منير شفيق حملة الانتقادات الحادة التي وجهتها الإدارة الأمريكية في نقد خطاب محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما تلاها وسبقها من تصريحات قادة الكيان الصهيوني ضدّه لا يشكلان شهادة له، ولا تقدمان دليلا على صوابية استراتيجيته وسياسته بالنسبة إلى القضية الفلسطينية وإدارة الصراع ضد الكيان الصهيوني؛ وذلك لسبب بسيط وهو ما يتسّم به من تطرف، إلى الحدود القصوى، كل من الاستراتيجيتين الأمريكية والصهيونية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة أو الانتفاضة. فمن ناحية قيادات المشروع الصهيوني، فهم على تناقض مع كل سياسة وموقف دون سقف تهجير كل الفلسطينيين والاستيلاء على كل فلسطين وتهويدها بالكامل. أما الدليل فما قد نشأ وينشأ بين الفترة والأخرى من تناقضات وتأزم بين الموقف الأمريكي أو الأوربي والموقف الصهيوني حول بعض الجزئيات والتفصيلات مثل الإمعان في الاستيطان أو التمادي في ارتكاب جرائم الحرب في حق الفلسطينيين أو بالنسبة إلى الحدود والشروط التي يمكن أن تكون أرضية لتسوية؛ فالمشكل هنا يكمن في تطرف المشروع الصهيوني من حيث أتى وفي قراءة ما هي السياسة الأنسب في إدارة الصراع، فالكيان الصهيوني لم يوافق على أي قرار صدر عن هيئة الأممالمتحدة، بما في ذلك قرار التقسيم الذي أعلن قيام دولته على أساسه. ومن هنا، أيضا، لا يمكن استنتاج صوابية السياسة الأمريكية والأوربية عندما تصطدم مع قادة الكيان الصهيوني وتنشأ أزمة ما أو تتطاير تصريحات نقدية من الطرفين المتحالفين استراتيجيا وتاريخيا ولا انفصام لتحالفهما كما دلت على ذلك التجربة أو، على الأقل، في المدى المنظور، بل تذهب الملاحظة التاريخية إلى تراجع الموقفين الأمريكي والأوربي بعد حين. فالموقف الصهيوني الدائم كان يتقبل كل تنازل فلسطيني، ولكنه لا يعتبره نهاية المطاف ويجعل التمسك به مرفوضا لاحقا لأن المطلوب تنازل جديد بلا نهاية حتى اغتصاب كل فلسطين وتشريد أهلها كافة. ولهذا لا يحاول أحد أن يعطي شهادة لخطاب محمود عباس انطلاقا من رفض القادة الصهاينة له أو شن الهجوم عليه. وكذلك الحال بالنسبة إلى الموقف الأمريكي من الخطاب المذكور أو اعتباره شهادة في مصلحته حين يُنتقد أو يُعتبر استفزازيا. فالشهادة الإيجابية لخطاب محمود عباس أو أي خطاب لزعيم فلسطيني أو عربي يجب أن يُحدَّد وفقا لمعايير ثوابت القضية الفلسطينية ومدى صحته في إدارة الصراع مع العدو. فخطاب محمود عباس جاء ضمن سقفه الثابت من التسوية ومن اتفاق أوسلو ومن المفاوضات ومما قدمه من تنازلات. هذا بالنسبة إلى المعيار العام وفقا لثوابت القضية الفلسطينية كما وردت في ميثاقي منظمة التحرير الفلسطينية 1964 و1968، وكما وردت في منطلقات فتح، وسائر مواثيق فصائل المقاومة. على أن المعيار الثاني، الذي يجب أن يُقرأ من خلاله الخطاب من زاوية إدارة الصراع، هو انتقاله في المعركة ضد العدوان الصهيوني صائفة 2014 وضرورة تحقيق أهدافه كما الانتقال من فتح معركة الضفة الغربيةوالقدس ميدانيا من خلال انتفاضة شعبية شاملة لا قِبَلَ لنتنياهو وأوباما بمواجهتها على ضوء الظروف وموازين القوى الراهنة وبعد هزيمة جيش الكيان الصهيوني أمام المقاومة والشعب الفلسطيني في حرب غزة. كانت الانتفاضة واجبة وإرهاصاتها في الميدان واعدة أثناء حرب العدوان الصهيوني على قطاع غزة. ولكن موقف محمود عباس وتأثيره على قيادة فتح في الحيلولة دون اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية أجهض تلك الفرصة الثمينة في تحقيق انتصار غزة وفي دحر الاحتلال عن الضفة الغربيةوالقدس وتفكيك المستوطنات وتحرير كل الأسرى، بلا قيد أو شرط، لأن اجتماع انتفاضة شعبية في الضفة والقدس مع المقاومة وصمود الشعب في قطاع غزة كان كفيلا بتعظيم دعم الرأي العام العالمي للقضية الفلسطينية وعزل الكيان الصهيوني، كما كان كفيلا بإحداث تغيير إيجابي في الموقف العربي الرسمي، وإخراجه من سلبيته وتواطؤ بعض دوله حين انحصرت المعركة في قطاع غزة، بل كان كفيلا بإحراج الموقفين الأمريكي والأوربي، حيث لا مجال في مواجهة الانتفاضة في الضفة والقدس للحديث عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، ولا مجال للدفاع عن استمرار الاحتلال والاستيطان في الضفة والتهويد في القدس. هذه الفرصة الثمينة التي أضاعها محمود عباس أثناء حرب المقاومة العظيمة في القطاع راح يكرسها حين انتقل من الميدان في الضفة والقدس إلى الميدان الدولي حيث الفيتو الأمريكي بالانتظار في مجلس الأمن. وهنا أيضا حدث تخاذل آخر حتى في الميدان الدولي، حيث أجّل محمود عباس تقديم مشروع قرار إلى الجمعية العامة المنعقدة هذا العام إلى عام آخر، وذلك من خلال الابتداء بمجلس الأمن، وهو يعلم علم اليقين ماذا ينتظر مشروعه في المجلس، والأنكى أنه ماطل كثيرا، ولم يزل، في تنفيذه للجوء إلى المنظمات الدولية لفتح ملف مجرمي الحرب الصهاينة وقد أمسك بهم بالجرم المشهود في حروب ثلاث على قطاع غزة. والسؤال: هل يمكن بعد هذا كله أن تُقدم شهادة مديح لخطاب محمود عباس بسبب ردود الفعل الأمريكية والصهيونية عليه لأنه لم يأت كما يريدون له أن يكون؟ وقد يقول قائل إن المعركة، أو الحرب ضد الكيان الصهيوني، لا تقتصر على المقاومة المسلحة أو الشعبية أو الانتفاضة وإنما تمتد إلى الميدان الدولي وطرق كل الأبواب التي تدين الكيان الصهيوني وتعزله وتحرجه. هذا صحيح بلا شك، وهو على طريقة «زيادة الخير خير». ولكن أين الخير الذي يُرادُ أن يُزاد عليه هنا؟ ذلك لأن استراتيجية محمود عباس وسياساته المطبقة تعلنان صراحة أنهما ضد المقاومة المسلحة وضد الانتفاضة وتحصران المقاومة في أدنى أشكالها وعلى أن تكون ممارساتها متباعدة ومترددة وغير مؤلمة للاحتلال عمليا. أما الدليل ففي الاتفاق الأمني وما بناه دايتون من أجهزة أمنية جردت حتى بقايا كتائب الأقصى من السلاح وأمعنت في مطاردة المقاومة والتعاون مع العدو في عشرات الحالات، بل المئات، لمطاردة المقاومين واعتقالهم وقتلهم. ثم هناك الدليل العملي الذي نجده في استشراء الاستيطان وتهويد القدس ووضع اليد على المسجد الأقصى والعمل على تقسيم الصلاة بين اليهود والمسلمين فيه. وقد أكمل محمود عباس هذا المشوار في اشتراطه، في مجلس الوزراء العرب الأخير ومؤتمر صحفي لحق به، أن تقوم المصالحة الفلسطينية على أساس وحدة القرار في الحرب والسلم (وقد أسقط قرار الحرب أصلا) ووحدة السلاح والسلطة الواحدة في كل المجالات في قطاع غزة، أي تصفية المقاومة المسلحة وإخضاع الجميع لخطه السياسي الذي نفذه في اتفاق أوسلو ومارسه بعده، ولاسيما بعد استشهاد ياسر عرفات وتسلمه الرئاسة الفلسطينية وقيادة فتح وحماس ومنظمة التحرير الفلسطينية من بعده. وهو خط سياسي فاشل حتى على مستوى ما وُضِع من أهداف واستراتيجية، وخاض من مفاوضات، والأرض من تحته يستفحل فيها الاستيطان والقدس يتمادى فيها التهويد حتى لم يترك بقايا من فتات. ومن ثم يجب ألا يغطى التهديد بالعمل الحقوقي والمؤسساتي في المجال الدولي من خلال حجة عدم تعارض المقاومة المسلحة والانتفاضة مع الصراع في الميدان الدولي. وبالمناسبة، فإن المعركة في الميدان الدولي يجب أن يكون ميدانها الرأي العام. وقد ثبت تأثير المقاومة والصمود الشعبي والانتفاضة وانكشاف جرائم العدو في كسب الرأي العام الغربي لدعم القضية الفلسطينية وعزل الكيان الصهيوني ولوبياته. أما سياسات التسوية والمفاوضات ومحاولة كسب الحكومات الغربية، وخصوصا الإدارة الأمريكية، فقد همّشت الرأي العام وسمحت للحكومات الغربية بحصر تسوية القضية الفلسطينية في المفاوضات الثنائية المباشرة، حتى لم تعد تتبنى القرارات الدولية التي صاغتها بأيديها منذ عام 1947 حتى قرار 242، وترك الأمر كله للمفاوضات حتى أصبحت المستوطنات والقدس الشرقية والمسجد الأقصى وقضية اللاجئين وحدود 1967 والإعمار وقضايا الأمن على جدول المفاوضات التي اعتُبِرَت المرجعية الوحيدة.