«من الضروري التصدي للحكومة الأمريكية التي تقمع الشعب الأمريكي وتقتل أبناءه. فهذه الحكومة الفاسدة قاتلة وكاذبة، لذلك أناشد الشعب الأمريكي أن يتخذ خيار الحرية والموت». هذه الكلمات ليست لناطق باسم الإرهاب الشرق أوسطي أو حتى العالمي بل هي مقتطفات من خطبة المواطن الأمريكي لويس بيم، التي ألقاها بتاريخ 23 يناير 1992 في منطقة جبلية (روكي) في ولاية كولورادو الأمريكية. في ذلك الاجتماع اتفق المتطرفون على إنشاء حركة ميليشيات المواطنين الأمريكيين، وهي الحركة التي نفذت بعد ذلك التاريخ، أشد أعمال الإرهاب الداخلي إيذاءً. وكان انفجار أوكلاهوما (1995) قمة هذه الأعمال. ومن الطبيعي القول إن قرار إنشاء الحركة لم ينشأ عن ذلك الاجتماع، فهذا الأخير كان مجرد لقاء إعلاني تنظيمي، لحركة نشرت مبادئها طوال سنوات. لذلك لا بد للمتابع من عودة إلى بدايات الإرهاب الداخلي الأمريكي. بدايات الإرهاب الأمريكي الداخلي يكتسي هذا الإرهاب صفة النازية الجديدة، إذ يدعو إلى نقاء وتفوق الجنس الآري. ويعتبر نفسه ناطقاً باسمه. وإذا ما توغّلنا في تاريخ أمريكا نجد أن هذه العنصرية، كانت ممارسة بصورة مشروعة في أمريكا، وأدت إلى قيام الحرب الأهلية الأمريكية. هذه الحرب التي وضعت بعض الحدود للممارسات العنصرية دون أن تلغيها. ولربما ساهم الصعود الأمريكي، الذي أبرز الولاياتالمتحدة دولة عالمية عظمى، في انشغال هؤلاء العنصريين بممارسة إرهابهم خارج بلادهم. خصوصاً مع الرخاء الاقتصادي الذي نعموا به خلال تلك الفترة. هذا ويرد موريس ديز، مؤلف كتاب الميليشيات الأمريكية انبعاث العنصرية الأمريكية الداخلية إلى بداية الثمانينيات. متجاهلاً بذلك أحداث الشغب العرقية التي شهدتها الولاياتالمتحدة في العشرينيات. ولهذا التجاهل مبرراته، وفي طليعتها تحول هذه الممارسات إلى العنف. ويركز ديز على زعيم هذه الحركة لويس بيم. دراكولا الأمريكي يعتبر لويس بيم، الناطق باسم شعوب الجنس الآري، التي تعيش في الولاياتالمتحدة ويتزعم أفراد جماعته. وهو قد بدأ تاريخه الإرهابي بالتحرش بالملونين في منطقة خليج غالفستون في العام 1981 حسين بدأ بتكوين عصابات من الشبان حوله. حتى توصل إلى جمع 25 عنصرا مسلحا يتفقون معه على تفوق الجنس الآري وعلى ضرورة تكريس هذا التفوق. كما عرف هذا الزعيم الحبس في ولاية أركنسو. وما إن خرج من الحبس حتى ذهب مع مجموعة من أنصاره إلى النصب الكونفدرالي في الولاية، حيث هتفوا: «فلتذهب الحكومة الفدرالية إلى الجحيم»، بعد هذه الحادثة بدأت جماعة بيم، تتخذ شكل التنظيم المسلح ذي المبادئ المعلنة بوضوح. فراح بيم يستغل الأزمات الاقتصادية الأمريكية، ويفسرها على أنها نتائج مؤامرة شيوعية سامية، تشارك فيها الحكومة الأمريكية. وعلى هذا الأساس كان بيم، يدعو هؤلاء المتضررين للانضمام إلى تنظيمه باعتباره الحل الأوحد لكل البيض الأمريكيين ولأزماتهم. دستور الإرهاب الأمريكي هذا الدستور عبارة عن رواية بعنوان : يوميات تيرنر لمؤلفها ويليام بيرس، الذي يعتبر أحد المنظرين الرئيسيين للميليشيات الأمريكية. وتتحدث هذه الرواية عن ثورة الجنس الآري. وهي تبدأ بنسف مبنى فدرالي أمريكي كبير، وتنتهي بحرب إبادة ضد الملونين الأمريكيين، وضد أعضاء الحكومة الفدرالية. ويعتبر المؤلف بيرس، أن الحركة تعبر عن وجدان الأمريكيين البيض الذين، وإن كانوا غير منخرطين فعلياً في هذه الميليشيات، ضاقوا ذرعاً بسيطرة اليهود على أمريكا، وبتصرفات الحكومة الفدرالية التي تراعي مصالحهم. وهو يؤكد أن الخلاص من هذه الحكومة لا يتم بالطرق الديمقراطية (الانتخابات) بل عن طريق الرصاص والدم والعنف (بما يدعوه أعضاء هذه الجماعات بالثورة الثانية). انطلاقاً من هذه المبادئ فإن هذه المليشيات تعد العدة لمواجهة شاملة مع الحكومة الفيدرالية، وفي سبيل ذلك فهي تكدس الأسلحة، وتسعى لتنظيم هيكلتها بصورة أفضل. حتى توصلت إلى إنشاء التحالف القومي للنازيين الجدد في أمريكا بزعامة بيرس، الذي يعتبر أن شعب الله المختار هو أعضاء هذه الميليشيات وليس غيرهم. فهو يعتبر اليهود أبناء الشيطان. أما عن استراتيجية هذا التحالف، فهي تتجلى بإخفاء الوجه العسكري، وعدم التركيز عليه، خوفاً من مواجهة مبكرة مع الحكومة. وفي المقابل، فإن هذه الحركة تعمد لاستثارة خوف ونقمة الرأي العام، وتضخم الأزمات وإبراز دور الحكومة فيها. وبذلك توصلت الحركة إلى طرح نفسها على الصعيد السياسي كناقدة محتجة على ممارسات الحكومة الفدرالية. وباكتسابها هذا البعد السياسي أصدرت فروع الحركة في الولاياتالمتحدة صحفها الخاصة. ومن هذه الصحف صحيفة المواجهة التي نشرت عقب انفجار أوكلاهوما رسالة لأحد قرائها يقول فيها : «إن عمليات عنف ستجري في كل مكان من أمريكا، وأنها ستشهد صراعاً دامياً بين الأجناس، ينتهي بانتصار الجنس الآري الأبيض، ويهلك الآخرون جميعاً، وستجعل الميليشيات الأمريكية النظام العالمي الجديد يدفع ثمن كل شبر يسيطر عليه في أمريكا، لأن هذه ا لميليشيات ستفرغ شحنة السخط والكراهية التي تملأ قلوب أعضائها ضد الحكومة الفدرالية، وضد الغرباء في أمريكا، التي تقف أمام مفترق طرق شديد الخطورة». المواجهات الأولى كما أسلفنا، فإن المشاعر العنصرية ومحاولات تنظيمها، كانت أقدم من ظهورها الفعلي، ومن هنا فإن الحركيين يعتبرون أن العام 1983 هو تاريخ سقوط أول شهيد لحركتهم، وهو المدعو غوردون كاهل، الذي قتل بعد أن حاصره مائة شرطي دون أن يستسلم. أما عن المواجهة الأولى الفعلية بين الحركة وبين الحكومة، فهي تعود إلى فبراير 1991 وحدثت في ولاية إيداهو. حين امتنع راندي ويفر عن الحضور إلى المحكمة لمحاكمته بتهمة بيع سلاح. فتوجه مع زوجته وابنتيه سارة وراكيل وابنه سام، وصديقه كيفن هارس، إلى كوخه في منطقة روبي ريدج. وكان راندي قد خزن كميات هائلة من الأسلحة في ذلك الكوخ، لمواجهة الحكومة الفدرالية عميلة الصهيونية، وهو تعبير متداول بين أفراد المليشيات. وكانت المواجهة من 21 إلى 23 غشت 1991 وأسفرت عن مقتل زوجة راندي وعن استسلام الباقين. وتحول موت فيكي الزوجة إلى قضية لكل المتطرفين، على اعتبار أن اغتيالها دليل على عداء الحكومة الفيدرالية. متطرفون ومتشددون يتفق أعضاء الميليشيات على عدة ثوابت خاصة بهم، وهي: 1 العداء للحكومة الفدرالية وللصهيونية. 2 ضرورة الخلاص من الملونين (النقاء العرقي). 3 العمل على سيادة الجنس الأبيض. 4 اعتماد العنف وسيلة للتغيير. لكن هذه الحركات تتمايز عن بعضها خارج هذه الحدود العريضة. كما أن لكل ولاية تنظيماتها المحلية الخاصة بها. وعلى سبيل المثال نذكر: التيار المعتدل (نسبياً) ويقوده جون بيرش. وهو يعتبر معتدلاً لعدم مساهمته في أعمال عنف ممتدة. التيار المتطرف ومن أبرز فروعه: حركة الوطنيين المسيحيين وتتوزع بدورها على عدة تيارات. حزب الشعب، ويقوده الجنرال بوجريتش (مقاتل في فييتنام ومرشح للرئاسة عام 1988). تنظيم الهوية، ويقوده وليام بيتر جال (مساعد سابق للجنرال ماك آرثر). الحزب الوطني الأبيض، ويموله المليونير روبرت دي بون. جماعة حليقي الرؤوس. ولكي نكوّن فكرة عن الخلاف الفكري بين هذه الحركات وبين جهاز القيم الأمريكي، فإننا نورد باختصار شديد مبادئ الحركة التي أسسها راندي ويفر (المشار له أعلاه) تحت اسم الأمم الآرية البيضاء. وهو يعتبر أن أمريكا هي أورشليم الجديدة، وأن الدستور الأمريكي مستمد من سفر العهد القديم، وقد أنزله الرب على الأجداد المسيحيين الأوائل، الذين قدموا إلى أمريكا الشمالية. وبالتالي فإن لقب المواطن الأمريكي يجب أن يحصر في البيض فقط. وللهروب من الملونين والغرباء الذين يلوثون أمريكا، فإنه من الأفضل العيش في الجبال. كما رأى راندي أنه إذا كان من المتعذر الخلاص سريعاً من غير البيض، فإن الخطورة الأولى تكمن في إقامة دولة خاصة بهم، في شمال غرب أمريكا. مع الإصرار على ضرورة استعادة السيادة للمواطنين الأمريكيين (البيض). الأمر الذي يحتم نشوب مواجهة بينهم وبين اليهود بصورة خاصة. حكومة ظل إرهابية بعيداً عن الآراء المتطرفة للعنصريين الأمريكيين، نجد وقائع عديدة تطرح نفسها بإلحاح. من أهم هذه الوقائع نذكر: أثبتت دراسة عرضها مؤتمر علماء النفس الأمريكيين، أن البيض يتساهلون بدرجات متفاوتة مع الملونين، لكنهم جميعاً غير قادرين على التقبل الكلي لغير البيض. مما يعني وجود درجات مختلفة من العنصرية. أن الجريمة المنظمة تملك فعالية مؤثرة في الاقتصاد والمجتمع الأمريكيين. وهي تتكامل غالباً مع مجموعة المصالح، ولكنها تتناقض مع القوانين الفدرالية. هنالك في النظام الأمريكي جماعات ضغط مختلفة المشارب والأهداف. تهاجم الحكومة الفدرالية بقسوة أحياناً. وهي تستخدم الوسائل المتاحة لها في هذا الهجوم. أن الإعلام الأمريكي لا يخلو من جرعات انتقادية للحكومة تتكثف أحياناً. كان العدو الشيوعي، يجمع الجمهور الأمريكي حول حكومته الفدرالية، لمواجهة هذا العدو. ولقد فقدت الولاياتالمتحدة عامل الجمع هذا مع فقدانها للعدو الشيوعي. يعترف المفكرون الأمريكيون، بأن القيم الأمريكية، مبنية على نقض ومخالفة قيم الأعداء. وعند افتقاد هؤلاء الأعداء، فإن نكسة ما تصيب جهاز القيم الأمريكي. هذه العوامل، وعديدة غيرها، تشير إلى أن العداء للحكومة الفيدرالية، ليس محصوراً بالميليشيات وحدها. بل إن هذا العداء يجمع أطرافاً عديدة أخرى في ما يشبه حكومة ظل، تعادي الحكومة الفدرالية، وتطرح ثقافة (وبالتالي قيماً) جديدة، تحمل مشاعر حقد دفينة تجاه الآخر. ولعل أخطر ما في ثقافة الحقد هذه، أنها تتوجه إلى أعداء داخليين، عندما تقع في مأزق غياب العدو الخارجي. وأجد من المناسب هنا التذكير بمقولة المستقبلي الأمريكي صموئيل هنتنغتون في مقالته الأخيرة تآكل المصالح الأمريكية، إذ يقول : «لقد سارع الأمريكيون إلى اتهام جهات شرق أوسطية بانفجار من صنع أمريكي، والمفارقة هي أن هذا الانفجار لم يكن ليحصل لو كان هناك فعلاً عدو خارجي». "ديز مؤلف كتاب الميليشيات الأمريكية:النازية الجديدة في أمريكا ظهرت في الثمانينيات