانات لأسباب يعرفها الجميع، ومن أراد أن يحاربها يخرج لها كود )، ويحق لنا أن نتساءل: أليس من مهمة وزارة الثقافة في بلد الفساد فيه موجود ، باعتراف وزيرها أن تجند جهودها الثقافية للقضاء على أسباب الفساد، بثقافة ذات نوعية راقية مناسبة لمجتمعنا كتلك التي اتسمت بها ثقافة النهضة والتنوير والتحديث في أروبا خلال تاريخها الحديث وبها استطاعت تخليص المجتمعات الأوروبية من فسادها والنهوض بها، أم أن الحداثة التي يعرفها الوزير هي إغراق الشعب المغربي في المزيد من الظلمات، وإبقاء مفاسده على ما هي عليه، والتصدي لكل من أراد تنويره بثقافة عالمة جيدة لكي ينهض من كبوته وتحقيق حداثته الحضارية . ويقول معالي الوزير أيضا في نفس السياق :(وأظن أن الشباب الذي يحضر إلى المهرجانات لا يقوم بذلك تحت رغبة الفساد، بل لأجل الموسيقى والإبداع والترويح عن النفس، ولم يكن الهدف الأساسي هو الفساد الذي لا يوجد سوى في مخيلة بعض العقول)، وهذه العقول التي يلمزها لم تتخيل أن الشباب ذهب إلى المهرجانات من أجل الفساد، ولو من قبيل الظن، بل هي واثقة أنه ذهب إليها، ولا تظن فقط مثل معالي الوزير، من أجل الموسيقى والإبداع والترويح عن النفس، ولكن هل وجد ما ينشده من ذهابه إلى المهرجانات؟ وفي الحديث الأخير للوزير يظهر اهتمامه بإبراز الكم وإقراره الضمني بضعف الكيف، حتى بالنسبة لتوزيع وزارته الدعم المالي على الفرق المسرحية، هذا الدعم الذي تكاثرت الفرق التي ربما تكونت لمجرد الحصول عليه ليس إلا، وأن يصرف عاما بعد عام منذ سبع سنوات على إنتاج هزيل بائس، والذي لا يعنى سوى وجه آخر من أوجه تبديد المال العام، ووجود فرقة واحدة جيدة قبل الدعم تعتمد على نفسها وتقدم عملا مسرحيا جيدا، هو أفضل من عشر فرق في مقابلها استنزفت أموال الوزارة في أعمال نصوص معظمها تافه، مما دفع لجنة التحكيم، عندما اضطرت إلى تحكيم ضميرها، أن تحجب جائزة التأليف والجائزة الكبرى للمهرجان السابع للمسرح الاحترافي هذا الحجب الذي لم يعجب الوزير، وهاجمه في المقابلة الصحافية لأنه فضح سياسة وزارته في توزيع الدعم وأنه لا يمكن حجب الشمس بغربال، فإنه يعترف ضمنيا بأن وزارته دعمت أعمالا مسرحية رديئة عندما يعتبر أن مهمتها فقط هي أن تعطي المال، ومهمة المنتج المسرحي هو تقديم الأعمال الجيدة، وأنه آن الأوان للحزم (من قبل الوزارة)، كي تشعر الفرق المسرحية والمؤلفين والمبدعين المسرحيين بضرورة القيام بجهد استثنائي بشكل يوازي المجهود الذي تقوم به السلطات العمومية (يعني وزارته )، لدعم القطاع المسرحي. ويعود الوزير مرة أخرى للإقرار بأن النقد الذي يوجه إلى الدعم فيه كثير مما هو نقد موضوعي، خصوصا عندما يتعلق النقد بحجم الدعم، وضرورة الفرز بين الأعمال العادية والأعمال المسرحية الاستثنائية الكبرى. إن الوزير الذي يقر على هذا النحو، وإن بقدر من المداورة على تبذيره المال العام في أعمال مسرحية تافهة، لا يجب أن يغضب كثيرا إذا ما أضيف إلى مصارف التبذير: مصرف المهرجانات اللاثقافية التي تنظمها وزارته، والذي يأتي في الحالتين، إن أحسنا الظن بالوزارة، نتيجة العجز عن إنفاق المال على ما يعود بالفائدة على ثقافة الشعب، على أساس أن فاقد الشيء لا يعطيه والوزارة إنما تعرض ما باستطاعتها إنتاجه من سلع فاسدة، ولا يجب مطالبتها بغيرها، حيث لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ومهرجاناتها ومسرحياتها هي كل ما في وسعها، ومن يريد غير ذلك، فليأت بوزير آخر لديه رؤية ثقافية مختلفة، عوض الدخول في جدل لا جدوى منه.