الحب عاطفة إنسانية تتمركز حول شخص أو شيء أو مكان أو فكرة، وتسمى هذه العاطفة باسم مركزها، فهي تارة عاطفة الأمومة حين تتمركز عاطفة الأم حول طفلها. وتارة أخرى عاطفة حب الوطن حين تتمركز حول الوطن. ولهذا الحب علامات تظهر في أفعال المحب تجاه محبوبه. ولعل نكران الذات وتفضيل المحبوب على النفس من أولى مبادئ هذا الحب، لذلك اقترن حب الوطن بالإيمان، لا لشيء إلا لكونه قادر إن عم كافة المجتمع أن يرسخ بسهولة القيم الإنسانية والمبادئ العامة للمواطنة وللديموقراطية وأن ييسر تثبيت أسس التنمية المستدامة بكل مجالاتها ومكوناتها. هذه الأخيرة التي اعتبر مؤتمر الأممالمتحدة المعني بالبيئة والتنمية على أنها "التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون الإضرار بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة". تنمية تحافظ على الأراضي والمياه والنبات والموارد الحيوانية ولا تحدث تدهورا في البيئة، ملائمة من الناحية التكنولوجية وسليمة من الناحية الاقتصادية ومقبولة من الناحية الاجتماعية، تجعل الإنسان موضوعها الرئيسي والأساسي. لنتساءل بالتالي عن كنه العلاقة الموجودة بين الحب والتنمية؟ قبل الجواب عن هذا السؤال من حقنا أن نستفسر عن سبب تخلفنا على جميع المستويات؟ ألم تتبنى الدولة منذ الاستقلال مشاريع ضخمة سخرت لها ميزانيات مهمة، وما تزال تفتح الأوراش تلو الأخرى حتى أصبحنا نتحدث عن مغرب الأوراش الكبرى؟ ألم تدخل البلاد مرحلة المخططات التنموية الشمولية في جميع القطاعات: المخططات الخماسية، المخطط الأزرق، المخطط الأخضر، المخططات الاقتصادية، مخططات التعليم، المخططات الاستعجالية... القصيرة، المتوسطة والبعيدة المدى مع ما سخر لها من امكانيات مادية وتقنية وبشرية كبيرة؟ لكن رغم كل هذا وغيره ما نزال في ذيل قائمة الدول السائرة في طريق النمو: ارتفاع مستوى الأمية، الفقر، الرشوة، الفساد الإداري، الهشاشة، التخلف، التباينات المجالية، ضعف الديمقراطية، التنمية الاقتصادية المحدودة... فأين الخلل إذن؟ يكمن الخلل بكل بساطة في غياب صفة الإتقان في أعمالنا كلها. وهذا الإتقان لن يتأتى بدون تشبع صاحبه بحب ما يقوم به ولمن يقوم به. فالإتقان درجة عالية من العمل، نابعة من شعور داخلي بضرورة تأدية التكليفات بشكل كامل دون ترك أي مجال للخطأ وبحرص وحذر شديدين، يصل فيه صاحبه إلى درجة التلذذ دون أي مبالاة بالمستوى الاجتماعي للعمل الذي يقوم به. بل يعتبر أي تقصير منه بمثابة خيانة لمجتمعه ولوطنه الذي يحبه ويسعى لحمايته. وبالرجوع إلى مفهوم التنمية المستدامة، نجده يحاول أن يزيل عنا صفة الأنانية والعجرفة التي أوصلت العالم اليوم إلى شفا جرف هار. ليزرع محلها الحب ونكران الذات، بالتفكير لا في سعادة الجيل الحالي فحسب وإنما في مستقبل ومصير الأجيال القادمة. ففي نظري لا وجود لتنمية مستدامة من دون الحب الذي يعتبر أهم زارع لصفة الإتقان فينا. وإلا كيف تريدني أن أهتم ببلد أنا لا أحبه، أم كيف تريدني أن أبدع في عمل ليس بالنسبة إلي سوى مورد أحصل منه على أجر لنفسي ولمن أعول لا أرتاح فيه ولا أميل إليه؟ فبإجرائنا لبحث بسيط عن نسب الذين يحبون وظائفهم أو يحسون بعظم مسؤوليتهم أمام وطنهم أثناء مزاولة أعمالهم لفهمنا سبب تخلفنا وضعف مردودية مشاريعنا التنموية. بإمكاننا أن نقدم هنا مثالا بسيطا للغاية لكنه عميق في المعنى، ألم تلاحظ يوما وأنت تجوب شوارع وأزقة مدينتك وجود نوعين من الأطفال، بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي. أطفال ترعرعوا في أحضان الحب، بل هم أنفسهم ثمرة حب صادق بين شخصين ينظر أحدهما إلى الآخر بقلبه، فيراه كملاك طائر إن أبغض فيه خلقا أحب فيه أخرى، شعارهم الحب والمودة والرحمة. لذلك تجد أبنائهم غاية في الجمال والوسامة، تلمس في لعبهم حبا ومتعة، يبكون من مجرد رفع الصوت عليهم، سمّاعون للنصح متّعظون به... تلقوا التربية بالحب وتربوا على الأخلاق الحسنة. في مقابلهم تجد الأطفال الذين ولدوا نتيجة غريزة جنسية تمت تلبيتها، تربوا على الكلام الفاحش والسباب، تعودوا رؤية أمهم وهي تضرب أمامهم بوحشية من أب سكير أو متعصب، لا نلومهم إن لم يعرفوا للحب معنى، فهم إنما يجسدون ما تربوا عليه. لعبهم عنف، ضحكهم عنف، كلامهم عنف، جبلوا على تكسير وتحطيم كل شيء هم قادرون عليه جاعلين الهرب من العقاب رفيقهم الدائم، بعد أن فقدوا أهم وازع يمكن أن يقودهم إلى الأمن النفسي والمجتمعي في مستقبل أيامهم، وهو الحب. إن التشريعات والأحكام الإلهية المنزلة من غاياتها الأساسية نشر الحب بين الناس، حب الله وحب دينه وحب رسله وحب عباده والناس أجمعين. إن الله يحبنا وهو بنا رؤوف رحيم، لذلك أرسل إلينا رسله وأنزل علينا كتبه خوفا علينا من الضلال والتيه في غياهب الدنيا والضلال. ألم تدخل باغية من بني إسرائيل الجنة لأنها سقت كلبا، لأن شعور الحب فيها قادتها إلى العمل الصالح. وبالمقابل دخلت امرأة النار في هرة لحبسها إياها حتى ماتت، لكونها أقبرت الحب بداخلها وعوضته بالكره والحقد. فكيف إذا كان هذا الحب والعطف موجه إلى إنسان أو إلى شعب وأمة بأكملها حين يتعلق الأمر بنشر التنمية والتخطيط للمستقبل وتبني سياسة الإعداد الأمثل للتراب. ففي الحديث، أن من أزال غصنا معوجا أو أماط أذى عن طريق خوفا من أن يؤدي أي مؤمن فله به أجر عظيم، حتى وان أقبر نخامة خوفا من أن تؤدي أحدا في مشاعره فله بها أجر من رب السماوات والأرضين، بل إن الابتسامة في وجه أخيك صدقة، نظرا لما ترسخه من أواصر التحابب والتسامح بين الناس. وبالمقابل فالغش ترجمة لللاحب "من غشنا فليس منا". إن مجالاتنا وبيئاتنا تتأثر بمشاعرنا اتجاهها وتتفاعل معها، فبسهولة تستطيع التمييز بين المجالات المشيدة بالحب والمختلفة تماما عن تلك المشيدة بمشاعر الجفاء المطبوعة بالعشوائية. ألم يوصنا أجدادنا بأن نحب أرضنا إن أردنا أن تكون الغلة جيدة؟ ومن علامات حبنا إياها حرثها وتعاهدها بالصيانة وإزالة الضرر عنها لتبادلنا الحب بالحب والعطاء بالعطاء. وهنا سنتساءل عن طرقنا ومشاريعنا الإنمائية إن كانت أسست عن حب؟ وسرعان ما يأتي الجواب مع نزول أولى قطرات المطر. وهل كل البرلمانيين والوزراء ترشحوا في الانتخابات حبا ورغبة في خدمة مصالح الناس؟ الجواب نراه دائما في عدد الكراسي الفارغة أثناء جلسات البرلمان. وهنا سنتحدث عن مجتمعات الحب ومجتمعات اللاحب. فإذا كان المجتمع محبا لنفسه ولغيره فبسهولة سيغدو مجتمعا ديمقراطيا متسامحا محققا للتنمية في جميع مستوياتها، فما تكاد تدخل إلى مدينة من مدن هذه المجتمعات حتى تحس بالأمان وبالطمأنينة، المباني والمرافق العمومية ذات طراز معماري حديث، مساكن مبنية وفق الخصوصيات المحلية، تلمس فيها الاعتزاز بالهوية، فيها كل شيء جميل، الشوارع، الأمن، الثقافة العالمية... أما مدن مجتمعات اللاحب فهي جزء من مدينة أُهملتْ كل شيء جميل. العشوائية والصدفوية سبب نشأتها، غير مكترثة بالخدمات العامة الأساسية. إنها منطقة يراودك فيها إحساس بوجود أعداد سكانية زائدة عن الحاجة، وإحساس بعدم فائدة هؤلاء الناس وبأنهم قد سُرِق منهم شيء ما. نعم لقد سرقت منهم التنمية وسرق منهم الإحساس بالإنسانية. وكجواب عن تساءلنا الأول، فالتنمية المستدامة نتيجة حب بين الإنسان ومجاله ووسطه، وبهذا الحب يبنى الوطن وتوضع أسس الديمقراطية والحكامة وتتكرس المواطنة. فيعلن الحزب عن برنامجه الانتخابي الأمثل حبا في خدمة ساكنة مدينته، وتساهم الجمعيات المحلية والوطنية في وضع لبنات التنمية حبا في محيطها وساكنته، وتسعى وسائل الإعلام لنشر ثقافة التسامح والصدق والنزاهة وترسيخ عرى الحب بين الناس واضعة من أهدافها مراقبة سير دواليب التنمية ومحاسبة المقصرين. انه بنشر ثقافة الحب قولا وفعلا، سنصل إلى مجتمع الحب الذي يعطي لكل ذي حق حقه، وبدونه لن تحقق التشريعات والقوانين أهدافها، وذلك بتفشي أفعال اللاحب المغتصبة للحقوق والناشرة للفساد. وكمعالجة منه لهذه الحالة الشادة وحفاظا على استمرارية هذا الحب أوجد المشرع العقوبات لإرجاع الحقوق لأهلها. إن أفعال "اللاحب" تزيد التخلف والعنف والحقد والاستبعاد الاجتماعي والآفات الاجتماعية وتزيد من ضحايا "اللاحب" وبالتالي انخفاض مستوى الحب في المجتمع إلى أدنى مستوياته، ليعم الفساد كل مكان، في الأسر والأحياء والمدن والقرى والمحاكم والمدارس والمؤسسات الجماعية والوزارات والشركات العامة والخاصة... فالذي يميز مجتمع الحب هو كونه كلا متكاملا، لكل فرد منه دوره وتأثيره. الفرد فيه لبنة في صرحه، إذا فسد أو صدر منه سلوك اللاحب فمن الممكن أن يغدو كخلية سرطانية ستأتي على كل خلايا هذا الجسم المجتمعي. كل فرد مسؤول عن تنمية وسطه انطلاقا من سلوكه وتفكيره. وبالتالي فالحاجة ملحة لأن يسأل كل واحد منا نفسه عن مدى الحب الذي يكنه لمجتمعه ولبيئته، فمن الحمق أن تنتظر حبا وأنت لا تقدم إلا حقدا وتذمرا مسندا ظهرك إلى حائط أو معتكفا في قهوة الرصيف واضعا وجهك بين يديك. فمن رأيته ينحني على أذى يزيله في الطريق، ففي قلبه حب من رأيته يعين أخاه في أموره، ففي قلبه حب من رأيته لا يتهرب من الضرائب، ولا يخسر الكيل والميزان، ويعطي الأجير حقه، ففي قلبه حب من رأيته في مصلحة أو مديرية أو مستشفى ييسر أمور الناس ويقضي حوائجهم بأدب وإتقان، ففي قلبه حب من رأيته يبتعد وينزوي بنفسه في مكان خال ليدخن سيجارته، ففي قلبه حب من رأيته يزور مريضا، ويعطف على يتيم وأرملة، ويحترم كبيرا ففي قلبه حب من رأيته يسعى لتلبية رضا الزبون دون سعي لاستغلاله أو ابتزازه ففي قلبه حب من رأيته يحسن الإنصات للآخر، ويناقش باحترام وأدب، ويقارع الحجة بالأخرى، ويعترف بالآخر إن صدق، ففي قلبه حب من رأيته يزرع وردة، أو يسقي شتلة، أو يحمي شجرة، ففي قلبه حب من رأيته يوقف سيارته تاركا المجال لمرور الراجلين وهو يبتسم لهم في أدب، ففي قلبه حب من رأيته يتنازل عن منصبه لمن هو أكفأ منه، فاتحا ذراعيه لأي انتقاد، ففي قلبه حب من رأيته يسعى لتأدية رسالته بإتقان، موظفا كان أو مدرسا أو فلاحا أو مهندسا أو عاملا أو وزيرا أو ... ففي قلبه حب. ومن رأيته يستقبلك بتحية الصباح والبسمة تعلو محياه، عرفك أم لم يعرفك، ففي قلبه حب لنفسه، ولمجتمعه، ولبيئته، ولوطنه، وللأجيال القادمة. إن منا من سيقول أن مجتمعات الحب ضرب من ضروب الخيال، وحلم من أحلام قصص الأطفال، وبأن هذا شيء مخالف للواقع المعاش واكراهاته الدائمة. بالفعل لقد ابتعدنا كثيرا عن قيم الحب، حتى صرنا نخجل من ذكره لارتباطه في تمثلاتنا بالضعف وبتلبية رغبات آنية. متناسين أنه من أخلاق القوة وليس العكس، فإذا كان الشديد هو الذي يمسك نفسه عند الغضب فان الحب هو الذي يعطيه القوة اللازمة لذاك. إن مثال الطفلين السالف الذكر يبين لنا الأهمية الكبيرة للوسط وللأسرة في تخريج أجيال الحب أو اللاحب. فعندما تسترجع هذه الأخيرة مركزها ومكانتها الحقيقية كمحضن للأخلاق وكمربية للأجيال سيكون بوسعنا حينها الحديث عن مجتمع يحب نفسه وبلده وأرضه ولغته وتقاليده وكل فرد من أفراده. أي الوصول إلى مجتمع الحب، وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة. فلنتعاون جميعا ولنعمل بحب، وليكن هدفنا نشر الحب من حولنا وتبادله مع كل ما يحيط بنا، ابتداء بالإنسان وانتهاء بجزيئات الأوكسجين.