كل ما قال به المدافعون عن برنامج النقاط العشر عام ,1974 من أسباب تدعو إليه، أو من آفاق سيفتحها أمام الكفاح الفلسطيني، أثبتت بأنها هراء وأوهام، ولا يستطيعون الآن أن يعودوا إلى أرشيفهم ليقرأوا ما قالوه في حينه، فيا ليتهم يفعلون ذلك ليعرفوا كم كان قدرهم من السطحية في فهم جوهر القضية الفلسطينية وواقع العالم والوضع العربي. ثم كم كانوا متهافتين على الاستجابة للضغوط الدولية أو إغراءات ''الأصدقاء''، أو التحليلات السياسية التي كانت في حقيقتها أفخاخاً، أو تحوّلت بالتجربة إلى أفخاخ. وهذا من دون أن يتألموا مما نجم عن تلك السياسات من كوارث نعيشها. قالوا إن صوْغ برنامج حد أدنى تستدعيه الواقعية، والشروط الموضوعية، والسياسات العربية والدولية. وقد ثبت أنه الطريق إلى انتصار فيتنام حين حرّرت الشمال أولاً، ثم انتقلت إلى برنامج الحد الأعلى في تحرير الجنوب ثانياً. فهل حدث مثل هذا في الواقع الفلسطيني؟ بالتأكيد لم يحدث. ولكن لماذا؟ لم يسألوا أنفسهم. فلا حققوا الأول ولا الثاني، بل عادوا القهقرى. بدلاً من أن يكتشفوا بعد عشر سنوات من التجربة أو خمسة عشر عاماً من التجربة الفاشلة، أوغلوا أكثر في الطريق نفسه كما عبّر عن ذلك المجلس الوطني في الجزائر حين أصدر وثيقة الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية. وبهذا أصبح برنامج النقاط العشر الذي كان يُسقط كل سنة نقطة من نقاطه العشر، هو البرنامج الوطني الفلسطيني الذي جعل إقامة دولة فلسطينية في ''حدود'' ما قبل الخامس من حزيران ,1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة، الهدف الأول للنضال الفلسطيني، أو كما سمّاه البعض ''الحلم الفلسطيني'' بعد اتفاق أوسلو عام .1993 إعلان الدولة الفلسطينية حمل الإعتراف بقرار 242 أو الاستعداد للاعتراف به. والبرنامج الوطني الفلسطيني الملخص عملياً بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقطاع تحوّل بعد اتفاق أوسلو إلى تبني استراتيجية المفاوضات، والعملية ''السلمية''، والرهان على الراعي الأمريكي. وأسقطت البندقية من اليد ليبقى ''غصن الزيتون'' في الأخرى، فيما راحت الجرافات تقتلع أشجار الزيتون، وأخذ الاستيطان وتهويد القدس يقفزان قفزاً ويسابقان الريح في ظل البرنامج العتيد واستراتيجيته التفاوضية، وعمليته السياسية تحت الرعاية الأمريكية. أي تحت رعاية اللوبي اليهودي الأمريكي بامتياز. ومن ينسَ ذلك يخادع نفسه قبل أن يخدع شعبه. عندما يصبح الهدف الأول تحقيق ''الحلم الفلسطيني'' أي ''الدولة في الضفة والقطاع''، ومن خلال استراتيجية ما يسمّى بعملية التسوية يعني إسقاط المطالبة بما احتل من فلسطين في عام ,1948 ويعني انتقال شعار ''حق العودة'' إلى ''إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين''. وهذا قبل أن تبدأ المفاوضات يعني أسقط ثابت تحرير فلسطين كلها وأسقط ثابت حق العودة، وأسقطت استراتيجية الكفاح المسلح المرتبطة عضوياً بالثابتيْن المذكوريْن. ثم أسقطت اللاءات الثلاث ''لا صلح، ولا اعتراف، ولا مفاوضات''. وهذه أيضاً جزء لا يتجزأ من ثابت الحق الفلسطيني في فلسطين وفي تحريرها من النهر إلى البحر. لأن إسقاط هذه اللاءات يعني الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، أو في الأقل، لمن لا يريد أن يعلن ذلك، يعني الاستعداد للاعتراف بكل ما أنجزه المشروع الصهيوني حتى .1948 ويا للاستغفال حين يُعلن أن سلطة رام الله لم تتنازل عن الثوابت، ولا عن أي ثابت من الثوابت. ولكن هذا الاستغفال في إنكار التنازل عن الثوابت الأساسية للقضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية (وهي حقوق عربية وإسلامية في فلسطين كذلك) سرعان ما يتحوّل إلى استغفال حول ما قُدِّم من تنازلات تمسّ حتى ''البرنامج الوطني الفلسطيني'' نفسه، على هزاله وسوئه وما أحدث من تنازلات، وإلاّ ما معنى ''تبادل الأراضي''، وما معنى المفاوضات في ظل التوسّع الاستيطاني التي انعقدت بعد مؤتمر أنابوليس، ثم ما معنى المفاوضات في إدارة أوباما على أساس الوقف الجزئي للاستيطان في الضفة مع استمراره في القدس، ثم ما معنى التصريحات التي أصدرها محمود عباس وياسر عبد ربه وسلام فياض في مواجهة انتقال المفاوضات المتعثرة (مستمرة عملياً حتى مع الإعلان أنها توقفت). فقد أبدى الأول استعداده، المسبق، لإسقاط المطالبة بالحقوق التاريخية في حالة الموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية. وكان اعترف أمام ''إيباك'' بحق لليهود في فلسطين. وما معنى تصريح الثاني بالاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية إذا قامت الدولة الفلسطينية، وأخيراً وليس آخراً ما معنى تصريح الثالث بعدم وجود مشكلة عنده مع الرواية التوراتية. هذا يعني أن مفاوضات التسوية على أساس ''دولة فلسطينية'' وصل بالقضية إلى حد التصفية شبه الكاملة، ووصل بالوضع الفلسطيني مع استمرار التوسّع الاستيطاني والتهويد في القدس ويافا وعكا وحيفا إلى مستوى الضياع شبه الكامل. ويكفي ما نسمعه الآن من بعض الأصوات التي كانت تدافع عن خط المفاوضات والتسوية والرهان على أمريكا بأنها تطالب بموقف جذري يتراجع عن كل ما حدث من تنازلات، ابتداء من برنامج النقاط العشر وإعلان الدولة الفلسطينية ومروراً باتفاق أوسلو وتداعياته، وانتهاء بتنازلات سلطة رام الله محمود عباس-سلام فياض، وعلى رأسها الاتفاق الأمني والتعاون الأمني، والحالة التي وصلها وضع الضفة الغربية وشرقي القدس من استيطان وتهويد وقضم للأراضي وصولاً إلى اللف والدوران حول التنازل عن أصل الحق في فلسطين من أجل التوصّل إلى ''اتفاق نهائي''. وهكذا أصبح الجميع أمام مواجهة الحقيقة: طريق الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع والمفاوضات والتسوية والرهان على أمريكا والرباعية يعني الدمار الشامل بالنسبة إلى القضية الفلسطينية والوضعيْن الفلسطيني والعربي. لأن جوهر الصراع مع المشروع الصهيوني والدعم الأمريكي-الأوروبي له، هو صراع وجود: صراع لمن الحق في فلسطين، وفلسطين لمن؟ وما القرارات الدولية ومشروع التسوية والمفاوضات من جانب أمريكا وأوروبا وحكومات الكيان الصهيوني إلاّ محطات على طريق هذا الصراع الذي يُراد له أن ينتهي بإحلال ''شعب'' مكان الشعب الفلسطيني في فلسطين. مواجهة هذه الحقيقة تستلزم طرح كل الأوهام التي حملتها القرارات الدولية ومشاريع الحل والتسويات من جهة، وتقتضي العودة إلى المربّع الأول بالتأكيد على حق الشعب الفلسطيني بكل فلسطين من النهر إلى البحر، وهو حق عربي وإسلامي كذلك والعودة إلى الحق في المقاومة فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وبدعم من كل الأحرار في العالم.