في اليوم ذاته والشهر ذاته حيث رأى النور، فاضت روحه إلى بارئها لكن السنة وحدها هي التي تغيرت، فالمفكر الراحل العراقي الأصل طه جار العلواني الذي ولد في 4 مارس 1935 غادرنا الجمعة الماضية 4 مارس 2016، بعد أن استكمل أجله عن سن 81 سنة محلقا في السماء على متن طائرة بين القاهرةوالولاياتالمتحدةالامريكية، بعد أن عاش محلقا في سماء الفكر والدعوة والإصلاح لا يعرف غيرها موطنا أو مستقرا. كان طه جابر العلواني -رئيس جامعة قرطبة بالولاياتالمتحدةالأمريكية- قد غادر القاهرة في طريقه لاستكمال العلاج بالولاياتالمتحدة، حيث وافته المنية وهو بالطائرة فوق الأراضي الأيرلندية. لم يكن الخبر خفيف الوقع على الآلاف من العلماء والباحثين والقراء في العالم العربي والاسلامي الذين ألفوا طه جابر العلواني كأحد الوجوه المعروفة والبارزة في الفكر الاسلامي حيث راكم عددا من الإصدارات من أهمها: "الاجتهاد والتقليد في الإسلام"، "أصول الفقه الإسلامي: منهج بحث ومعرفة"، و"إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم"، و"الأزمة الفكرية ومناهج التغيير". من عجائب العلماء ورجال الفكر أنه في الوقت الذي كان خبر وفاة العلواني يتم تناقله سريعا؛ كان إعلان آخر يتم تداوله عن محاضرة للمفكر ذاته كان ينتظر أن تعقد يوم 15 مارس الجاري حول "المنهجية الإسلامية للتعامل مع القرآن الكريم". مسار علمي وحركي في مساره العلمي والأكاديمي؛ حصل العلواني على الدكتوراه في أصول الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر عام 1973. وعمل أستاذًا في أصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض منذ عام 1975 حتى 1985. في عام 1981 شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولاياتالمتحدة، كما كان عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكةالمكرمة، وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة. هاجر إلى الولاياتالمتحدة في عام 1983، وقد ترأس جامعة قرطبة الإسلامية في الولاياتالمتحدة. وكان مقيمًا مع عائلته بالقاهرة في السنوات الأخيرة. تورد المصادر أن العلواني الذي ولد في الفلوجة بالعراق انخرط في العمل الاسلامي بها، ومارس التعليم الشرعي والوعظ والخطابة والكتابة منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، كما كان معارضا جريئا لنظام حزب البعث وهو ما دفعه اضطرارا إلى مغادرة البلاد عام 1969 حيث توجه إلى مصر ليحصل فيها على شهادة الدكتوراه في أصول الفقه من الأزهر، ثم بعدها إلى السعودية التي عمل فيها أستاذا لأصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود. في الولاياتالمتحدةالأمريكية سيشع نور طه جابر العلواني، حيث شارك مع الشهيد إسماعيل الفاروقي في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، قبل أن يخلف الفاروقي عام 1988 في رئاسة المعهد وحتى عام 1996. الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين نعى الراحل في بلاغ له معتبرا إياه علامة ومن أبرز أعمدة الفقه الاسلامي بأمريكا مؤكدا أنه بوفاته فقدتْ الأمّة الإسلامية واحدًا من علمائها. من جهته، قال شيخ الأزهر بمصر إن الأزهر إذ ينعى أحد أبنائه الذين تخرجوا في جامعته، وقدم العديد من الإنجازات العلمية والدعوية؛ فإنه يتقدم للعالم الإسلامي بخالص التعازي والمواساة. إيمان بالفكر والتعليم وقد ظل الراحل قوي الإيمان بالمدخل الثقافي والفكري والتعليمي في تحقيق النهضة، وهو ما جعله يصب كل تفكيره واهتمامه حول فكرة إسلامية المعرفة وإدراة المعهد العالمي للفكر الاسلامي والذي أصدر ضمنه العشرات من العناوين وأعداد مجلة إسلامية المعرفة التي تدعم الاتجاه ذاته، وهو ما لم يقتصر على العمل الأكاديمي إذ كان قد حول بيته في القاهرة بمصر للتعاون مع الحركات الثقافية الشبابية التي أنجبها الربيع العربي في مصر. عاش العلواني حياة فكرية غنية تزعم فيها الكثير من الأنشطة، كما عمل عضوًا في كثير من المجامع العلمية الدولية والمحلية، فكان عضوا مؤسسا في رابطة العالم الإسلامي، وعضوًا في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن، وعضوا في مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة. كما كان الرئيس المؤسس لمجلس الفقه الإسلامي في أمريكا الشمالية، ورئيس التحرير المؤسس لمجلة "إسلامية المعرفة"، والرئيس المؤسس لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فيرجينيا، وشغل منصب أول أستاذ كرسي للبرنامج المشترك في الدراسات الإسلامية الذي تقدمه عشر جامعات أمريكية في واشنطن العاصمة. يقول عنه زميله في المعهد العالمي للفكر الاسلامي، عبد الفتاح ملكاوي، إن "من أبرز ما عرفه منه حرصه على التعليم والتعلم، ففي مجال التعليم لم ينقطع عن تقديم الدروس والحلقات والدورات التدريبية الشرعية في منزله، على الرغم من مرضه المقعد في السنوات الأخيرة. وفي مجال التعلم، فإنه يحب أن يعرِّف نفسه بأنه طالب علم، يرغب ألا يقف في علمه وفكره على تخصص محدد، ويحرص على أية مناسبة تتاح له ليزداد علمًا، سواءً في قراءاته أو مناقشاته أو زياراته أو في مجالس العلم التي يعقدها. فكان دائم النمو والتطوير في صياغة أفكاره وتوضيحها وإعادة النظر فيها، من خلال مرجعية ثابتة تنهل من القرآن الكريم بوصفه المصدر المنشئ للعلم والفكر، ومن السنة النبوية الشريفة بوصفها المصدر المبين للقرآن الكريم. تنقل في اهتماماته وكتاباته العلمية من التخصص الأكاديمي في أصول الفقه، إلى فقه الأقليات، والأديان المقارنة، والسنة النبوية، وقضايا الفكر الإسلامي المعاصر. وتفرغ في السنوات الأخيرة لتدبر القرآن الكريم ونشر فيه حوالي عشرة كتب، وتحت الطبع ثمانية كتب أخرى". رحل العلواني بعد حياة عريضة ملؤها التفكير والتعليم والكتابة، ليس في الجوانب الاكاديمية فحسب وإنما عبر الصحافة أيضا والتي كان من آخر ما كتب منها مقالا حول "الوحدة العربية ضرورة حتمية" ختمه بالقول "يا قومنا إنَّ القرن الذي بدأ بتفريقنا في الحرب العالميَّة الأولى وجعلنا اثنتين وعشرين دولة عربيَّة يوشك على الانتهاء، وتجري الإعدادات لجعلنا الآن مائة، أو أكثر في ظل التجزئة والشرذمة التي تريدها لنا إسرائيل وحلفاؤها والمتضامنون معها، وما لم يبادر أهل الرأي والقادة ويسارعوا إلى العمل على توحيد العرب وجمع كلمتهم وإيجاد نوع من التكامل بين غنيهم وفقيرهم؛ فإنَّنا مقبلون على مزيد من التشرذم والتفرق".