لقد أوجد الحراك الجديد مشتركات جديدة يمكن البناء عليها في نظر الكثير من المتفائلين ومنها: أولا: الانتفاض على مظاهر الفساد العامة والتي أوصلت العراق كله إلى حافّة الانهيار، باستثناء إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي مستقر. ثانيا: الدعوة إلى محاكمة الفاسدين، وإعلان أسمائهم وصورهم على الملأ، وقد تكللت هذه الدعوات بموافقة البرلمان العراقي، ومن بين تلك الأسماء كان اسم نوري المالكي رئيس الحكومة السابق ورئيس حزب الدعوة -وهو أهم الأحزاب الشيعية العراقية على الإطلاق- ومن بينهم أيضا بهاء الأعرجي القيادي الأبرز في التيار الصدري، ولا شك أن محاكمة هؤلاء تمثل نقلة كبيرة في طريقة التفكير لدى المجتمع الشيعي، كما أنه مطلب عراقي عام يمكن أن يؤسس لنقطة التقاء بين كل العراقيين. ثالثا: (الإصلاحات) السريعة المتمثلة بعزل بعض القيادات الفاسدة ورفع الغطاء عنهم، ومن بينهم نوري المالكي، حيث أقر البرلمان تجريده من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية، ولا شك أن هذا خبر سار لكل العراقيين على اختلاف مكوّناتهم وتوجهاتهم، خاصة أن هناك معلومات شبه مؤكدة من داخل المنطقة الخضراء أن بعض الوحدات الأمنية التابعة للمالكي قد تم تفكيكها وإرجاع منتسبيها إلى بيوتهم إلى حين إعادة تنظيمها من جديد! رابعا: الدعوة إلى إصلاح القضاء، ولا شك أن هذه مطلب عام أيضا لكل العراقيين، وإن كانت الشكوك ما زالت تحوم حول ما يمكن أن تتخذه حكومة العبادي من إجراءات عملية لتنفيذ هذا المطلب. خامسا: من الإفرازات العرضية للحراك (الجديد) تقدم البرلمان على لسان رئيسه سليم الجبوري بالمسارعة لتشكيل (الحرس الوطني)، وهو مطلب تلتقي عليه أغلب القبائل العربية السنّية بهدف ملء الفراغ المتوقع بعد طرد (داعش) من محافظاتهم، وهذه النقطة بالذات تمثل علامة فارقة وبارزة لتوجه الحراك الجديد والإصلاحات المنبثقة عنه إن كانت تدور داخل (البيت الشيعي) أو أنها ذات طابع (وطني) يمكن الالتقاء عليه. في مقابل هذا هناك نقاط (مفرّقة) وتدعو للريبة والقلق، ومن المؤسف أنها أثقل وأكثر من تلك النقاط (الجامعة)، ومنها: أولا: التمييز الظالم البيّن الظلم بين (حراك المحافظات الست) السنّية و (حراك المحافظات الجنوبية) الشيعية، فسنة كاملة من (الحراك السنّي) تواجه بالصمم الكامل من المرجعيات الدينية والحكومية، بينما أسبوع واحد من (الحراك الشيعي) يهزّ المرجعية ويوقظها من نومها ويحرّك الحكومة لتقوم بكل هذه الإصلاحات، مع أن مطالب الحراك السني كلها كانت مطالب إصلاحية وليست تغييرية، وهي تلتقي مع مطالب الحراك الشيعي بالكامل وتقصر عنها في بعض المطالب كمحاكمة المالكي مثلا، وكان من الأنسب للعبادي -لو كان الأمر بيده- أن يعيد الاعتبار لملايين المعتصمين من المحافظات الست والذين تعرّضوا للقتل والسجن على يد عصابات المالكي، وأن يعمل على تعويض الضحايا الأبرياء وإطلاق سراح المعتقلين منهم خاصة الدكتور أحمد العلواني النائب البرلماني والقيادي في الحراك، والذي اعتقلته عصابات المالكي تعسّفا واستهتارا بالدستور والقوانين العراقية نفسها. ثانيا: طريقة تعامل الحكومة الحالية مع النازحين والمهجّرين لا توحي ببوادر حسن النيّة أبدا، فما زالت المضايقات الأمنية والطائفية الفاقعة تلاحق النازحين في كل (معبر)، و(نظام الكفيل) عار لا يغسله ماء البحر، إضافة إلى الإهمال المتعمد لمخيمات النازحين واللاجئين في كردستان وغيرها، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الآدمية. ثالثا: تعطيل قانون العفو العام، وهو قانون لم ير النور، مع أنه قانون لا يشمل المدانين قضائيا، بل يشمل الموقوفين بلا حكم قضائي وهم بعشرات الآلاف، والذين مضى على بعضهم سنوات عديدة! وهؤلاء كلهم من الذين اعتقلتهم عصابات المالكي، ومع إقرار الحكومة الحالية بظلم المالكي وفساده إلا أن ظلمه للمناطق السنّية لا يبدو أنه داخل في لائحة اتهاماته أصلا! رابعا: التمييز المعلن ودون حياء بين الضحايا (الشيعة) جراء الأخطاء العسكرية، وبين الضحايا (السنة) الذين يسقطون جراء القصف المتعمد أو المخطئ لطيران الحكومة، ومثال ذلك تعامل حكومة العبادي مع ضحايا مستشفى النساء والولادة في مدينة الفلوجة، مقارنة بتعاملها مع ضحايا حي النعيرية في بغداد، حيث سارعت الحكومة إلى تعويض النعيرية بينما أهملت الفلوجة، وهذا أصل معتمد في السياسة الحكومية وليس له استثناء واحد! خامسا: الخطاب الحكومي المنحاز، فبينما يتهم الإعلام الحكومي الرسمي كل المعارضين السنة بالإرهاب، حتى أولئك الذين شاركوا في العملية السياسية وتعاملوا معها وفق قواعدها الدستورية و (الديمقراطية)، بينما يكتفي العبادي شخصيا بوصف الشعارات الحالية للحراك الجديد والمطالبة صراحة بحل البرلمان وتغيير الدستور بأنها (شعارات ثورية غير مناسبة)! إن الشعور الذي لا يبعث على التفاؤل أبداً هو شعور (السنّي) بأنه إرهابي في نظر الحكومة ولو حمل بندقيته لمقاتلة الإرهاب، وأن وجوده غير شرعي وغير دستوري ولو قبّل رأس الدستور صباح مساء، أو كان عضوا في البرلمان أو لوّن إصبعه بحبر الانتخابات، بينما يرى (الشيعي) مقبولا على أية حال، ولو سبّ الدستور ولعن البرلمان أو رمى رئيس الحكومة بالأحذية والزجاجات الفارغة، وكل ذلك حاصل. إن هذا الشعور الذي تغذّيه الحكومة يوميا بتصرفاتها وخطاباتها هو الذي يدفع إلى مزيد من الاحتقان والشعور باليأس واللاجدوى، مما يمهّد الأرض للإرهاب الأعمى ولدورات غير متناهية من العنف والعنف المضاد، ويفتح المجال مرة أخرى للفساد والمفسدين في ظل غياب الأولويات وصعود الخطاب الطائفي فوق الخطاب الوطني أو الإصلاحي، وبذلك تنتكس آمال المتظاهرين مرة أخرى إن لم يبادروا بالضغط على هذه الحكومة لتغيير سلوكها في هذا الشأن.