هذا فصل من كتاب «حديث اليوم والغد» للفقيد الأستاذ محمد العربي الخطابي. وقد صدر في سنة 1955 والمغرب يخوض آخر مراحل الكفاح الوطني من أجل استعادة الاستقلال ووحدة التراب الوطني. وتضمن الكتاب تأملات عميقة في القضايا المطروحة حينئذ لبناء دولة الاستقلال. وهذا الفصل يتناول جوانب من المسألة الثقافية في ضوء التعددية الثقافية التي تتمثل في التراث المغربي المتعدد المشارب، وفي التيار المشرقي الوارد من مصر والشام، وفي ظاهرة كانت حديثة العهد وهي إنتاج فكري وأدبي باللغة الفرنسية تتجسد فيه المؤثرات التي أفرزها الاحتكاك بالثقافة الأوروبية. ويطرح الكاتب هنا وجهة نظره التي يمكن تلخيصها في أن الثقافة المغربية ستتفاعل فيها كل المكونات المشار إليها، وذلك في رحاب لغة وطنية قادرة على استيعاب التطورات المنتظرة في مغرب الاستقلال. هكذا ظهر الأفق حينئذ لمثقف شمالي من أيت خطاب (بني ورياغل)
ثقافتنا «إن بعث اللغة العربية عامل أساسي لاقرار السلام بين الأمم في المستقبل، وقد كانت هذه اللغة وماتزال في نظرنا نحن الكثيرين من الفرنسيين المسيحيين لغة الحرية المثلى، والحب والرغبة التي تسأل الله من خلال الدموع أن يكشف عن وجهه الكريم». المستشرق لويس ماسنيون قد لا يكون من السهل أن نتحدث عن مصير الثقافة والفكر في أمة تتجاذبها عوامل شتى، معظمها سياسي واجتماعي، ولا تهيمن بنفسها على مصائرها في كثير من مناحي النشاط والعمل؛ غير أنه في الامكان أن نستعرض الأحوال الراهنة التي تعيش فيها تلك الأمة، ونستخلص منها أسباب القوة والضعف وعوامل البعث والركود ، مع الاستفادة من ماضيها السياسي والاجتماعي والفكري. فبذلك نستطيع أن نتبين الطريق الذي تسير فيه ونلقى بصيصا من الضوء على مستقبلها الثقافي. ٭ ٭ لقد عاش المغرب الأقصى حتى الربع الأول من هذا القرن بمعزل عن العالم الخارجي، إذ أنه حتى بعد فرض الحماية الأجنبية عليه ظل زمانا طويلا بعيدا عن الاحتكاك بالأجانب ، قليل الاختلاط بهم، فكان أثر النهضة الغربية ومظاهر التقدم في أوروبا منعدما فيه بطبيعة الحال، خصوصا من الناحية الثقافية والفكرية، وكان المغرب لا يزال يعيش على تراث الاجداد. والدراسة في جامعة القرويين التي ظلت أكثر من عشرة قرون حاملة لمشعل العلوم والآداب في بلاد المغرب لم تكن تتجاوز العلوم الدينية واللغوية والآداب الإسلامية القديمة التي كانت تلقن بالطرق التقليدية وتدرس في الكتب والتصانيف المعروفة. ولم يبدأ احتكاك المغاربة الجدى بأوروبا الا بعد مرور أعوام طويلة على الشروع في تطبيق معاهدة الحماية الممضاة في 30 مارس من سنة 1912 وكانت أسباب هذا الاحتكام سياسية في بادئ الأمر؛ فقد أصبح المغاربة يعيشون، بحكم الوضعية الجديدة المفروضة على بلادهم، مع الأوروبيين النازحين الى المغرب، كما أدت يقظة الوعي في الطبقات المغربية المستنيرة الى الاحتكاك بالأوروبيين عن طريق الدراسة في مدارسهم والاتصالات السياسية والإدارية وغيرها. على أن جامعة القرويين التقليدية ظلت حتى بعد ذلك الاتصال موردا هاما من موارد الفكر والثقافة في المغرب الى جانب الرسالة الوطنية التي اضطلعت بها في كل حين. لقد حافظت جامعة القرويين على اللغة العربية والثقافة الاسلامية، فقامت في هذا المضمار برسالة شبيهة بالرسالة التي قامت بها جامعة الأزهر في مصر التي تعهدت حفظ التوازن بين الثقافة العربية الشرقية والثقافة الأورويبة العصرية، وصانت التراث الفكري الاسلامي من الضياع. وقد خرجت جامعة القرويين، بعد سنة 1930 طائفة من الرجال الذين ساروا في طليعة حركة البعث المغربي في جميع الميادين، الى جانب رجال نالوا حظا وافرا من الثقافة الغربية فاخترقوا بذلك حواجز التشكك والارتياب والحيرة التي كانت تحول دون ارتياد منابع المعارف العصرية، وبهذا وضح الطريق أمام الناشئة المغربية الظامئة الى العلم والثقافة، وزالت تلك الظلمة القاتمة التي حجبت النور عن المغرب زمانا طويلا. بعث وطني ورفع علم البعث أول ما رفعه طائفة من قادة الرأي والفكر، ومن الكتاب السياسيين، والشعراء الوطنيين، والخطباء الذين سعوا إلى ايقاظ العزائم النائمة وبعث النفوس الراكدة عن طريق الدعوة المباشرة والتدريس والكتابة والخطابة، وقد ساعدت العوامل السياسية المختلفة على تغذية هذه الحركة المباركة التي ظهرت في صورة بعث وطني ويقظة قومية. وقد كان تأثير جامعة القرويين كبيرا على النهضة الثقافية التي لازمت انتشار الحركة القومية في معظم جهات المغرب. وما أكثر الكتاب والشعراء والباحثين وقادة الرأي ودعاة التجديد الذين كونتهم هذه الجامعة العتيدة، وكانوا نواة البعث الثقافي في سائر أنحاء البلاد المغربية، خصوصا بعد الحركة الاصلاحية الكبرى التي ظهرت بين طلابها وأساتذها، وغذاها بعض قادة الرأي من ذوي الثقافة المزدوجة المتينة، وذلك بعد سنة 1932، وكان هدف هذه الحركة إصلاح برامج التعليم في القرويين، وإدخال النظم الجديدة اليها، وتحسين طرق التدريس فيها لتصبح كلية جامعة بالمعنى العصري المفهوم، مسايرة للتطور وروح الحضارة العلمية والادبية الكبرى المنتشرة في جميع انحاء العالم. وقد أتت تلك الحركة الاصلاحية التي ظهرت في جامعة القرويين بفاس ثمارها، وانتشر صداها في جميع جهات المغرب، وكانت وثبة طيبة في ميدان التعليم العربي العالي. وتأثير غربي والى جانب اللغة والثقافة العربيتين اللتين تمثلهما جامعة القرويين بفاس، وعدد من الكليات والمعاهد التي تطبق برنامجا دراسيا مشابها، نوعا ما، في مدن أخرى، نجد لونا آخر من الثقافة يتسم بالطابع الغربي الصرف وبروح التجديد. ويقوم هذا النوع من الثقافة في الغالب على أساس لغة أجنبية، وان كنا نراه يعبر عن نفسه في كثير من الاحيان باللغة العربية التي يجيدها طائفة من أولئك الذين نالوا ثقافة عصرية، وحصلوا على شهادات علمية عليا من جامعات الغرب. وهذه الثقافة الغربية التي بدأت تشق طريقها منذ عهد غير بعيد بين طبقات الناشئة المغربية، متشعبة بدورها وذات اتجاهات متعددة واغراض متباينة بحكم تنوع مصادرها وعدم وجود رابطة قوية بينها تدفعها نحو هدف واحد وجهة متقاربة. والعامل السياسي بعيد الاثر في ذلك، اذ أن تقسيم البلاد الى عدة مناطق بفعل ما يسمى «بالحماية» ووجود كل «منطقة» بمعزل عن الاخرى، واختلاف الاغراض السياسية والاسس التعليمية في كل منها، كل ذلك كان سببا لوجود فوارق ظاهرة في الاتجاه الثقافي العام. فنظام التعليم في الرباط مثلا يختلف عنه في تطوان وطنجة، والاغرض المتوخاة من التعليم في كل من هذه المدن الثلاث متباينة أيضا. فبينما يسعى الفرنسيون الى اقرار نظام تعليمي في منطقة نفوذهم يهدف الى تثبيت أقدام الثقافة واللغة الفرنسيتين تحقيقا لاغراض سياسية في الغالب أساسها الادماج، نرى الاسبانيين يعملون على نشر ثقافتهم ولغتهم لتأكيد علاقات تاريخية وجغرافية وثقافية، كمبرر اساسي لوجودهم وعملهم، أما في طنجة فتنازع السيطرة الثقافية قوى متعددة، ولاتخلو هذه التيارات كلها من دافع سياسي. التأثير المشرقي ولا يجب أن نغفل التأثيرات الثقافية الواردة من الشرق العربي، خصوصا من مصر ولبنان، تلك التأثيرات التي تجد حقلا خصبا بين طبقات الشباب الذين نالوا قسطا من الثقافة العربية الصرفة، ولولا الصعوبات والعراقيل التي يصادفها تسرب التيارات الفكرية الشرقية إلى المغرب الاقصى، لكان تأثيرها أقوى مما هو عليه الآن، حيث أن هذه التيارات تعتبر بمثابة نقطة التوازن بين الثقافة العربية البحتة والثقافة الغربية. ** وقد خطا المغرب خطوات ظاهرة في ميدان الثقافة بالرغم من العقبات الكثيرة التي تعترض سبيله، والمشاكل التي تباعد بينه وبين نهضة شاملة وتقدم حثيث، الا انه من الصعوبة بمكان تحديد مدلول الوثبة الثقافية في بلادنا، وتعيين مداها واتجاهاتها العامة لأسباب متعددة منها عدم وجود رابطة تؤلف بين عناصر الثقافة المتباينة، وانشغال البلاد بالمعركة التحريرية والكفاح الوطني، حتى ان معظم رجال الفكر والقلم قد ا نصرفوا بكليتهم الى هذا الميدان، ومما يزيد في هذه الصعوبة أن عددا من المثقفين المغاربة الذين نهلوا من منابع العلوم والآداب في الغرب قد انصرفوا الى الكتابة والتعبير عن آرائهم بلغة اجنبية، وقد أجاد بعضهم اللغة الاجنبية التي تعلمها واحاط بأساليبها إحاطة كبرى جعلته ينال بعض الجوائز الأدبية والعلمية الهامة التي تمنح في أوربا، ونذكر من هؤلاء على سبيل المثال الدكتور الحبابي، وهو عالم في الفلسفة، والأديب القاص ادريس الشرايبي. فهل يحق لنا ان نعتبر هذا الاتجاه خطرا يتهدد اللغة العربية التي يجب ان تكون لغة الثقافة القومية والتعبير الراقي في بلادنا، أم ينبغي لنا ان نسلم أن ذلك ليس الا لونا من ألوان التعبير عن هذه الثقافة القومية؟ وللإجابة عن هذا السؤال لابد من تحديد مفهوم الثقافة القومية وايضاح مدلولها. فالثقافة القومية كما أفهم هي الاداة التي نعبر من خلالها عن روح الشعب والقيم التي ينبغي ان يؤمن بها للمشاركة في المجهود الحضاري العام، والعمل على تحقيق المثل العليا لخير الانسانية جمعاء؛ والثقافة القومية في كلمات، هي وسيلة الشعوب لتبرير وجودها وقيمتها في المحيط الانساني الأكبر. ولكن تكون الثقافة قومية بالمعنى الصحيح لابد أن تصطبغ بلون حياة الأمة التي تنشأ وتترعرع في أكنافها، وأن تتخذ لغتها وسيلة للتعبير عن نفسها، ولا بأس بعد ذلك أن تتأثر هذه الثقافة بالتيارات الفكرية والعلمية والأدبية الواردة من الخار ج، وان تأخذ منها ما يطيب لها ويناسب ذوقها وبيئتها. من هذا نستنتج ان اللغة العربية لابد ان تكون لغة الثقافة القومية الناشئة في المغرب، باعتبارها لغة البلاد ووسيلة التعبير الراقي فيها منذ أقدم العصور. فالمحاولات التي يبذلها بعض المثقفين عندنا في سبيل الانتاج بلغة اجنبية، لايمكن أن تثمر كوسيلة للتوجيه الثقافي، ولايمكن أن تؤدى مهمة التعبير عن قلقنا الفكري والسياسي والاجتماعي خير اداء، كما أنها لاتستطيع ان تكون عاملا فعالا في حسابنا ان الثقافة لها رسالتان: رسالة الدعوة والتوجيه، ورسالة الأداء والتعبير. إذن فيجب أن يتنبه الادباء والمفكرون والباحثون الى هذه الناحية التوجيهية الهامة من نواحي الانتاج إذا كان يهمهم الاسهام في رفع دعائم ثقافة قومية في المستقبل تعبر تعبيرا صادقا عن روح الامة المغربية، وتعكس حياة شعبنا واحاسيسه وامانيه واهدافه القريبة والبعيدة، وتغرس في نفس أبنائه تقديس الحرية وحب الخير والحق، والدفاع عن المثل الانسانية العليا. لقد أثبتت تجارب التاريخ والحضارة أن الأمة العربية والمغرب جزء منها لم يرضخ في وقت من الأوقات لعوامل الادماج الكلي الذي تمحى معه شخصية الأمة ومقومات وجودها؛ فقد حافظت دائما على العناصر الحية لبقائها واستمرارها في الوقت الذي تفاعلت فيه مع الحضارات الأخرى فأثرت فيها وتأثرت بها. واللغة عنصر هام من عناصر البقاء والقوة في الامة العربية، فلابد إذن آن تستمر وأن تعيش وأن تساير الحضارة وتتفاعل مع التجديد، فتبقى لغة الثقافة والمعارف في البلاد المغربية دون أن يؤثر ذلك في أخذها بأسباب التقدم الحديث في جميع ميادين الحياة. تهميش مقصود واننا نرى كيف تفاعلت اللغة العربية بعلومها وآدابها مع الثقافة الغربية في البلاد العربية الأخرى التي نالت حظا أوفر من المعارف الحديثة والنهوض الشامل، حيث بقيت اللغة العربية محتفظة بجدتها ومرونتها وقدرتها الفائقة على العبير الراقي، والاداء الحي، فما هي الا ان نفضت عنها غبار السنين الذي كساها ثوبا من الخمول والركود والجفاف، وجارت بسهولة المقاييس الفنية الحديثة، فأصبحت ملائمة لروح العصر، وافية بأغراض العلوم والفنون والآداب. واننا لنذكر المساعي التي بذلت في المغربي كله في عدة مناسبات ولازالت تبذل في الجزائر على الخصوص، لاضعاف اللغة العربية والتقليل من شأنها، كلغة حية صالحة للعصر الذي نعيش فيه. وقد وقع ذلك تارة باسم الاصلاح والتطوير ونشرالعلوم والأداب الحديثة، وطورا بدعوى أن القسم الأكبر من سكان المغرب ليسوا عربا، الا ان الغاية في جميع الاحيان كانت أبعد من ذلك كله، كانت تطبيقا لسياسة غرضها ادماج شعب المغرب العربي في عنصر غريب عنه، لغة وتاريخا ومثلا عليا. وأننا نستطيع ان نلمس ذلك عن كثب في مناهج التعليم التي أريد تطبيقها دائما في المدارس الموجودة في بلاد المغرب العربي، كما نلمسه ايضا في اهمال اللغة العربية اهمالا مقصودا في جميع الادارات الحكومية وغير الحكومية، وقد اتخذت هذه المناهضة في كثير من الأحيان مظهرا سافرا تجلى في تضييق الخناق على المؤسسات التعليمية الحرة وعلى الصحافة العربية، والحيلولة بين المغاربة والاتصال بالشرق العربي، وسد الباب في وجه الكتب والصحف الواردة منه الى غير ذلك من صنوف المحاربة وضروب المناهضة. الا ان هذه المساعي والمحاولات كلها قدذهبت أدراج الرياح، ولم تجد فتيلا في القضاء على اللغة العربية التي بقيت تشق طريقها نحو النماء والازدهار، بفضل الجهود التي بذلها قادة النهضة وحماة القومية العربية في هذه البلاد. بعد هذا العرض الموجز للأوضاع الثقافية في المغرب يمكننا أن نستخلص ما يأتي: أن جامعة القرويين بفاس وغيرها من الكليات والمعاهد التي تسير على نظام شبيه بنظامها في المدن المغربية الأخرى حافظت على استمرار الثقافة العربية الاسلامية، وأمدت البلاد بطائفة من رجال الفكر والاصلاح وساعدت على بعث الروح القومية. وجامعة القرويين، بالرغم من محافظتها على المظهر التقليدي القديم، وعنايتها الخاصة بالعوم الدينية وآداب اللغة العربية، تقبلت دائما كل جديد صالح وتحمست له، وظهرت فيها عدة نزعات اصلاحية جعلتها تنقض عنها غبار الماضي وتثور على الجمود والرجعية، وقد لاقى طلابها في سبيل ذلك كثيرا من المصاعب والعقبات، فضلا عن المحاربة الشديدة والضربات المتتالية الموجهة ضد الحركات الإصلاحية التي ظهرت في قلب تلك الجامعة العتيدة، وذلك من طرف سلطات الاحتلال وأنصار الرجعية ودعاة التأخر. - عملت الثقافة الغربيةالجديدة التي نهل من منابعها عدد من أبناء المغرب النابهين، على تغذية حركة التجديد والبعث الثقافي والفكري، فكانت عاملا هاما من عوامل النهوض ويقظة الوعي في الشعب المغربي. - إن أسس هذه الثقافة العصرية الناشئة في المغرب مختلفة، وعناصرها متشعبة، وأغراضها متضاربة، بسبب العوامل السياسية وتعدد طرائق التعليم ومناهجه وسيره في المناطق المختلفة. - يميل بعض خريجي الجامعات الغربية إلى الإنتاج باللغة الأجنبية التي تقوم عليها ثقافتهم ومعلوماتهم، وهم لذلك لا يفيدون في ناحية التوجيه وتكوين الوعي الثقافي وتغذيته. - إن التيارات الفكرية الواردة من الشرق العربي لها أثر ظاهر في الاتجاه الثقافي بالمغرب الأقصى، وفي انطلاق القومية العربية من عقالها، بحيث أصبحت جميع الحركات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تظهر في أقطار الشرق العربي، تجد لها صدى بعيدا في أرجاء المغرب كله، وقد أدى ذلك إلى زيادة تفتح الوعي العربي عند طبقات الشعب المغربي المختلفة وتطلعها إلى الوحدة الشاملة والتحرر المطلق، حتى إن جميع المثقفين وقادة الفكر المغاربة قد نصبوا أنفسهم للدفاع عن الأهداف العربية العليا بكل الوسائل. من هذا نرى أننا أمام حاضر ثقافي وفكري مضطرب اضطراب الحياة العامة في بلادنا، ويمتاز هذا الحاضر بانعدام الاستقرار والترابط بين أجزائه المختلفة، كما يمتاز بتصادمه مع عناصر غريبة عنه دخيلة عليه، إلا أننا نستطيع أن نتبين من خلال حاضرنا الثقافي والفكري القاتم، مستقبلا مشرقا مفعما بالأمل تتكامل فيه عناصر نهوضنا وتقدم بلادنا في جميع ميادين الحياة، وتصبح الثقافة المغربية فيه من أقوى الأدلة على تحررنا الكامل من قيود الرجعية وانحطاط الفكر والشعور، ومن أبرز عوامل تحفزنا وانطلاقنا ومجاراتنا للحضارة البشرية والرقي الإنساني. ولا ريب أن المغرب سيحافظ - كا أسلفنا - على مقومات وجوده وعناصر قوميته التي تتصل بالسلالة العربية الكبرى وتهدف إلى تحقيق الوحدة بين سائر أقطارها، وإلى تخليد المثل الإنسانية العليا من حرية وعدم اجتماعي ورفاهية عامة وسلام. وستبقى اللغة العربية دائما رمزا حيا لهذه القومية، وقلبا نابضا ولسانا معبرا عن حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية على مر الأجيال، وإننا لنرى أن هذه اللغة تسير جنبا إلى جنب مع الحضارة، وتساير التطور، وتقبل كل جديد صالح. إن المصير الثقافي لأمة من الأمم مرتبط كل الارتباط بمصيرها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. والمغرب في كفاحه من أجل الحرية والاستقلال، لا يبخل بمجهود في سبيل تقدمه العلمي والأدبي، يشهد بذلك إقبال أبنائه على التعليم خلال السنوات العشر الأخيرة إقبالا منقطع النظير، وتشجيع المواطنين لمعاهد التعليم، وتزايد عدد المتهافتين على الدراسة العليا في الخارج، والتلهف الكبير على اكتساب الثقافة وتحسين المستوى الفكري، إلى غير ذلك من مظاهر الوعي الثقافي التي تبشر بمستقبل رفيع زاهر في سائر ميادين المعرفة والتقدم. والمغرب من جهة أخرى ذو موقع جغرافي ممتاز قريب من القارة الأوروبية، مما قد يجعل منه حلقة الاتصال الثقافي بين الشرق والغرب. وقد أظهر أبناء المغرب تقبلا سريعا للاتجاهات والمذاهب العلمية والأدبية والفنية الجديدة، وانسجموا مع التطور، وأقبلوا إقبالا شديدا على مناهل الحضارة والرقي، تحدوهم رغبة عارمة في رفع المستوى الفكري للشعب المغربي، وتطهير عقول المواطنين جميعا من الجهل والأوهام والجمود، سعيا وراء خلق جيل وثاب، جديد في روحه وطريقة تفكيره وعمله، وإيجاد مجتمع مستنير صالح يعرف حقوقه وواجباته، ويقدس الحرية والديمقراطية، ويخدم المثل الإنسانية العليا عن طريق ثقافة سليمة الأساس، متينة البنيان. وهاهي الطلائع الأولى من رواد النهضة والتحرر تتقدم إلى الأمام مستهينة بالصعاب والعقبات التي يضعها في طريق المغرب أعداء الكرامة الإنسانية وحرية الشعوب، ولن تلبث تلك الطلائع أن تشرف على الغاية.. حيث المستقبل مشرق بأنوار المعرفة والثقافة والحرية... ذلك المستقبل الذي ينطلق فيه نبوغ هذا الشعب من عقاله، وتتجلى قدرة أبنائه على الخلق والإبداع ومجاراة المدنية الكبرى، ويندفع فيه ذوو الأفئدة الحية والعزائم القوية إلى رحاب الحياة الكريمة الراقية في وطن تصان فيه قيم الحضارة ونتاج الفكر البشري، وتحل الحرية والعدالة الاجتماعية منه بأسمى مكان. ذلك هو مغرب الغد... المغرب الذي يجب أن تتضافر جهود العاملين المخلصين على رفع دعائمه وتوطيد بنيانه.