تشكل مناقشة أي مشروع لقانون المالية محطة للتقييم و فرصة لإعادة النظر في البرامج الحكومية و السياسات العمومية المتبعة. و إذا كانت هذه المقولة صادقة في إطار قانون الميزانية و منتجة لآثارها في الفعل السياسي، فإن الغالب أن مناقشة قانون المالية لسنة 2016 ستكون بنكهة سياسية و تقنية خاصة، حيث يصادف هذا القانون من جهة إتمام تنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة المتعلقة بالمالية العامة من خلال صدور القانون التنظيمي للمالية، و إستكمال باقي مضامين البرنامج الحكومي الذي إلتزمت به أول حكومة بعد إقرار دستور فاتح يوليوز 2011، بالإضافة إلى تنزيل ورش الجهوية المتقدمة من جهة أخرى. و مع الإعتراف بخصوصية السياق العام الذي يولد فيه مشروع قانون المالية لسنة 2016، حيث الإستعداد للإنتخابات التشريعية السنة المقبلة و إستكمال الصرح الدستوري الجديد بإصدار باقي القوانين التنظيمية، يبقى قانون المالية لسنة 2016 إختبارا حقيقيا لقدرة الفاعلين على إستيعاب ثقافة جديدة في التدبير العمومي تروم الإنتقال من التدبير القائم على أساس الوسائل إلى منهجية جديدة ترتكز على تحقيق النتائج و تؤسس لمنطق الشفافية وتقديم الحساب و تقييم السياسات العمومية. لقد تم إعداد قانون المالية لسنة 2016 في سياق يتسم بإستمرار ندرة الموارد المالية وتصاعد حجم الإحتياجات و المطالب الإجتماعية، هذا في وقت تشهد فيه أسعار بعض المواد الأولية، و على رأسها المحروقات، تراجعا مهما، مما يمنح الحكومة هوامش حقيقية للتحكم في العجز في الميزانية، و ذلك بالنظر إلى تراجع كلفة الفاتورة الطاقية. إن معطى ندرة الموارد المالية أصبح واقعا لا يرتفع، و يتطلب البحث العقلاني على مصادر جديدة لتمويل الميزانية العامة، مما يقتضي تفعيل جميع التوصيات التي جاءت بها المناظرة الأخيرة حول الجبايات و تعميم الأداء الإلكتروني للضريبة. فهذا الوضع الجديد لم تسلم منه حتى الدول التي تشهد ميزانياتها فائضا بفضل ما يحققه البترودولار من عائدات كان يغنيها حتى وقت قريب عن اللجوء إلى فرض بعض الضرائب، و هي اليوم تبحث بتوصية من مجموعة من المنظمات الدولية المختصة، و على رأسها منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية، سبل تطبيق الضريبة على القيمة المضافة التي لم يألفها نظامها الجبائي في ما قبل. فالراجح أن مشروع قانون المالية لسنة 2016، كما تم تقديمه من لدن السيد وزير الإقتصاد والمالية يوم 20 أكتوبر 2015، ينخرط في التوجه الذي رسمته الحكومة و إلتزمت به تجاه الفرق النيابية لدى مجلسي البرلمان أثناء مناقشة قوانين المالية خلال فترة ولايتها، و الذي يتميز اليوم بتعافي المؤشرات الماكروإقتصادية، دليلا على نجاح الإصلاحات التي إتخذتها الحكومة في ما يخص إعادة توجيه النموذج التنموي من خلال إطلاق برنامج تسريع التنمية الصناعية في قانون المالية 2015، و الذي سيمكن من رفع حصة القطاع الصناعي في الناتج الداخلي الخام من 14% إلى 23%، و إحداث أكثر من نصف مليون منصب شغل في أفق سنة 2020. غير أن المستقبل الذي يَعِدُ للمغرب بمؤهلات لولوج نادي الدول الصاعدة، يستلزم بالإضافة إلى الإهتمام بالمعطيات الإقتصادية و المالية التركيز أكثر على إقتصاد المعرفة الذي يتطلب جعل الموارد البشرية الحلقة المفصلية في النهضة التنموية للبلد. ذلك أن بعض المؤشرات التي لا يمكن عزل تأثيرها و إنعكاساتها السلبية، و منها حجم المديونية التي تجاوزت عتبة 60% من الناتج الداخلي الخام، أصبحت معطى لا ينسجم مع مقومات التنمية المدمجة التي ينخرط فيها المغرب، سواء من خلال الديناميات الداخلية التي أطلقها جلالة الملك عبر العديد من المبادرات الخلاقة، و على رأسها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أو من خلال إلتزامات المغرب الدولية ضمن برنامج تحدي الألفية، لأن المستويات التي بلغتها المديونية حاليا لم تعد تؤثر على مصالح الأجيال الحاضرة و إنما أخذت تمس حقوق الأجيال القادمة. فما الذي يفيده تحقيق الإقتصاد المغربي لنسبة نمو تصل 5 % نهاية العام الجاري إذا لم يترجم هذا الأداء الإقتصادي في تحسين مستوى عيش و كرامة الفرد؟ لهذا فالمجهود الإجتماعي المبذول في تمويل الإقتصاد الوطني و على صعيد الميزانية العامة للدولة ينبغي أن يستهدف المواطن المغربي و الخدمات المقدمة له. لذا فإبراز قيمة الرأسمال البشري لبلدنا ينبغي أن يبقى معيارا أساسيا عند وضع السياسات العمومية. و في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنه منذ إقرار قانون المالية لسنة 2013، أصبح القطاع الإجتماعي يستأثر بحيز مهم من الميزانية العامة للدولة، و الذي رصدت له إعتمادات مالية مهمة ناهزت 4 مليارات درهم في إطار صندوق التماسك الإجتماعي ضمن قانون المالية لسنة 2015. كما تم تفعيل صندوق التعويض عن فقدان الشغل و الذي يمثل إستجابة للتحديات الإجتماعية التي تطرحها العولمة على المقاولات الصغرى و المتوسطة. و الملاحظ أن هذا النفس التنموي إستحضره مشروع القانون المالي لسنة 2016، حيث يسعى دعم العرض العمومي من خلال الرفع من حجم الإستثمارات العمومية بنسبة 13% مقارنة مع سنة 2015، لتصل حصة الإستثمار العمومي في الميزانية العامة 189 مليار درهم بالنسبة لمشروع قانون المالية لسنة 2016، إلى جانب تخصيص حوالي 26 ألف منصب شغل بالوظيفة العمومية. على أن تنزيل القوانين التنظيمية المواكبة لورش الجهوية المتقدمة تتطلب بدرجة أساسية أن يقع التفعيل السريع للاتمركز الإداري، من خلال إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري، و الذي بدونه لا يمكن تعزيز المقاربة المجالية و الجهوية في تنزيل السياسات العمومية. فمما لاشك فيه أن الرهانات المطروحة على قانون المالية المقبل ذات وقع مهم، و لن تلخصها بعض التدابير الجبائية المعزولة، بل تستلزم أن يكون روح الدستور المالي الجديد للدولة، و الذي هو القانون التنظيمي للمالية رقم 130.13 بتاريخ 2 يونيو 2015، نبراسا لجل المقتضيات التشريعية الواردة في هذه الوثيقة المالية، و ذلك على مستوى تكريس نجاعة الأداء العمومي و برمجة السياسات العمومية. كما أن الفرضيات التي يقع إعتمادها في إعداد مشروع قانون المالية، ينبغي أن تصبح صياغتها أكثر عقلانية و أكثر ضبطا، بالنظر إلى الدينامية التي تخلقها المقتضيات الجديدة للقانون التنظيمي للمالية، بالإضافة إلى البرمجة الميزانياتية المتعددة السنوات التي تم إقرارها. فتراكم التجربة مستقبلا في ما يخص التقارير التركيبية الخاصة بنجاعة الأداء و تطوير مؤشرات قياس الفعالية على مستوى البرامج و المشاريع، بالإضافة إلى التحول النوعي الذي يشهده النموذج التنموي المندمج للمغرب، من شأنه أن يجعل من عملية صياغة فرضيات إعداد قانون المالية السنوي عملية أكثر قربا من الواقع الإقتصادي و المالي للدولة. فهذا الدستور المالي الجديد إلى جانب أحكام مرسومه التطبيقي الصادر بتاريخ 15 يوليوز 2015، و إن لم يكن مشروع قانون المالية 2016 مشمولا بأهم أحكامه، لأن سريان مفعوله يبدأ بتاريخ فاتح يناير 2016، و هو التاريخ الذي يكون مبدئيا قد صوت فيه على قانون المالية، إلا أن الأحكام الجديدة التي تضمنها على مستوى التبويب الميزانياتي المُهَيكل حول البرامج و المشاريع مع التركيز على البعد الجهوي، سيجعل من قانون المالية يؤسس لإطار معياري جديد قائم على الأهداف و مؤشرات الأداء، و التي ستعزز من نجاعة أداء التدبير العمومي، بما يسمح بالإنتقال من الحكامة المرتكزة على المساطر إلى الحكامة القائمة على الأهداف. غير أنه حرصا من الحكومة على ملاءمة هذا المشروع مع مقتضيات القانون التنظيمي الجديد للمالية، فقد تم إحداث فصل جديد يسمى النفقات المتعلقة بالتسديدات و التخفيضات والإرجاعات الضريبية، و مراجعة هيكلة جدول توازن موارد و تكاليف الدولة، علاوة على تقديم التقارير المنصوص عليها في هذا القانون التنظيمي لإغناء المناقشة البرلمانية. و تبعا لذلك، فإن النقاش ضمن لجنتي المالية بالبرلمان ينبغي أن يتأطر بالفلسفة الجديدة التي أرست دعائمها مقتضيات القانون التنظيمي للمالية، و التي قوامها تكريس مبادئ التقييم و المحاسبة و المساءلة، و ذلك حتى لا يتحول النقاش التقني إلى نقاش عام فضفاض. فنقاش مشروع القانون المالي السنوي ينبغي أن يكون فرصة للتقييم و تدقيق مؤشرات قاعدات المعطيات الذي توفرها مختلف الهيئات و المؤسسات الحكومية للوقوف على الحصيلة الحقيقية لمختلف السياسات القطاعية، لا أن يكون مناسبة للنقاش السياسي العام البعيد عن هواجس التدبير العمومي و تقييم السياسات العمومية. فتركيز العمل على تقييم السياسات العمومية و جعلها الغاية المثلى من إقرار قوانين المالية السنوية، ينبغي أن يعكس تجلياتها على أساليب التدبير العمومي و ينهض بمستوى النقاش البرلماني و الخطاب السياسي عند مناقشة أي مشروع قانون المالية.