منذ زمن غير يسير أدرك أحد المستشرقين المبشرين طريقة فعالة في هدم جسم الأمة الحضاري فأطلق شعارا مسموما تلقفه زملاؤه العاملون، ملخصه أن قطع الشجرة ينبغي أن يتولاه أحد أبنائها ولن يكون بطبيعة الحال منهم غير العاقين لها، فتناسلت هذه السلالة في طول بلاد المسلمين وعرضها، اختلفت أشكالهم وتعددت شعاراتهم وتنوعت مداخلهم، وبقي ضرب الشجرة مقصدا جامعا لهم، واجتهد فصيلهم في بلادنا، وتوالت ضرباته الموجعة لهوية المغرب وأصالته الحقة، وها هم يعيدون الكرة بخصوص مادة التربية الإسلامية يريدون بذلك ضربة أشد مكرا وأكثر زلزالا وأعظم أثرا، تهم هذه المرة عموم الشعب المغربي المسلم صغارا وكبارا، رجالا ونساء، ماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها. ضربة تريد قطع الجذور وتجفيف المنابع ومحو الأثر، كي يصبح الإنسان المغربي شيئا آخر غير ما بناه عقبة بن نافع وطارق بن زياد والمولى إدريس وفاطمة الفهرية ويوسف بن تاشفين وعموم الأدارسة والمرابطين والموحدين والعلويين، والقاضي عياض وابن العربي المعافري وابن خلدون والمختار السوسي وعلال الفاسي وعبدالله كنون وعموم رجال القرويين وأساتذة مدارس محمد الخامس وغيرهم ممن حكم هذه البلاد بالإسلام أو بث فيها من العلم والتربية ما شكل ملامح شخصية المسلم في الغرب الإسلامي. أربعة عشر قرنا من الزمان، هكذا بجرة قلم طائش يراد تشطيب أثر مداد آلاف العلماء ودماء ملايين الشهداء ، وبنزوة إيديولوجية يراد طمس معالم شامخة، وبنفخة مسمومة يراد زعزعة جبال راسخة وتلويث بحار عريضة. إننا أمام مخطط ممتد امتداد الإسلام في هذا البلد، ذلك أنه جاء يحمل للناس التوحيد والاستقامة والحق والعدل والمعروف والحرية والكرامة، ومن الطبيعي أن يتحرك أعداء هذه المعاني ضد هذا الدين حفاظا على انحرافهم وباطلهم وظلمهم ومنكرهم، وقد نجح المجاهدون بعلمهم وسلوكهم أن يوحدوا عموم المغاربة على الخير الذي جاء به هذا الدين، بل وانطلقوا به إلى الأندلس وغيرها من البلاد المجاورة، واستمروا في صد هجمات الأعداء في الزلاقة والآراك ووادي المخازن وغيرها من المعارك الفاصلة، وحل بالمسلمين بهذه الديار داء الأمم فتخلفوا عن مقتضيات دينهم وزمانهم وأصبحوا يغزون ولا يغزون، ويهاجمون ولا يفتحون وغدا كل همهم كيف يردون الشر، وانشغلوا عن حمل رسالة الخير إلى غيرهم. مخلفات الاستعمار فكان بلاء الاستعمار الذي حكم البلاد وخطط لتأبيد الخضوع والاتباع، ولم يجرؤ على مس كثير من ثوابت البلاد إعمالا لسنة التدرج بالعباد، وإيمانا منه بأن حمل الناس على الكفر وما يعتقده جملة قد يأتي بنقيض القصد فيتركوه جملة، ووضع -الأسس الكبرى لسلخ الأمة عن دينها - باعتباره سر وجودها وقوتها واستمرارها في الإدارة والقضاء والتعليم وترك التفاصيل وعملية الأجرأة والتنزيل لتلامذته من بعده، ولمن رباهم على عينه إعمالا لقاعدة أن الشجرة ينبغي أن يقطعها أحد أبنائها. ففي التعليم مثلا أدرك أنه بصدد حامض فتاك يحيل الجبل الشامخ إلى كومة تراب، فاهتم بتغريبه وإلحاقه بمناهجه ورؤاه، وترك بعض ملامح الشخصية المغربية اليسيرة والمتمثلة في حصة يتيمة لا تتعدى ساعة في الأسبوع تتزاحم فيها اللغة العربية والتربية الإسلامية ويختار لها أسوأ الأوقات في آخر النهار، وأقل الأطر كفاءة في المناهج التربوية. وحاصر التعليم الإسلامي في القرويين وغيره، وهمش العلماء ماديا ومعنويا، ولم يعودوا هم مصدر تزويد البلاد بالأطر والموظفين وإنما تعطى الأولوية فيما فاض عن الإدارة الغاصبة لمن رضع من ثدي الاستعمار وتمرن على لسانه. وبعد جهاد كبير ونضال مرير من غيوري هذا الوطن، جاء أوان رحيل عساكر فرنسا وأغلب رجال إدارتها وفرح الناس لذلك ظنا منهم أنهم حصلوا على الاستقلال التام، فوضع السلاح ورجع أغلب المجاهدين إلى حياتهم العادية يحتسبون الأجر عند الله وتسابق آخرون على غنائم النصر، غيرأن توالي الأيام والشهور والسنين كشفت لكثير من المخلصين أن الاستقلال الكامل لم يتم بعد، وأن معركة التحرير لم تحقق كامل مقاصدها. فلغة المستعمر ماتزال صاحبة الريادة في مجالات مختلفة من حياة الناس، والرؤية العلمانية هي التي تؤطر في الأغلب الأعم نظرة وسلوك النخب الحاكمة وذوي القرار فينا، وقوانين فرنسا هي التي ماتزال تحكم معظم دواليب الحياة، والشريعة مهجورة في محاكمنا إلا فيما له علاقة بمدونة الأسرة، والتي تتلقى الضربات العنيفة المتوالية لزحزحتها وتبديلها أما التعليم فلاتزال نفس النظرة العلمانية هي المؤطرة له، فكما جعل لله ما في السماء الغيبية وللإنسان ما في الأرض أو عالم الدنيا، والدين لله والوطن للجميع، وما لقيصر لقيصر وما لله لله، جعل أيضا للإسلام مادة خاصة به من غير أن يكون له الحق في تأطير العلوم الأخرى بنظرته الخاصة ووضع الضوابط لها. شح في الحصص وبقي الشح هو الذي يطبع تعاطي المسؤولين مع مادة التربية الإسلامية من حيث الحصص ومعامل المادة مقارنة مع المواد الأخرى، وهكذا وبعد جهاد كبير ونضال مستميت دام عشرات السنين لم تحصل المادة إلا على معاملين وحصتين في الأسبوع للشعب الأدبية والأقسام الأولى لشعبة العلوم التجربية وحصة واحدة لباقي أقسامها وجميع أقسام باقي الشعب الأخرى، في تمييز غريب بين التلاميذ، وكأن بعضهم أحوج إلى معرفة الدين وفهمه من غيره، وأضاف هؤلاء إلى النظرة العلمانية اعتبار المادة مادة أدبية، وليست مادة حاملة لقيم ومفاهيم حضارية تدخل في صلب تكوين الشخصية المغربية. وقد بقي إصرار الفئة المتغربة على تهميش هذه المادة وإضعاف العربية اعتقادا منهم أن ذلك هو السبيل الأمثل للتقدم والتحديث، غير أن هذا المسار لم يأت إلا بمزيد من التبعية والإلحاق والغربة التاريخية، فلا نحن حافظنا على الامتداد المشرق لمغربنا يوم كانت رايته ترفرف في حدود فرنسا شمالا وحدود مصر شرقا ونهر السنيغال جنوبا، ولا نحن نلنا درجة محترمة في مصاف الدول المتقدمة ماديا وتكنولوجيا ومدنيا بما في ذلك الحرية والحقوق والتداول السلمي على السلطة من غير منحة أو منة، بل وصلنا إلى ما سمي بالسكتة القلبية أو اقتربنا من ذلك، وتزاحمنا في المؤخرة مع الدول التي تغلق بها الدنيا باب التخلف. والمغرب، وهو في هذه المحنة، كان من سوء حظه أن يصل إلى بعض مراكز القرار فيه جهات لا تمثل إلا نفسها أو عددا قليل أنصارها. فانطلقوا بعيدا في هدم الثوابت وزعزعة الأركان واغتنام فرص السلطة والغنائم التي جاءتهم على طبق مريح من غير أن يجلبوا عليه بخيل ولا ركاب إلا ما كان من ضجيج وعويل ومعسول الكلام يوم كانوا في المعارضة، ويوم جيء بهم ليتسنموا رقبة شعب لم يستشر، ظن الناس أو المغفلون منهم أن مع القوم صدقا ووفاء على الأقل في الجانب المادي وتحسين أوضاع المعيشة، فخابت الآمال وشغلوا الناس بالكلام عن الإكراهات والمشاريع في الأوراق والأوراش على الموائد وفي دهاليز الفنادق الفخمة، ولما أعيتهم العقبة الكؤود التي تقتضي الإخلاص والتجرد وإعمال الفكر وإبداع الحلول، لجؤوا إلى ما حسبوه هينا وهو عند الله عظيم. وفي عهد حكومة التناوب تم اقتراح إزالة مادة التربية الإسلامية من ثلاثة عشر شعبة من ضمن خمسة عشر شعبة واستبدالها بمادة ضعيفة هزيلة لا يمتحن فيها التلاميذ لا وطنيا ولا جهويا، وتحت اسم هلامي لا يدرى بالضبط ما يقصد به وبصفة اختيارية بجانب مواد معاصرة ولها صلة بمواد التخصص، مما يجعل فرص اختيارها نادرة، بالإضافة إلى إضعاف اللغة العربية وتعميم الفلسفة على جميع الشعب وجعلها إجبارية إما على الصعيد الوطني أو الجهوي مع تجريدها من المفاهيم الإسلامية وذلك بإقصاء مادة الفكر الإسلامي الذي بقي ملازما لها في السابق على علات ما كان يدرس فيه والطريقة التي كان يقدم بها، كل ذلك ليخلو الجو لما يتصور أنه مادة التنوير والعقلانية، وما يمكن أن تنقله من مفاهيم الحداثة الغربية وحقوق الإنسان كما يفهمها غير المسلمين بعيدا عن توجيهات الوحي وإرشاداته وضوابطه. وكان ذلك المشروع إحياء لرغبة دفينة تنتمي إلى عهد بريق الايديولوجية الماركسية المعادية للأديان والفطرة السليمة للإنسان والتي نبذها معظم البشر، إلا من عشاق نفايات التاريخ والحضارات وبفضل الله ثم بجهود المخلصين وعقلاء هذا الوطن تم تجاوز تلك المحنة، وبقيت المادة لم يمسسها سوء. إحياء رغبة دفينة وها هي المحاولة تتجدد بطرق ملتوية ماكرة غريبة، فبعد أن اجتازت مادة التربية الإسلامية عقبة الكتاب الأبيض وتم إقرارها في جميع الشعب العلمية والتقنية وبحصتين كاملتين، ومجزوأتين في الشعبة الأدبية أي أربع حصص في الأسبوع، فبدأ سوء التأويل والتنزيل، حيث جعلت في الامتحان الجهوي بدل الوطني، ولما تم تنزيل ورقة المستجدات التربوية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي من طرف الوزارة إلى الأكادميات والنيابات، لوحظ في أهداف هيكلة الجذوع المشتركة ورود عبارة تعميم (تدريس اللغات الأجنبية والفلسفة والمعلوميات على جميع الجذوع المشتركة)، ولما سأل بعضهم عن سبب عدم ذكر مادة التربية الإسلامية أجيب بما يشبه النكتة بأن شعبة التعليم الأصيل ليس فيها مادة التربية الإسلامية! غير أنه لم تسعفهم حيلة الجواب لما طرح السؤال نفسه عن عدم ذكر مادة التربية البدنية، فظهر قصد تلميع ما يراد تلميعه وحجب ما يودون لو كان بينهم وبينه أمدا بعيدا. ومهما يكن وحتى لا ننسب إلى محاكمة النوايا، فالحال واضح في تقاسم الأدوار، بين من يطرح في المركز إمكانية حذف مواد، ومن يقترح في الفروع من بعض المناضلين ضد هوية الشعب المغربي حذف مادة التربية الإسلامية، وحبك تقارير تجعل من الشاذ صوتا لمجمل الاجتماع. وعلى كل من يدعي حرصه على مستقبل البلاد أن لا يغامر باللعب بالنار، وإشغال الناس حتى لا يمعنوا النظر كثيرا في إفلاسه وسوء تدبيره وردته عن دعاوى خدمة الجماهير وخبز الجماهير ومجمل مصالح الجماهير، فها قد عجزتم عن تحقيق الوعود في دنيا الناس، فلا أقل من توقير دينهم، وترك ما يزودهم الصبر والحكمة في مواجهة واقع أصبحتم من المساهمين في صنعه. وأما أنتم يا حماة الدين وحراس العقيدة، أفيقوا من سباتكم، وامسحوا الغشاوة عن أعينكم، فهذا مخطط قديم بوسائل جديدة لايقلل من أوصافه شيء من معسول الكلام وجميل الاعتذار والتمسح بالإسلام والاختفاء وراء مصطلحات التقدم والحداثة وحقوق الانسان والتجديد والاجتهاد. محمد بولوز