يعتبر "شدان الصف" أو احترام الطابور من أجل قضاء مصالح المواطنين في المرافق العمومية أسمى سلوك حضاري للتعبير عن احترام حقوق الآخرين، إلا أننا نشاهد بشكل يومي أناس لا يروق لهم الانتظار، ولا يطيقون الوقوف في "الصف" ولو لبضع دقائق من أجل قضاء مصالحهم، وهؤلاء يمكن اعتبارهم إما جاهلين أو مغرورين.. وفي المجتمعات التي تحترم نفسها، تعتبر ثقافة "شدان الصف" من أبجديات التحضر، حيث يتربى المواطن على حب النظام واحترامه سواء في الشارع أثناء قيادة السيارة، أو في طوابير الانتظار في المواقع المختلفة. ولو حاول شخص خرق هذا النظام لوجد معارضة شديدة من المحيطين به، قد تبتدئ عندهم في مجتمعاتهم بنظرة المواطنين المستفسرة لهذا السلوك الهجين، وقد تنتهي عندنا في مجتمعنا بضربة رأسية مباشرة.! "خولة نموذجا". فظاهرة عدم احترام "الصف" وإصرار البعض على تجاوز من يقف أمامه لمجرد رغبته في استعراض قوته أو نفوذه، ترسخ في نفوس الأجيال الصاعدة ثقافة الفوضى التي ابتلينا بها. إن الأخلاق والسلوك المتحضر لا يتوقفان بالضرورة على الدرجة العلمية التي حصل عليها الشخص، ولا على شهرة هذا الفنان أو ذاك الرياضي، بقدر ما تكون ثقافات مكتسبة من الأسرة و المدرسة والمجتمع. اليابان التي تسبقنا بسنوات ضوئية في احترام "الصف"، بدأت بزرع هذه الثقافة وغرسها في نفوس الأطفال منذ الصغر في المدارس، وتقوم حالياً بتدريس التلاميذ في سنواتهم الأولى مادة تسمى الأخلاق، والتي تنشئ جيلاً واعياً يحترم نفسه والآخرين بطريقة ذاتية. احترام "الصف" إذن هو مؤشر دال على وجود مجتمع متقدم وراق، قادر على تنظيم ذاته بنفسه لمساعدة المواطنين على قضاء حوائجهم، وهو يدرك تماما أن هذا الإجراء سوف يلبي للناس احتياجاتهم ويقضي مصالحهم. ومن حسنات ثقافة "شدان الصف" أنها لا تفرق بين الكبير والصغير ولا بين الغني والفقير، فالكل يتمرن على تجسيد معاني الوطنية وتبادل الاحترام. وحتى في السياسة لا بد من "شدان الصف"، فالقيادات التي انتظرت دورها وتدرجت في مختلف هياكل أحزابها قبل أن تتزعم أحزابها، أبانت على حنكة سياسية عميقة، على عكس الزعماء الذين "قَطَّرَ" بهم سقف السياسة، ولم يحترموا "الصف" فأدخلوا أحزابهم في متاهات ضيقة. تربيتنا على احترام الصف، لا تعني تطبيق القانون بحذافيره، فالواجب الإنساني تجاه النساء الحوامل والشيوخ والأطفال والمرضى يستدعي تقديم هذه الفئة في العديد من المرافق العمومية، وهذا يدخل في صلب المواطنة.