منذ النصف الثاني من عام 2015 بدأت ملامح انتفاضة فلسطينية ثالثة تظهر في الأفق، فبعدما توالت اقتحامات جيش الاحتلال الإسرائيلي لساحات المسجد الأقصى، والاعتداءات على المرابطين في المسجد، وتوالت اعتداءات مستطونين على عائلات فلسطينية. لم يجد الشباب الفلسطيني بدا من إعلانه مقاومته ورفضه لانتهاكات الاحتلال والدفاع عن كرامته وأرضه ومقدساته، وبدأت انتفاضة سماها البعض بانتفاضة السكاكين. هذه الانتفاضة الفلسطينية دائما ترزع الرعب داخل الاحتلال، وتجعله يستنجد كعادته بالغرب لتهدئة الأوضاع. والمؤلم والمؤسف أن التهدئة دائما تكون على حساب الفلسطينيين وحقوقهم دون أن يتغير السلوك الإسرائيلي الاحتلالي أو يقل عدوانه، بل تزداد الأوضاع سوء بعد اغتيال انتفاضاتهم بسكين المفاوضات، رغم أن السنين الماضية أثبتت أن تلك المفاوضات من أوسلو وإلى يوم الناس هذا، كانت في صالح الاحتلال فقط. ولنعد للانتفاضة الأولى، انتفاضة الحجارة التي أطلق شرارتها دهس شاحنة إسرائيلية في 8 ديسمبر 1987 لعمال فلسطينيين في مخيم جباليا. هزت أركان الكيان الإسرائيلي، الذي قابلها بالدبابة وعجز قمعه وهمجيته ( آلالاف الجرحى ومئات المنازل المدمرة المنسوفة ) وقتله (حوالي 1162 شهيد من بينهم 241 طفلا) وإرهابه على إيقافها انتفاضة الفلسطينيين. لكن المفاوضات أجهضتها وبدأت تتراجع عام 1991 وصولا لتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين الكيان الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهو الاتفاق الذي يكاد الكل يجمع على أنه خدم الكيان المذكور، ولم يقدم للفلسطنيين على أرض الواقع شيئا مذكورا. وفي الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى التي فجرها تصدي فلسطينيين لمحاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون يوم 28 سبتمبر 2000 اقتحام المسجد الأقصى، حيث اجتاح الغضب الشعب الفلسطيني . وتأجج أكثر مع مقتل الأطفال بدم بارد كما حصل مع الطفل محمد الدرة أيقونة تلك الانتفاضة، التي فضحت الكيان الإسرائيلي في العالم كله وعرت حقيقته الوحشية الاحتلالية. ارتفع عدد الشهداء في تلك الانتفاضة إلى حوالي 4412 شهيدا وقرابة 48322 جريحا. لكن ذلك لم يفت في عضد الشعب الفلسطيني، بل زاده قوة ومقاومة مقابل ارتفاع حالة الرعب داخل الكيان الإسرائيلي بعد مقتل أكثير من ألف مستوطن فيهم جنود ومدنيون، فضلا عن أكثر من أربع آلاف مصاب، بعدما وصلت صواريخ المقاومة إلى بلدات ومدن ومستوطنات عديدة في الكيان المذكور. ولقيت انتفاضة الأقصى دعما عربيا وإسلاميا، وإجماعا فلسطينيا، لكن المفاوضات أجهضت مرة أخرى هذه الانتفاضة بعد تدخلات من الغرب والإدارة الأميركية، وبالإجمال ضغوط خارجية، وحسابات سياسوية داخلية، فوقعت سلطة المفاوضات اتفاق هدنة في قمة شرم الشيخ عام 2005، دون أن يتحقق شيء مهم للفلسطينيين. واليوم نفس المصير يهدد الانتفاضة الثالثة في ظل سلطة فلسطينية فاقدة للشرعية الديمقراطية ورئيس منتهية صلاحيته، ينضاف لها وضع عربي إسلامي مأزوم، ظن الاحتلال الإسرائيلي أنه مناسب للانقضاض على المسجد الأقصى، لكن الشباب الفلسطيني كان له -على ضعف حيلته وإمكاناته- بالمرصاد وزرع فيه الرعب، جعل وزير الخارجية الأميركية يهرول إلى الشرق الأوسط لتهدئة الأوضاع، فالتقى بمسؤولين فلسطينيين بقيادة الرئيس محمود عباس، الذي جدد مطلبه بحماية دولية للشعب الفلسطيني، وهو المطلب الذي لن يوقف عدوان الاحتلال بل يضيق على المقاومة الفلسطينية ويحاصر أكثر الفلسطينيين. وبالطبع لم يهتم كيري بمطلبه، لأنه لم يتجشم عناء السفر لذلك، بل جاء لمصلحة مدللتهم دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولمزيد من الضغط لوأد الانتفاضة في مهدها، باستعمال سلاح التهديد بخفظ المساعدات الأميركية السنوية للفلسطنيين ب 80 مليون دولار أي من 370 مليون دولار إلى 209، وهو السلاح الذي سبق وأن استعملته الإدارة الأميركية للحيلولة دون سعي فلسطين للانضمام لاتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية. وهذا طبيعي لأن اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة لا يلعب، بل يشتغل بالليل والنهار وفي كل المؤسسات المؤثرة في القرار الأميركي، وفي هذا السياق ووجهت الجمهورية كي غرينغ رئيسة لجنة الميزانيات الخارجية في الكونغرس رسالة تهديدية إلى محمود عباس، تؤكد أن استمرار الانتفاضة التي سمتها تحريض"سيؤدي إلى وقف المساعدات الأميركية". ووصل التهديد والضغط بل الابتزاز مداه بحديث عضو مجلس الشؤون الخارجية، إليوت أبراهام عن فساد يكتنف عمل السلطة الفلسطينية، وطالب بوقف دفع المساعدات لها، بل أوصى بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وعدم إعادة فتحه إلا بعد إخماد انتفاضة الشباب الفلسطيني التي وصفها ب"التحريض". وبالطبع سلطة تفتقد شرعية ديمقراطية وتفتقر لإجماع وطني فلسطيني حولها لايمكنها إلا أن تواصل مسسلسل التنازلات، وبين الفينة والأخرى تقوم بخطوات سياسية تعتقد انها ستضغط على حكومة الاحتلال، من قبيل الموافقة على توصيات اللجنة السياسية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية بسحب الاعتراف بدولة إسرائيل، ومطالبة الجمعية العامة للأمم المتحدة بسحب اعترافها بالدولة المذكورة أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، واعتبار اتفاق أوسلو وكأنه لم يعد قائما. لكن هذه الخطوات التي تتم تحت ضغط الانتفاضة، وعجز الإدارة الأميركية على إقناع الاحتلال الإسرائيلي بالعودة للمفاوضات، اصطدمت برفض بل بغضب أميركي، تم تصريفه عمليا بالاستقبال الحار الذي حظي به رئيس الوزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بواشنطن قبل أيام، ومن أكثر من مؤسسة وجهة من بينها المحافظون الجدد الذين قدموا له جائزة أرفنغ كريستول. وجاء الرد الأميركي الآخر المدوي على السلطة الفلسطينية- وأقول السلطة وليس الشعب الفلسطيني، لأنه واع بمواقف الإدارة الأميركية ولا ينتظر منها شيئا وخرج للشارع للانتفاضة- باتفاق الرئيس باراك أوباما، ونتنياهو الإثنين 9 نوفمبر الجاري على توقيع مذكرة تفاهم أمني- استراتيجى للسنوات العشر القادمة، وسيتم بحثها خلال الأسابيع القادمة. هذه التطورات، ستؤثر سلبا على كل خطوات السلطة الفلسطينية، وأكثر من ذلك ستشكل ضغطا كبيرا عليها للسعي لإيقاف انتفاضة الشعب الفلسطيني- التي لم يزدها قمع الاحتلال ووحشيته إلا اشتعالا- والرجوع لطاولة وملهاة المفاوضات وفق رغبات حكومة الاحتلال ومن يدعمه. ولعل هذ جعل أبو مازن الاتحاد الأوروبي للقيام ب"دور سياسي أكبر لتحقيق السلام وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي عن الأراضي الفلسطينية، وقيام دولة فلسطينية على الحدود المحتلة عام 1967″ و السؤال المطروح اليوم، هل ستختار تلك السلطة التوجه للشعب الفلسطيني، وتوحيد الصف ومواجهة الغطرسة الإسرائيلية بعدما لم يعد لها ماتخسره؟ أم أن ذلك مستبعد لافتقادها الشرعية الشعبية والديمقراطية كما سلفت الإشارة، مما يجعلها تعول على دعم الخارج أكثر من الداخل في وضع إقليمي ودولي لايخدم مع كامل الأسف القضية الفلسطينة، ممايجعل الشعب الفلسطيني شبه وحيد في انتفاضته ومواجهته لآلة القتل والتدمير الاحتلال الإسرائيلي.