لم يكد الناس يفيقون من صدمة تهديم القوات الأمنية الإيرانية لمسجد السنّة في طهران حتى صُدموا مرّة أخرى بتفجير مسجد آخر للسنّة أيضا، ولكن هذه المرّة في قلب المملكة العربية السعودية! المملكة العربية السعودية تقود اليوم عاصفة الحزم التي أخذت تعصف بالحوثيين وعملاء إيران وتطاردهم من مكان إلى مكان، وبدأت المحافظات اليمنية تتحرر المحافظة تلو المحافظة، وكان من المتوقع في هذه الأجواء أن تتعرض المملكة لبعض العمليات الانتقامية، لكن الذي ربما جاء خارج التوقعات أن يأتي الانتقام على يد سعودي و(سنّي) وينتسب لجماعة تحاول جاهدة أن تلصق نفسها بأهل السنّة، بل وتسوّق نفسها على أنها ما قامت إلا للذود عن أهل السنّة ومقدساتهم وأعراضهم! إن خسّة العمل الذي قام به (أبوسنان النجدي) في قتله للأبرياء من أبناء دينه ووطنه ووضع نفسه موضع المنتقم لهزائم الحوثيين قد وصلت إلى مستوى غير متصوّر حينما استهدف المصلين وهم في الصلاة، لعلمه أنهم في الصلاة لا يفتشون الناس، وأن صفوف الصلاة يتساوى فيها الجميع، فاتخذ من طمأنينة المسجد وسكينة الصلاة وخشوع المصلّين ثغرات للوصول إلى جريمته! إن التفسير الوحيد لمثل هذا السلوك -إذا استبعدنا العته والجنون- أن أبا سنان هذا قد اقتنع قناعة راسخة ويقينية بأن هذا المسجد مسجد مرتدّ، وأن كل من فيه من المصلين إنما هم مرتدون وأعداء لله ولرسوله وللمسلمين! والبيان الرسمي للجهة المنفّذة يؤكّد هذه القناعة، فمما جاء فيه نصّا: (في عملية نوعية يسّر الله لها أسباب التنفيذ انطلق جندي الخلافة الغيور أبوسنان النجدي ملتحفا حزاما ناسفا صوب صرح من صروح الردّة..). تجدر الإشارة هنا إلى أن تاريخ هؤلاء حافل بمثل هذه الجرائم، ويكفي هنا التذكير بما حصل للمصلين السنّة يوم 28/ 8/ 2011 في جامع أم القرى وهو من أكبر مساجد بغداد، حيث فجر انتحاريّ نفسه بحزام ناسف أثناء صلاة التراويح، وراح ضحية الجريمة قرابة الستين مصليا بين قتيل وجريح في ليلة من ليالي رمضان، وكان المسوّغ لهذه الجريمة استهداف رئيس الوقف السني الذي وصفوه بالمرتد! وإذا كانت هذه المساجد تتعرض للتفجير بسبب وجود (مرتدّ) يصلّي فيها مع المصلين، فإن هناك مساجد أخرى قد تعرّضت للتفجير بسبب وجود قبر فيها، ومثال ذلك تفجيرهم للمسجد الكبير مسجد النبي يونس -عليه السلام- في مدينة الموصل، فقد رأى فقهاء داعش أن تفجير المسجد بالكامل وإزالته من الوجود أولى من إزالة القبر أو تسويته! إننا إذاً أمام ظاهرة متكررة وأمام منهج، ولسنا أمام خطأ عارض، والركيزة الأولى في هذا المنهج هي استباحة دماء (المرتدّين) أينما كانوا، والمرتد عند هؤلاء عنوان فضفاض يتسع لكل المسلمين إلا من رحم ربك، فكل مشترك في حكومة (غير شرعية) أو في (برلمان ديمقراطي) أو (جهاز أمني) فهو مرتدّ قطعا، ولذلك تراهم يجاهرون بتكفير أردوغان ومرسي وإسماعيل هنية والبرلمان التركي والمصري والعراقي والتونسي والليبي..إلخ لا يفرقون بين إسلامي وعلماني، ولا بين شيعي وسني، ولا بين نزيه وحرامي، ولا بين حكومة عادلة وحكومة ظالمة، فهذه في نظرهم أشياء ثانوية، فأصل التمايز عندهم (الولاء والبراء) وبالمفهوم الخاص الذي لا يكاد يخرج عن معنى الولاء لرايتهم والبراء مما سواها، وشاهد هذا تكفيرهم القولي والعملي لكل مخالفيهم وفي مقدمتهم الفصائل (الجهادية) على اختلاف مناهجها ومشاربها. أقول هذا لأن بعض الناس تراه يهش ويبش حينما تستهدف داعش برلمانيا فاسدا، أو شيعيا صائلا، أو كرديا علمانيا، ثم تراه يضطرب ويحتار حينما تهاجم داعش فصائل الثورة السورية، أو الليبية، أو تدعو لمقاتلة المقاومة الفلسطينية، أو تشتبك مع الجيش التركي، أو تقتل علماء السنة وتفجّر مساجدهم، وهذا الاضطراب موجود عند الشباب العراقيين أكثر من غيرهم لشدّة الضغوط والانتهاكات البشعة التي تمارسها بحقهم المليشيات الطائفية التي لا حصر لها ولا سقف لجرائمها، مع أن (داعش) هي الطرف الثاني في معادلة حرق المدن السنّية واستباحتها وتهجير أهلها منها. أما الركيزة الثانية، والتي غدت جزءا من أدبيات داعش وطريقتها في تسويغ هذه الجرائم فهي (أن مساجد الضرار لا حرمة لها) وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أحرق مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، وقد فات هؤلاء والمتعاطفين معهم أن القياس على مسجد الضرار قياس باطل من كل الوجوه، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع المنافقين بحكم الظاهر، وكان المنافقون يصلّون مع المسلمين ويتزوجون منهم ويبيعون ويشترون، ولم يرد أنه -عليه الصلاة والسلام- قاتلهم أو أذن بقتالهم، رغم كل ما بدر منهم من مكر وغدر، وهذا هو الأصل، أما المسجد فقد نزل فيه وحي وحكم خاص مستند إلى علم الله بحقيقة الأمر، وعلم الله لا يصح القياس عليه ولا استنباط الأحكام منه، ولو صحّ ذلك لحكم عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالردة بنص قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا). إن الفهم السقيم والمعوج لهذه النصوص قد يفتح الباب لهؤلاء أن يستبيحوا كل مساجد الأوقاف لأنها تتبع لوزارات كافرة، ولأن أئمتها وخطباءها يروّجون لأنظمة طاغوتية مرتدة. إننا إذاً لا نواجه جرائم أمنية أو جنائية مجردة ولا (أخطاء ميدانية) كما يسميها البعض! بل نواجه فكرا منحرفا، وتصورات مغلوطة عن الدين والحياة لا يمكن أن تؤدّي إلا إلى هذه الكوارث، وعليه فإن الحلول الأمنية قد تأتي بنتائج عكسية إن لم تعتضد بمنظومة فكرية رصينة وبتأصيل شرعي دقيق يقدّم الأجوبة العلمية لكل التساؤلات والشبهات المطروحة.