العمل على ملاحقة التقلبات السريعة والمنحنيات الحادة التي يشهدها العراق ليس عملا سهلا، إلا أنه ليس عملا ثانويا أو هامشيا بالنسبة لمن يفكر بأن يكون له موطئ قدم في هذا البلد. يحدّثني أحد الأصدقاء -وهو من المهتمين بالشأن العراقي- أنه لم يعد يفهم ما الذي يجري في العراق، وآخرون كُثُر هم أولئك الذين يشكون من اختلاط الأوراق وكثرة المفاجآت والتداخلات. الحقيقة أن هؤلاء الأصدقاء ربما تعرّضوا لشيء من التضليل، فالواجهات التي تتحرك باسم العراق، والتي تظهر على الشاشات وتتقن فن التسويق لنفسها وبناء العلاقات، يصنعون لأصدقائهم في كل مرة صورة معيّنة عن الواقع، ثم لا تلبث هذه الصورة أن تنهار في أول اختبار. لقد كان بعضهم يسوّق لنفسه أنه البديل الجاهز، لأن (حكومة الاحتلال) لا تستطيع أن تبقى يوما واحدا بعد خروج الاحتلال، وفي مجلس كنت أسمع لأحدهم أن الأمور كلها (مرتّبة) على أحسن ما يرام، وأن تحرير المنطقة الخضراء محسوب على حدّ (الطلقة)، وكنت في نفسي أتألم حينما أرى عواطف الناس وأسمع منهم (الله أكبر)، وربما كنت أبرر مثل هذا الخطاب بأنه لشحن الهمة ورفع المعنويات. خرج الاحتلال و (انتصرت المقاومة) لكن عملاء الاحتلال ازدادوا تمسكا وتشبثا بالسلطة، وأظهروا طائفية وعدوانية أشد، وصار أصدقاؤنا يتساءلون: أين هي المقاومة؟ وكيف عجزت عن معالجة (فلول الاحتلال) بعد تمكنها من هزيمة الاحتلال نفسه؟! تعددت الأجوبة، وكثرت التبريرات والتأويلات، ولم يجد بعضهم إلا شمّاعات جاهزة لتعليق اللوم عليها في محاولة للخروج من الحرج والتنصّل عن تحمل المسؤولية، وقد ساعدت هذه المحاولات البائسة والرخيصة في صناعة جوّ من الشك وفقدان الثقة حتى مع أقرب الناس، وهكذا ازداد الطين بلة والداء علة. في لحظة تاريخية، تمكن أهل السنّة من تجميع أنفسهم بعد استفزازات شديدة ومتتالية قامت بها حكومة المالكي، فانطلق الحراك السلمي الذي فتح نافذة كبيرة للأمل واستعادة الثقة بالنفس، وقد اتضح لكل المراقبين أن الذين يتحركون في الميدان هم غير أولئك الذين كانوا يتحركون على الشاشات، وهنا وقع الأخيرون في حرج شديد أمام (أصدقائهم) خاصة بعد نجاح قادة الحراك في توحيد مطالبهم وتعليقها في كل الساحات، وتعيين ناطقين رسميين لكل ساحة، وكان الخطاب كله خطابا سلميا إصلاحيا، يتعارض مع شعارات (الثورة المسلحة)، إلا أن قادة الحراك فشلوا على مدار سنة كاملة في إقناع الناس بالخيار الأنسب لتحقيق هذه الإصلاحات، وكان الخيار الأكثر جدلا هو (الإقليم السنّي). كانت فرصة للعرب أن يتدخلوا لتوجيه هذا الحراك واستثماره بالطريقة التي تخدم الجميع، خاصة بعد نجاحه في تجميع غالب القوى الفاعلة في الميدان، غير أنهم تصرّفوا وكأن هذا الحراك كله لا يعنيهم، ثم لما انتهى كل شيء عادوا إلى طريقتهم المثلى في عقد اللقاءات والندوات والمؤتمرات لتوحيد (الواجهات) وتقريب الوجهات!! مع أن هذه الواجهات كلها اتفقت أو اختلفت لا تستطيع أن تؤثّر في الميدان، بل إن أغلبهم لا يستطيع أن يصل إلى باب بيته! سواء كان بيته تحت سلطة العبادي أو تحت سلطة البغدادي!