عقد الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب مؤتمره الوطني الرابع بمدينة الجديدة يومي 2 و 3 يوليوز .2005 و قد طغت على أعمال المؤتمر عملية تجديد الهياكل المركزية وذلك بغرض الانتقال من حالة التوافق إلى حالة الديمقراطية في فرز القيادات و تشكيل الهيئات. و مما لا شك فيه أن هذه الانعطافة ضرورية لبناء نقابة قوية وحاضرة بفعالية في معترك العمل النقابي. أما الميزة الثانية التي وسمت هذا المؤتمر فتكمن في طرح ورقة تأسيسية تروم تحديد هوية النقابة و إظهار تصورها للعمل النقابي من حيث آلياته ومقاصده. ويمكن تقسيم الورقة بشكل عام إلى ثلاثة محاور: محور التشخيص الذي استهدف تحليل أسباب أزمة العمل النقابي و التطورات التي تقف وراء ذلك؛ محور تصوري يروم إبراز أسس الشراكة في التصور الإسلامي؛ محور مطلبي خصص لجرد المطالب و الحقوق النقابية. ستنصب الملاحظات المتضمنة في هذا المقال على المحور الأول والثاني. بالنسبة للمحور الأول هناك ملاحظة عامة مفادها أن الورقة المعروضة على المؤتمر اتجهت إلى الخروج بخلاصات عامة مما دفعها إلى الوقوع في أسر المنطق النيو-ليبرالي المتخفي في جبة العولمة، التي كانت سببا في بروز التحولات الجذرية التي بنت عليها الورقة خلاصاتها. فمن الناحية المنهجية يمكن القول أن التعميم يصب تلقائيا في المنظور المؤسس للعولمة. وعليه سيتم طرح مقاربة تركز على اختلاف النماذج الاجتماعية الحاضنة للعمل النقابي و الذي يستمد ملامحه من سياقها. و لكل نموذج محددات منها العلاقة الجدلية بين التوزيع و الإنتاجية؛ والبنى المؤسسية والتنظيمية للعمل النقابي و المقاولة؛ ثم الإطار المؤسساتي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام. فيما يتعلق بالبعد التصوري للشراكة تمت الإشارة إلى أن الشراكة تحتاج إلى القيام بحفريات في الخلفية النظرية التي غذت منطق الاحتجاج و الصراع. و ذلك بغرض التخلص من العناصر ذات الطبيعة الإيديولوجية التي ما تزال راسبة في أذهان الفاعلين الاجتماعيين و الاقتصاديين. كما أن تلك الشراكة تحتاج أيضا إلى بناء مؤسسات قوية و شفافة قادرة على إعطائها المصداقية الضرورية لاستمراريتها. أما المحور الثالث فلم يتم التوسع في التطرق إليه لاعتبار واحد و هو أنه يمكن أن يضمن في برنامج نضالي بدل أن يكون جزءا من ورقة ذات طبيعة تأسيسية. و مع ذلك كان بالإمكان استقراء تلك المطالب و الحقوق للنظر فيما إذا كانت منسجمة مع المحاور السابقة أم لا. وعوضا عن ذلك تم الاكتفاء بالإشارة إلى ملاحظة رئيسة بهذا الشأن تتمثل في القفز إلى جرد مطالب جزئية دون تحديد الإشكالات الكبرى التي تندرج فيها تلك المطالب من قبيل سياسة التوزيع واتجاهها والمرونة و علاقة السياسي بالنقابي و الموقف من السياسات العمومية المتبعة في المغرب. العمل النقابي و العولمة بين التنميط والاختلاف استهلت الورقة بالحديث عن تجربة العمل النقابي في الغرب و الذي طغت عليه سمة الصراع الطبقي. ثم تم التطرق إلى مختلف التطورات التي شهدتها الدول الغربية، و التي أدت إلى تغيير الفلسفة التي يستند إليها العمل النقابي، وطبيعة الآليات التي يوظفها. مما لاشك فيه أن هناك ضرورة للانطلاق من رؤية شمولية منفتحة على العالم. وذلك، بالنظر إلى أن الحدود بين الدول أصبحت مخترقة بكثير من الظواهر المشتركة التي تحملها العولمة في طياتها. وإذا كان هذا الأمر يبرر رصد التجارب الدولية فإنه لا يبرر القفز إلى خلاصات معممة دون الوقوف مليا على طبيعة الشروط الموضوعية التي تعطي للعمل النقابي في كل دولة طابعا خاصا. ففهم تلك الشروط ضروري لإدراك المداخل العملية للتعاطي مع العمل النقابي بشكل سليم. وما يجعل هذا المطلب ذا أهمية هو أن المفردات المتعلقة بالخطاب النقابي لا تعني نفس الشيء حتى وإن كانت مشتركة. ففي سياق الدول الغربية قد تعني شيئا غير ما تعنيه في سياق الدول النامية. وعليه تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى الملاحظات التالية: رغم الإشارة، في سياق عرض التجارب الدولية، إلى تعدد التجارب التاريخية للعمل النقابي فإن محاولة الخروج بخلاصات اتجهت إلى التعميم مما أدى إلى طمس التنوع والغنى الموجود في هذه التجارب. وقد عمق هذا النزوع الاقتصار على تجارب الدول الغربية وتم تجاهل الوضع السائد في الدول النامية رغم الفروقات الكبيرة بينهما على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والمؤسساتية؛ لم يتم التطرق إلى التجارب الأسيوية خاصة اليابانية التي تشكل نموذجا مغايرا لما هو عليه الحال في الغرب؛ الخروج بأحكام معممة مرده فصل العمل النقابي عن طبيعة النماذج المجتمعية السائدة في الدول الغربية و التي تتسم بالتباين. إذ يمكن التمييز بين النموذج الأمريكي خاصة والأنكلوساكسوني عامة، والنموذج الفرنسي، والنموذج السويدي. يركز النموذج الأنكلوساكسوني على السوق. و في هذا السياق يمكن فهم القرارات الصارمة التي اتخذتها ماركريت تاتشر اتجاه الحركة النقابية. أما النموذج الفرنسي، فيتسم بهيمنة الدور التقليدي للدولة المركزية التي تتدخل في الحياة الاقتصادية و ترى لنفسها مسؤولية اجتماعية. ويتميز النموذج السويدي بنحت مسارات وسيطة بين الاشتراكية و الرأسمالية تمنح للعنصر البشري أهمية قصوى... ويمكن القول إن الرغبة في الوصول إلى أحكام تؤيد المواقف التالية أدى إلى التعميم الذي يستسلم إلى الاعتقاد بأن العولمة قد أحكمت قبضتها ومحت التباينات الموجودة بين الدول. مما لا شك فيه، أن تلك الأحكام المعممة تنطلق من شواهد واقعية مرتبطة بتحولات موضوعية تمس تطور بنية الاقتصاد الدولي. لكنها تقع في نفس الوقت في أسر المقولات النيوليبرالية التي تسوق للنموذج الأنكلوساكسوني. ومادام العمل النقابي، من المفترض فيه، أن ينطلق من موقف مناقض لهذا النموذج عليه أن يبصر الفروقات ويدعمها بدل أن يحاول، بوعي أو بدون وعي، تعميم القناعة بأن العالم أصبح خاضعا لمصير واحد وينطبق عليه نموذج واحد. فإذا كان تحرير التجارة الدولية قد عمل و يعمل على تنميط البنى الاقتصادية، وذلك ما تحقق بنسبة كبيرة، فإن المجال الاجتماعي ما يزال عصيا على كل محاولة للتنميط على منوال النموذج الأنكلوساكسوني. فالعولمة تدافع عن السوق ( تحرير التجارة الدولية) باعتباره الأسلوب الأكفأ والوحيد لضبط النظام العالمي في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية. غير أن السوق أعجز عن تحقيق هذا الضبط داخل الدول؛ فكيف يمكنها تحقيق ذلك على المستوى العالمي. و عليه يمكن القول إن العولمة تعمل من حيث منطقها إلى تعميم النموذج الأنكلوساكسوني (الأمريكي). وهي بذلك تشكل تحد للنماذج الأخرى خاصة تلك التي تحاول التوفيق بين البعد الاقتصادي والبعد الاجتماعي. في هذا السياق تحس فرنسا مثلا بأن التكاليف الاجتماعية للدولة تؤثر بشكل كبير على تنافسيتها الدولية. وذلك ما دفعها إلى أن تطالب بتوحيد القوانين ذات العلاقة بالبعد الاجتماعي. وهي إذ تفعل ذلك لا تنطلق من اهتمامات إنسانية ولكن بدافع تحييد ميزة انخفاض التكلفة الاجتماعية في الدول النامية، و الدول التي لا تولي المسألة الاجتماعية اهتماما كبيرا. لذا اعتبر موريس آلي ( الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل) أن الإغراق الاجتماعي يشكل عائقا أمام التحرير الدولي للتجارة. كما اعتبر أن العولمة تحتاج إلى مسحة إنسانية وأنها لايمكنها أن تستمر بصيغتها الحالية. ما يبرر التأكيد على الفروقات المرتبطة بالنماذج الاجتماعية هو أن العولمة توجد في وضعية صعبة إن لم تكن مأزومة. فنسبة نمو الاقتصاد العالمي بطيئة، والفوارق الاجتماعية بين الشمال والجنوب تزداد استفحالا، والنموذج النيو-ليبرالي يعرف مراجعة ( العودة إلى السياسات الصناعية كما هو الحال في فرنسا وإعداد تقرير ماكينزي في المغرب يصب في نفس السياق)، والأزمات المالية ما تزال تلوح في الأفق، والمنتديات الدولية تراوح مكانها. وكل ذلك يؤشر إلى غياب آليات دولية نافذة لضبط وتعديلالنظام العالمي خاصة في الجانب الاجتماعي. وهناك سبب إضافي للتركيز على تلك الفروقات يرتبط بالوضعية الخاصة للدول النامية. فتلك الأحكام التي تم الخلوص إليها بعد تشخيص التجارب الدولية لا تنطبق، بشكل مطلق، على الوضع السائد في الدول النامية. وذلك، لوجود اختلافات جوهرية في الأسباب التي أدت إلى أزمة العمل النقابي حتى وإن تشابهت مظاهر تلك الأزمة. فتراجع نسبة العمال، مثلا، في القطاع الصناعي هو ظاهرة مشتركة بين المغرب والبلدان الغربية. لكن تفسيره مختلف: فهو مرتبط في الغرب بالتطور التكنولوجي الذي أدى إلى التخلص من الأعمال اليدوية، وبالتحول الاقتصادي نحو المجالات التي تستدعي الاستعمال المكثف للمعرفة، بينما هو مرتبط في حالة المغرب بضعف القطاع الصناعي الذي لا يساهم سوى ب%30 في الناتج الداخلي الخام. كما أن فئة العمال المستخدمة في القطاع الصناعي بقيت تعاني من هشاشة وضعيتها بالنظر إلى اعتماد المقاولات،خاصة تلك العاملة في مجال النسيج، مرونة غير رسمية في تدبير اليد العاملة. و تعتبر هذه المسألة مؤشرا إلى عدم تبلور العلاقة الأجرية. كما أن كبر حجم و مساهمة القطاع الثالث في الناتج الداخلي الخام حوالي %50 لاتعود إلى تطور طبيعي للاقتصاد بقدرما هي نتاج انسداد آفاق تطور القطاع الصناعي. لذلك يمكن النظر إلى ضعف فئة العمال المستخدمين في الصناعة كمسألة مشتركة بين الدول المتقدمة والدول النامية غير أن أسبابها مختلفة. في الدول النامية يعرف العمل النقابي أزمة حقيقة بالنظر إلى أن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية تمر من مرحلة صعبة وقاسية نتيجة الضغوط الهائلة التي تحملها العولمة في طياتها. والضبابية التي تلوح في الأفق وتزيد من سوداوية المستقبل تكمن في أن الحلول المستمدة في ضوء المنطق المتحكم في العولمة تعمق من أسباب الأزمة بدل أن تساهم في علاجها. فالإقرار بالعولمة، كمعطى قائم بل كاسح، لا يترك مجالا للاختيار و بالتالي يدفع إلى التسليم بطريقة التفكير التي تفرضها. وحينئذ، لا يتم النظر إلى أن الأزمة تكمن في المنطق النيو-ليبرالي الذي تعممه العولمة بقوة السياسات المفروضة من فوق. غير أن هذه العولمة لن تعمل سوى على تعميق وتعميم الأزمة. ويتطلب الانعتاق من حالة الاستلاب هذه، الانطلاق من رؤية تطل على أفق أوسع، وتحاول هي أيضا أن تستقطب القوى الاجتماعية الفاعلة ورصدها في خط اجتماعي عالمي يعلن رفضه للمنطق الانكلوساكسوني المتخفي في دواليب العولمة. المنطق الثاوي وراء جملة التحولات الجذرية التي جاءت كخلاصات لسرد التجارب الدولية منطق نيوليبرالي. فاستقراء تلك التحولات، والتبريرات التي سيقت لدعمها، يصب في اتجاه إعلان انتصار الرأسمال على العمل، واختلال معادلة الاقتصادي والاجتماعي. ولا أعتقد أن مثل هذا الحكم بإمكانه أن يكون تأسيسا موفقا لإقامة علاقة شراكة بين الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين. نعم إن من أهم سمات العولمة هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات، مما يعني هيمنة منطق الربح على ما سواه. لكن هذا المنطق لا يمكن أن يستمر بدون وجود آليات تصحيحه تكبح جماحه وترمم آثاره السلبية. والعولمة ستصطدم، عاجلا أم آجلا، بحدود منطقها المؤله للسوق. فالرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي غير ممكنان، ما لم يتم تحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية على المستوى العالمي، وما لم يتم أنسنة العولمة لتصبح في خدمة البشرية ككل وليس مجرد نظام لتراكم الرأسمال والثروة بيد فئة قليلة من المترفين.