نقدم في ما يلي للقراء نص مداخلة وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في الندوة الصحفية التي عقدها يوم الجمعة الماضي بمقر الوزارة، وفيها يحدد الدكتور أحمد التوفيق الإطار العام لسياسة تدبير الشأن الديني بالمغرب، كما حددها أمير المؤمنين، وتشرف الوزارة على تطبيقها وتنزيلها في البداية نحن نجتمع حول مرحلة من مراحل سياسة الشأن الديني في المغرب، لا بد أن أؤكد على ما هو واضح من أن هذه السياسة هي من تصور أمير المؤمنين وتخطيطه، وأن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما تعلمون، هي جهاز لتنفيذ هذه السياسة، وإخراجها إلى حيز الميدان، ثم إن هذه السياسة تتميز بأنها سياسة ميدانية، وليست سياسة نظرية وفكرية بقدر ما هي، في الوقت نفسه، سياسة ميدانية، بمعنى أنها تسلك أسلوب المقاربة الحديثة لتدبير شؤون الدولة الحديثة، أي معرفة الأطراف المعنية والقضايا المطروحة في الميدان، والتفاعل مع هذه القضية، إذ إن السياسة من هذا المنظور ليست شيئا جاهزا ومخططا نهائيا في البداية، ولكن مبادئها وأهدافها يسطرها القانون التنظيمي، الذي يكون إطارا لها، كما هو الآن بالنسبة للمرحلة التي نتحدث عنها، ثم إن هذا التعامل في الميدان يقتضي نوعا من التجريبية، لا سيما في ما يتعلق بآليات وشكليات التطبيق، علما كما قلنا بأن الأهداف والمبادئ الأساسية واضحة. التزام المغرب بإسلام سني إن ما يوضح ما قلته، هو التعبير الملكي الشربف في الخطاب الأخير لأمير المؤمنين في 30 أبريل في الدارالبيضاء، عندما وصف هذه السياسة بأنها استراتيجية مندمجة، وستحقق بتقنينات (نصوص قانونية) وتأهيلات ومقاربات في إطار نقاش وتعبئة واسعة لكل الفعاليات، لأن الأمر ليس أمرا إداريا محضا، ولا أمرا تدخليا للدولة، بقدر ما هو أمر ينبغي أن يكون متلائما مع طبيعته، وطبيعة الشأن الديني تظهر من هذه اليقظة، التي أصبحنا نشعر بها عند المواطنين في ما يتعلق بهذا الشأن، وتوقعاتهم وانتظاراتهم، وفي الوقت نفسه، غيرتهم وحرصهم على أن يطمئنوا من جهة ما يدبر أو ما يجري في هذا الباب. وفي مثل هذه الحالة فإن كل الفعاليات مدعوة للمشاركة والنقاش وإعطاء الرأي في هذا الشأن، لأنه شأن أساسي قاعدي في أمة تنطلق من مبادئ، وينص دستورها على أن دينها هو الإسلام، ولها تقاليدها، ومقومات تاريخية تستمد منها توجهاتها وتجربتها وهويتها في عديد من تميزاتها في داخل الإسلام، وإسهاماتها في بناء الصرح الإسلامي في ما يتعلق بالعقيدة أو الفقه أو المعاملات أو الثقافة الدينية المتمثلة في إسهاماتنا، سواء في لباسنا أو في معمار مساجدنا، أو في قراءتنا للقرآن، أو في الأشياء التي لها امتدادات دينية ثقافية، إذن فهنالك توقع لأن تكون هذه السياسة موضوع تعبئة لا موضوع اختلافات، لأن مبادئها هي مبادئ واضحة تستمد مقوماتها من التزام المغرب بإسلام سني مبني على الوحدة المذهبية. موقع الشأن الديني في اختيارات المغرب ولكن في الوقت نفسه، هنالك أشياء يتطلب الأمر تصحيحها، وتعبئة الجميع وتوضيح الرؤية وهو ما نعمل عليه، وفي الوقت نفسه، إفراغها في خطاب ملائم، إذن فهذه الاستراتيجية المندمجة تقتضي أيضا الملاءمة، والملاءمة مع المؤسسات الأخرى، إذ أن المغرب، كما نعلم جميعا، قد قطع أشواطا مهمة في تنميته في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية. وكل هذه التطورات، منذ خمسة عقود (منذ الاستقلال)، أدت إلى إنجازات مهمة، في الجانب السياسي إلى دمقرطة الدولة والمجتمع، وفي الجانب الاقتصادي إلى تنمية المنافسة الحرة مع ضوابط واختيارات الدولة، وفي الجانب الاجتماعي حفظ التوازنات ورفع شعار التضامن، وفي الجانب التعليمي نشر التعليم على أوسع مدى بواسطة المدارس. كل هذه الاختيارات لا بد أن نتساءل أين موقع الشأن الديني فيها؟ وأين موقع القيمين على هذا الشأن، ولا سيما العلماء؟ وبالتالي كيف تتحدد في وسط هذه التطورات وأنواع جوانب التنمية، مهمة جهاز الدولة في التدخل في ما يتعلق بالشأن الديني؟ وإذا تحدثنا عن الدولة هنا، فإننا نتحدث عن المؤسسة التي في عنقها وفي مسؤوليتها المحافظة على الدين، وبالتالي تدبيره، وهي إمارة المؤمنين، إذ أن الشأن الديني يقع في أعلى هرم مسؤولية إمارة المؤمنين، ودرجت على ذلك تقاليد المغرب التاريخية في البيعات المكتوبة التي نطلع عليه منذ قرون. تجديد الشأن الديني تقليد أصيل ثم إن التجديد في هذا الميدان ليس وليد 16 ماي ولا وليد 11 مارس، بل هو تقليد أصيل في الإسلام، والنصوص التي تلح على التجديد وتربطه تارة بقرن أو بمدة زمنية معينة معروفة في الإسلام، لا خلاف فيها. والتجديد في ما يتعلق بالمغرب أمر تاريخي، إذ ربما لا يعلم بعضنا أن ملوك المغرب انطلاقا من إمارة المؤمنين ومن البيعة، كانوا في كل وقت يصدرون مناشير لإعادة التنبيه إلى ما ينبغي أن يكون عليه الشأن الديني، وفي بعض الأحيان تتضمن هذه المناشير تنبيهات تتعلق بالمذهب، وتنبيهات تتعلق بالعقيدة، وتنبيهات تتعلق بالتعليم الديني، وتنبيهات تتعلق بالعلماء، وتنبيهات تتعلق بالمجتمع في ما يتعلق ببعض السلوكات أو البدع. ونصوص هذه المناشير معروفة، وأهمها تلك الرسائل المعروفة بالرسائل القرنية، والتي كانت آخرها الرسالة التي وجهها جلالة الملك الحسن الثاني تغمده الله برحمته، إلى الأمة، أسوة بآخر رسالة أصدرها جده مولاي الحسن في هذا الموضوع، وتسمى بالرسالة القرنية. وأذكر لكم على سبيل النكتة أنني كنت في سنة سبعين (1970) أقوم بأبحاثي الجامعية، وكنت أشتغل في أرشيف الجيش الفرنسي بقصر فانسين، فعثرت، بالصدفة، في صندوق من الوثائق على نص نسخة من الوثيقة التي بعثها السلطان مولاي الحسن إلى المغاربة، والغريب أن هذه الرسالة قد جاءت إلى وثائق الجيش الفرنسي على يد طبيب السلطان مولاي الحسن ليرانيس، وكان عليها طابع ليرانيس وبدائرته بخطه: أنا انسبب أو ربي إيداوي. هذا فقط لأقول لكم إن تقاليد توجه أمير المومنين إلى الأمة والتنبيه على أمور الدين وتجديدها، والتدخل في شأن العلماء، ليست مسألة جديدة في المغرب نهائيا. مفهوم اندماج الشأن الديني أما قضية الاستراتيجية المندمجة، فالقصد منها هو اندماج هذا الشأن في المؤسسات الأخرى، لأن تنظيمه بنصوص قانونية يجعله متصفا بصفات التنظيم المؤسساتي، والمؤسسات التي تطور من خلالها المغرب كما نعلم، هي المؤسسات السياسية والتربوية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك، وفي مقدمتها المؤسسة السياسية، المنبثقة عن السيرورة الديمقراطية، أي البرلمان والنقاش السياسي، فالنقاش السياسي الآن محله هو البرلمان، والنقاش المحلي محله هو الجماعات المحلية، والنقاش المجتمعي في السياسة وفي مختلف القضايا يتم في دائرة الحريات العامة، التي في إطارها تنشر الصحافة ما تنشره من أخبار ومن تعليقات ومن متابعات، كل هذا لا بد أن يحدد في إطاره وفي ضوئه موقع الخطاب الديني وموقع الفاعلين الدينيين. فهذا الاندماج هو الكفيل وحده، إذا توافقت عليه الأمة، وإذا تحددت معالمه، وإذا اقتنعت به الأطراف المعنية، أن يصبح اتفاقا يتحدد به السلوك، وتتجنب به جميع أنواع التبذير في القوى، ويتم به الاقتصاد في السياسة أيضا، بمعنى أن جميع الذين يتولون الخطاب الديني، هم قبل كل شيء مواطنون، بمعنى أنهم يستطيعون، قبل أن يتولوا الخطط الدينية، أن يقوموا بما هو مفتوح لجميع المواطنين، من المشاركة السياسية والدخول في الانتخابات، والدخول إلى البرلمان، وأن يديروا وينشئوا صحيفة سياسية... النقاش السياسي له مؤسسات مختصة فمن قبل كان القيم الديني ينتظر منه أن يقوم بكل هذه الأدوار، أما الآن وقد اجتهدت الأمة في دائرة مقاصد الشرع لأن مقاصد الشرع هي مكفولة بضمانة إمارة المؤمنين في حفظ الدين والتي هي نفع الناس، ونشر العدل بينهم، وجدت مؤسسات، بعضها له أصل في ديننا، وبعضها من حيث الأساليب مستقى من التجارب الإنسانية ولا يهم. هذه المؤسسات كلها تقوم بدور يقع في صميم مقاصد الدين، وهو نفع الناس وإرساء العدل بينهم، وهذا اختيار الأمة، باسم الاختيار الديمقراطي، بمختلف تجلياته، فلجميع المواطنين الانخراط فيه، وإذا تخصص أحدهم في الجانب الديني لكي يتوجه إلى الناس بخطاب ديني في المسجد كخطيب أو كواعظ، فلا بد أن يعرف أن هنالك مؤسسات مختصة، لها قواعد مختصة، إما نقاشا سياسيا داخل البرلمان أو في الساحة العامة للمجتمع أو في الصحافة أو في غيرها، أما الدين والخطط الدينية، فلها تقاليدها في عدم التخصيص، بمعنى لا تخصص، فلا تقوم بدور القاضي ولا بدور النيابة العامة، ولا بدور التفتيش ولا غير ذلك، فقط تبقى محترمة. دور العلماء إرشادي إيماني تخليقي ويبقى الدور الذي أراده أمير المؤمنين للعلماء، وليعرفه العلماء من جديد، هو الدور الإرشادي الإيماني التخليقي، لأن مؤسساتنا كجميع المؤسسات في العالم، مهما تطورت سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، هي بحاجة دائما إلى روحانية، وإلى إيمان وإلى أخلاق تبعد عنها وتبعد الناس عن أنواع الفساد، الذي تعاني منه المؤسسات. ولا يعني أن التخليق لا يقع على عبء أطراف أخرى تستمد مراجعها من مصادر أخرى. ولكن مصدرنا الأساس في تخليقنا هو تخليق لا ينبني على حسابات، إنما ينبني على الإيمان بالله والتقوى... وهذا سبيل العلماء، وهم لا يستغنى عنهم في هذا بجميع الوسائل، ولهم دورهم، فالعالم قبل كل شيء هو أسوة للناس، ولذلك دعاهم الخطاب الملكي السامي إلى أن يكونوا قريبين من الناس، وألا تكون المجالس العلمية جزرا مهجورة، لما لا ينضم إليها كل العلماء، لأن العلماء لا يتوقف عملهم من حيث عقيدتهم على أن يكونوا في إطار محدد، ولكن يعملون انطلاقا من عقيدتهم، ويضاف إلى هذا أن النص الأخير الذي صدر في الجريدة الرسمية، الموقع بتاريخ 6 ماي ,,.2004 يفتح الباب أمام العلماء. فالمجالس العلمية يمكن لها أن تنشئ فروعا في العمالات الأخرى، ثم أن تستعين وتكون رجالا من الخبرة... فالمجال مفتوح للعلماء، يمكن أن يحصلوا على وسائل العمل من خلال هذه المجالس العلمية، بالإضافة إلى أن العلاقة بين المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى أصبحت الآن هرمية، بحيث إن عمل المجالس العلمية سيكون أولا وفق نظام داخلي، ثم وفق برامج يراقبها ويؤشر عليها المجلس العلمي الأعلى، وهناك إذن تأسيس ومأسسة كما يقال لهذا الشأن، حتى نحقق هذا الاندماج مع المؤسسات الأخرى، وتتبين في ضوء هذا الاندماج، الأدوار، ولا سيما أدوار العلماء، وما ينتظره المواطنون منهم. فهذا باختصار ما أردت أن أقوله لكم في المقدمة وأتوقع أن تكون المسائل الأساسية من خلال الأجوبة على أسئلتكم.