إن البحث في موضوع الحرية الدينية، يتيح لنا التعمق في معرفة أوجه المقاربات المعرفية والدينية والفلسفية والسياسية حول هذا الموضوع الذي كان ولازال يشغل الفكر الإنساني لارتباطه الوثيق بالاعتراف بالكرامة والحريات الفردية. فكيف يمكن الحديث عن الحرية الدينية في ظل الأديان؟ بعيدا عن الفكر الأوروبي اليوم والذي يجسد فهما خاصا للحرية الدينية. بحيث لا يولي اهتماما أكثر بالدين بقدر ما يتقبلها كواقعة اجتماعيةً تستحق الاعتبار والاهتمام. فمن الناحية السياسية، ومنذ قيام الثورة الفرنسية عام 1789م أصر الفكر الغربي على استبعاد الدّين من المجال العام، وقَصَر الدينَ على المجال الخاصّ، وتجاهل أدوارَه الأُخرى خارج الحياة الشخصية. وقد حاول دائماً تقديم الدولة على الكنيسة ، بحيث يسيطر النظام السياسي على كل جوانب الحياة العامة. وبذلك همَّش المؤسسات الدينية، في إطار ما سمي.بلائكيه أو بشكلٍ أعمّ علمانية. على أمل تجاوز الدين زمكانيا كما تم تجاوز كل ارث قديم .والواقع أن الفكر الغربي طور رؤيتين للحرية: الأولى تتأسس على مقدمات غير دينية،مفتوحة للمتدينين وغير المتدينين ، والثانية تتأسس على المفاهيم الدينية النابعة من الدين الإبراهيمي الذي يقول بالخالق والقادر والسامي فوق كلّ الأشياء. تقول الرؤية غير الدينية أنّ الإنسان بطبيعته قادرٌ ومسؤولٌ عن قَبول أو رفْض هذا الأمر أو ذاك استناداً إلى ضميره، وهو بذلك مسؤولٌ عن اختياره وقراره في حياته ومصائره. وهذا الحقُّ ضروريٌّ ولا يمكن إنكارُهُ أو التعرض له.. وبهذا المعنى يُعتبر الضمير الإنساني السلطة الأعلى بالنسبة للأفراد. ومع أنّ هذا الدفاع عن الحرية الفكرية لا يتناول الحرية الدينية بالتحديد، لكنه يدافعُ عن حرية الضمير، ومن ثم عن الحرية الدينية بوصفها اختياراً إنسانياً حقيقياً للضمير الحرّ. وحتى إذا كان غير المتدينيين يرفضون هذا الاختيار لأنفُسهم؛ فإنهم يقدرّون الفضيلة الاجتماعية والفكرية باحترامه لدى الآخرين. إنهم لا يوافقون على الاختيارات الدينية لدى الأفراد، لكنهم يحترمون حقَّهم في اتخاذ تلك الاختيارات. الحرية كونية طبيعية من المعلوم أن الله خلق الإنسان ويسر له مظاهر الحياة والاستمرار فيها، ومن هذه الضروريات الملازمة لحياة الإنسان ابتداءاً وانتهاءاً هي الحرية، فهي متزامنة مع صيرورة الإنسان، فحرية الإنسان مقدسة - كحياته سواء بسواء- وهي الصفة الطبيعية الأولى بها يولد الإنسان: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) يرى مونتمورنسي دي لافال أن الحرية قضاءاً مبرما وحتما، وعلى قاعدتها تقع جميع التبعات،: "فالإنسان يصنع وجوده بحريته، و(الحرية) كل غير قابل للتحليل، وأطرها هي هذه الوقائع والغايات، وإنها لا توجد إلا في موقف، غير أن الموقف لا يوجد إلا بها، فالإنسان مقضي عليه أن يكون حرا، إني مسئول عن كل شيء، ولكن لست مسئولا عن مسؤوليتي، أنا لست أساسا لوجودي، إني هذه (الحرية) التي يؤكد الوجود بها نفسه، وفي العقل الذي اكتشف به هذه هي الحرية". فالحرية بالنسبة للإنسان جعلية، ذاتية، طبيعية، وان الحرية ليست إضافة خارجية، وإنما هي خلق رباني.". في الواقع لا يمكننا إلا أن نسلّم بان: "الحرية حقيقة تكوينية في الإنسان، وليست تشريعية معطاة، فالتشريع أي تشريع كان، لا يمنح الإنسان الحرية، لسبب أساسي، وهو أن الحرية موجودة تكوينيا في الإنسان، فالإنسان خلق حرا، وكل ما على التشريعات سواء كانت وضعية أم إلهية هو أن تمنع مصادرة هذه الحرية أو العبث بها"،أي الحيلولة دون تجاوز احد على احد، أو أن تستقطع من مساحة حرية الآخر دون وجه حق. إن التعددية الدينية تحتاج إلى الحرية والحرية تؤدي إلى التسامح، وهنا يطرح سؤال جوهري كيف يتزامن مفهوم الحرية مع الإكراه بالعقوبة على الحرية ،وكيف يتسامح الإنسان مع مخالفه في اختيار العقيدة ،كيف يجسد مفهوم الحرية ويلتزم بتطبيقه وهو يعتقد أن ما يؤمن به هو الحق وما يؤمن به غيره هو الباطل ؟ لعل هذه أسئلة وأخرى قد يتساءل البعض عنها بحثا عن إيجاد أجوبة شافية لإشكالاتها في الأديان السماوية ؟ فكيف تعاملت الديانة اليهودية والمسيحية والإسلام مع أحكام الارتداد وحرية التعديية الدينية . الحرية الدينية في اليهودية 1. جاء في العهد القديم بخصوص موضوع الحرية الدينية وحكم الردة ما يأتي: 2. (إذا أغواك سرا أخوك ابن أمك، أو إبنك أو إبنتك أو امرأة حضنك، أو صاحبك الذي مَثَلُ نفسِك، قائلا: نذهب ونعبد آلهة أخرى، لم تعرفها أنت ولا آباؤك، من آلهة الشعوب الذين حولك، القريبين منك أو البعيدين عنك، من أقصى الأرض إلى أقصاها، لا ترض منه ولا تسمع له، ولا تشفق عينك عليه، ولا ترق له، ولا تستره، بل قتلا تقتله حتى يموت لأنه التمس أن يطوحك عن الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من العبودية ) (سفر التثنية 13: 611) و في الإصحاح نفسه: ( و الرجل الذي يعمل بطغيان، فلا يسمع للكاهن أو للقاضي .. يقتل ذلك الرجل، فتنزع الشر من إسرائيل). إذا رأيت هذا الشخص "يذهب" بعيداً عن الله وعن شريعته وعن جادة الصواب ليعبد آلهة من آلهة الشعوب الأخرى، يعبد الشمس أو القمر أو أي واحد "من جند السماء": وهي الكواكب والنجوم مثلما تفعل بعض الشعوب، وقد نهيتكم عنه وحذرتكم منه. "وأخبرت وسمعت وفحصت جيداً، وإذا الأمر صحيح أكيد قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل" إذا بلغكم نبأ هذا الشخص وفحصت الأمر فحصاً دقيقاً وتأكدت أن ما عمله صحيح وأنه خان الرب بالفعل " إذا وجد في وسطك رجل أو إمرأة، يفعل شراً و يعبد آلهة أخرى .. قد عمل ذلك الرجس في إسرائيل،فأخرج ذلك الرجل أو تلك المرأة الذي فعل ذلك الأمر الشرير إلى أبوابك الرجل أو المرأة وارجمه بالحجارة حتى يموت فتنزع الشر من إسرائيل " سفر الثتنية إصحاح 17. فإذا ثبتت عليه الإدانة على أيدي رجال القضاء وبشهادة الشهود، فيجب أن ينفذ فيه حكم الإعدام رجماً بالحجارة، ويكون تنفيذ الحكم عند أبواب المدن حتى يراه الجميع ويكون عبرة لغيره. "على فم شاهدين أو ثلاثة شهود، يقتل الذي يقتل. لا يقتل على فم شاهد واحد. أيدي الشهود تكون عليه أولا لقتله، ثم أيدي جميع الشعب أخيرا، فتنزع الشر من وسطك". شروط تطبيق الحد على المرتد في التوراة: 1- لا تحكموا عليه بالقتل جزافاً أو بعجلة، بل بعد فحص دقيق وبشهادة شاهدين أو ثلاثة على الأقل وليس على فم شاهد واحد حتى تكونوا أبرياء من دمه. 2- ويجب أن يبدأ الشهود برجمه لأنهم هم الشاهدون لفعلته الدنيئة والمسئولون عن دمه إذا كان بريئاً، فيتحملون وزر شهادتهم إذا كانت كاذبة. ومتى رجمه الشهود يرجمه باقي الشعب. ويرجح: أن يكون المقصود: نوابه ورؤساء أسباطه. "فتنزع الشر من وسطك": وفي الترجمة السبعينية" فتنزع الشرير من وسطك": والمقصود: أنه بالتخلص من هذا الإنسان يتخلصون من الرجس، ومن الفتنة الردية ومن فاعليها أيضاً. وباعتبار أن قتل المرتد نص صريح في التوراة نفسها فقد مثلت الفتوى التاريخية التي أصدرها علماء اليهود بقتل سيدنا عيسى عليه السلام باعتباره مرتداً أكبر دليل على تطبيق حكم وعقوبة الردة في تشريعها الديني . فرغم اعتراض قيافا وحنانيا رجلا الدين والإفتاء في اليهودية على الدعوة الجديدة وغسل بيلاطس الرومانيّ يده من اتّهام السيد المسيح قائلاً: (إنّي بريء من دم هذا البار) وطلب إعدام مجرم آخر بدلاً منه ولكنهم أصروا إصراراً عنيداً على ضرورة تطبيق عقوبة الردة (كما زعموا )في حقه . وقال أحبار اليهود للمسيح ألسنا نقول حسناً إنّك سامري وبك شيطان. (يوحنا 8/48) وحكى القرآن الكريم عن فتوى مماثلة صدرت في مصر ضدّ سيّدنا موسى عليه السّلام، وجاءت بكلّ وضوح وصراحة لا تحتمل أيّ تأويل. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَفَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوااقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَاكَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ . (سورة غافر23-26 لقد عارض فرعون مصر رمز القوّة والقانون والقائد الأعلى للجيش وصاحب السّلطة العليا ديانة موسى رغم ما قدمه أمامه وأمام رجاله المختارين من اليد البيضاء والحجج الدامغة والبراهين القاطعة. وقال فرعون لموسى أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. (طه 57 - حكم الإعدام الذي طبق على سيدنا إبراهيم (بالنار)، وغيره من الأنبياء والمرسلين فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاِّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَت لِّقَوْم يُؤمِنُونَ (24) وعلى الرغم من هذه الأحكام التي وردت في حق المرتد في سلسة التاريخ الديني للعهد القديم نجد نصوصا تقر بردة بعض الأنبياء نذكر منها : ردة نبى الله هارون بالدعوة لعبادة في سفرالخروج إصحاح32: 1-6] ردة نبى الله سليمان وعبادته للأوثان: (( فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَان لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى َ لَهُ مَرَّتَيْنِ، وَأَوْصَاهُ فِي هَذَا الأَمْرِ أَنْ لاَ يَتَّبِع آلِهَةً َ أُخْرَى. فَلَمْ يَحْفَظْ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ.))الملوك الأول 11:9-10 ردة زوجة نبى الله سليمان مقلة ابنة أبشالوم عملت تمثالاً لسارية: (ملوك الأول 15: 13 و أخبار الأيام الثانى 15: 16) ردة نبى الله جدعون يبنى مذبحاً لغير الله ويُضلِّل بنى إسرائيل: (قضاه: 8: 24-27) ردة نبى الله آحاز يعبد الأوثان ملوك الثانى16: 2-4،وأيضاً أخبارالأيام الثانى28: 2-4) ردة نبى الله يربعام يعبد الأوثان: (ملوك الأول 14: 9) ردة نبى الله بعشا بن يربعام بعبادته الأوثان (ملوك الأول 15: 33-34) ردة نبى الله يفتاح الجلعادى يقدم أضحية للأوثان(قضاة 11: 30-31) ردة نبى الله أخاب بن عُمرى يعبد البعل ويسجد له(ملوك الأول16: 31-33) ردة نبى الله يهورام بعبادته العجل (ملوك الثانى 3: 1-25) ردة نبى الله أمصيا بعبادته الأوثان (أخبار الأيام الثانى 25: 14 الحرية الدينية وإشكالية الردة في المسيحية من المعروف أن المسيحية نشأت في أحضان الإمبراطورية الرومانية، وقد شهد تاريخ هذه النشأة تصورات مغالية وأفكار متطرفة في تعصبها تدعو إلى اضطهاد الأديان الأخرى غير المسيحية والى استعمال القوة والقمع معها (خاصة في عهد القديس اوغسطين)، وبُرر ذلك بان إرغام الآخرين على اعتناق المسيحية يؤدي على الأقل إلى تعاليمهم، واستندت هذه الدعوى إلى نصوص من الانجيل، وخصوصاً إلى العبارة الواردة في إنجيل لوقا (اصحاح14 عبارة23 ) القائلة: "أرغموهم على الدخول compelle intrare " وتزايدت إجراءات وقوانين الاضطهاد بدخول القرون الوسطى، فعلى سبيل المثال (تعتبر القرون الوسطى مثالاً على ما عانته الشعوب الأوربية التي رزحت تحت نير الإرهاب والقمع الفكري باسم الكنيسة، حيث سنّ الملك (شارلمان) قانوناً يقضي بإعدام كل من يرفض أن يتنصّر -أي أن يصبح نصرانياً- ولما قاد حملته القاسية على السكسونيين والجرمان أعلن أن غايته إنما هي تنصيرهم. ولمحاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة في تلك العصور سمعة سيئة وسجلاًّ قاتماً مظلماً، فقد اجتهدت في فرض آراء الكنيسة على الناس باسم الدين والتنكيل بكل من يرفض أو يعارض شيئاً من تلك الآراء، فنصبت المشانق وأشعلت النيران لإحراق المخالفين، ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكمة يبلغ عددهم (300000) وأحرق منهم (32000) أحياء كان منهم العالم الطبيعي المعروف (برونو)، نقمت الكنيسة منه نتيجة لآرائه المتشدّدة، والتي منها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، وهكذا عوقب العالم الطبيعي الشهير (غاليلو) بالقتل، لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس. وكانت المسيحية قد فرضت فرضاً بالحديد والنار ووسائل التعذيب والقمع التي زاولتها الدولة الرومانية بمجرّد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية، بنفس الوحشية والقسوة التي زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعايا الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعاً وحبّاً، ولم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا المسيحية، بل إنها ظلّت تتناول في ضراوة المسيحيين أنفسهم الذين لم يدخلوا في مذهب الدولة، وخالفوها في بعض الاعتقاد بطبيعة المسيح). وقد اصدر الإمبراطور فريدش الثاني قراراً يقضي بإحراق المتهمين بالهرطقة من المسيحيين، وضد المسلمين واليهود. و أيدت قراراته بمباركة كل من البابا جريجوريوس التاسع (سنة1231 ) وانوسنت الرابع (سنة1252 ) وتولى تطبيق هذه الإجراءات "ديوان التفتيش inquisition " ابتداءً من أواخر القرن الثاني عشر. ولكن منذ منتصف القرن الخامس عشر بدأت تظهر بوادر التسامح to lerantia واخذ يرتفع صوتها ويشتد ساعدها بقيام الإصلاح الديني على يد مارتن لوتر (1483 – 1546 م) وكانت دعوته موجهة ضد البابا والكنيسة فقد قال لوتر: "ينبغي التغلب على الملحدين بواسطة الكتابة، لا بواسطة النار" أما قيام الفرق داخل المسيحية فهو في نظره أمر طبيعي. يقول في هذا: "لابد من قيام فرق (انشقاقات) ويجب أن تدخل كلمة الله ساحة القتال وتناضل...ولتجتمع النفوس مع بعضها ولتلتقي...حيث يوجد نزاع ومعركة، فلابد أن يسقط البعض وان يُجرح البعض الآخر" وهنا تجدر الإشارة إلى تعاظم اضطهاد الكنيسة الانجليكانية لمن يتحول عن مذهبها ونشر روح التعصب من خلال مؤلفات كتابها، خاصة كتاب : "قول في السياسة الكنسية" لمؤلفه باركر (أسقف اكسفورد) ويصرح باركر بأنه قصد بهذا الكتاب لا أن يقنع "المخالفين" بفضائل العقيدة الانجليكانية، وانما تنبيه السلطات المدنية والروحية إلى الخطر الناجم عن وجود "المخالفين" لأنهم بحسب ادعائه " أسوء واخطر أعداء" لكل شكل من أشكال السلطة. لقد كان كتابه بمثابة إعلان حرب على كل من يخالفون الكنيسة الانجليكانية في العقيدة. وكان باركر يعتقد إن المَلكية تقوم على قرار من الله، ولهذا كان يقول إن القائمين بالأمر في الكنيسة والدولة اقدر على القوانين والسياسات من غيرهم. وعلى أساس هذا المبدأ – أي سلطة الملك المطلقة وخطورة المخالفين على النظام – دعت الأغلبية في البرلمان إلى الأخذ بمبدأ اضطهاد الآخرين وخصوصاً الكاثوليك. وقال توماس ادواردز وهو من أشدهم خصومة للتسامح: "إن الكتاب المقدس وشهادة رجال الإصلاح الديني – وهم بمثابة آباء جدد للكنيسة – يوافقون على العقاب البدني للهراطقة وعلماء الدين الزائفين" وخلاصة رأيه إن " التسامح هو اكبر خطة وضعها الشيطان" . إزاء هذا التعصب الشديد ضد "المرتدين" انبرى بعض الكتاب للدفاع عنهم والدعوة إلى التسامح معهم، منهم الكاتب وليم بن في كتابه " معقولية التسامح سنة 1687 الذي يؤكد فيه: "إن روح الإنسان ليست في متناول سيف الحاكم" ولهذا لا يجوز مطلقاً استخدام الإكراه في شئون الإيمان لان القوة لا يمكن أن تضع نفسها محل تلك الأمور التي تتصل بعقل الإنسان.قد يفلح الإكراه في إيجاد نوع من التوافق الظاهري في ممارسة العبادات والنشاطات الدينية، لكنه يخلق منافقين – حسب تعبير وليم بن – في أمور الدين. والى جانب انجلترا كانت الدعوة إلى التسامح في هولنده وفرنسا في نفس الفترة مرفوعة اللواء قوية النداء، ففي سنة 1681 اصدر بيير بيل كتاباً بعنوان: "نقد عام لتاريخ الكلفانية" يقول فيه: " إن من الواضح إن الدين الحق، ايَّاً ما كان، لا يحق له أن يدعي أي امتياز يخولّ له العنف مع الديانات الأخرى، ولا يحق له أن يدعي إن الأفعال التي يرتكبها هو بريئة لكنها تكون جرائم إذا ارتكبها الاخرون، انه عدوان أكيد على حقوق الله أن يريد الإنسان إكراه الضمير". وتعد رسالة جون لوك في التسامح بمثابة انقلاب جوهري مع أفكاره السابقة ضد التسامح، ويقال إن السبب في تغيير فكره باتجاه التسامح هو انه لما ترك انجلترا سنة 1645 وأقام بضعة اشهر في مدينة "كلف" الألمانية وكان يسودها تسامح ديني مدهش اثر تأثيرًا بالغاً في نفس لوك. وقد عبر عن هذا المعنى في رسالة إلى أحد أصدقاءه يُخبره فيها انه شاهد الناس يمارسون عبادتهم بحرية ويحتمل بعضهم البعض. يقول في الرسالة: " ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو، لان هذه المسالة شان خاص ولا يعني أي إنسان آخر.إن الله لم يمنح مثل هذه السلطة لأي إنسان، ولا لأية جماعة، ولا يمكن أي إنسان أن يعطيها لإنسان آخر فوقه إطلاقاً ".5 وقد أفادنا المترجم الموسوعي الدكتور عبد الرحمن بدوي (مترجم الرسالة عن النص اللاتيني إلى العربية/1987 ) في صياغة الأفكار الرئيسية في الرسالة على النحو التالي: 1-لابد من التمييز بين مهمة الحكومة المدنية، وبين مهمة السلطة الدينية، واعتبار الحدود بينهما ثابتة لا تقبل أي تغيير. 2-رعاية نجاة روح كل إنسان هي أمرٌ موكول إليه هو وحده، ولا يمكن أن يعهد بها إلى أي سلطة مدنية أو دينية. 3-لكل إنسان السلطة العليا المطلقة في الحكم لنفسه في أمور الدين. 4-حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان. 5-التجاء رجال الدين إلى السلطة المدنية في أمور الدين إنما يكشف عن أطماعهم في السيطرة الدنيوية. والمشاهد على مدى التاريخ إن تحالف الحاكم مع رجال الدين كان دائماً لصالح طغيان الحاكم فهو الأقدر على التأثير فيهم، وليسوا هم قادرين على تقويمه وردّه إلى السبيل القويم إن جنح إلى الظلم والاستبداد. 6-لا ينبغي للحاكم أن يتسامح مع الآراء التي تتنافى مع المجتمع الإنساني أو مع تلك القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني. 7-يستثني لوك من التسامح تلك الفِرق أو المذاهب الدينية التي تدين بالولاء لأمير أجنبي، لكن لا لأسباب دينية، بل لأسباب سياسية. 8-يجب ألا تُتهم المذاهب المخالفة للمذهب السائد في الدولة بأنها بؤر لتفريخ الفتن وألوان العصيان. إن هذه التهمة لن تكون لها أي مبرر إذا ما قام التسامح، فان السبب في وجود دواعي الفتنة عند المخالفين هو ما يعانونه من اضطهاد من جانب المذهب السائد. ولهذا فانه متى ما زال الاضطهاد واستقرّ التسامح معهم، زالت أسباب النوازع إلى الفتنة والعصيان.. 9- ومن أسباب التآمر والفتن استبداد الحاكم ومحاباته لاتباعه ولبني دينه، لهذا يرى لوك أن من حق الأفراد أن يستخدموا القوة في الدفاع عن أنفسهم ضد السلطة الظالمة. الحرية الدينية وعقوبة الردة في الإسلام الإسلام لم يحافظ فقط عن حرّيّة الرّأي بل عن حرّيّة الشّخص بممارسة معتقده الخاصّ والعامّ أمام الله والنّاس؛ لذا اعترف بحقّ الحّريّة الدّينيّة وضمن ممارستها من قبل جميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية. مع احتفاظه بحقّ الحماية الخاصّة من سوء استعمال البعض للحرّيّة الدّينيّة . ومن هذا المنطلق الإسلام لايعاقب على حرية التدين وإنما يرفض المجاهرة بالردة والداعي المحرض عليها؛ حماية لهوية المجتمع وحفاظًا على أسسه ووحدته. ولا يوجد مجتمع في الدنيا إلا وعنده أساسيات لا يسمح بالنيل منها مثل: الهوية والانتماء والولاء، فلا يقبل أي عمل لتغيير هوية المجتمع. لا يمكننا البحث في مسألة الدّين والردة من دون التّوقّف أمام موضوع الحرّيّة الدّينيّة. فهي حقّ من الحقوق الأساسيّة للشّخص البشريّ، لممارسة دينه ومعتقداته حسب متطلّبات ضميره. لذلك، من الضّرورة بمقدار، تجنّب الخلط بين الحرّيّة الدّينيّة والإضرار بمصالح السلطة المدنية ، يجب أن تُحترَم الحرّيّة الدينيّة من الجميع، لأنّ ما من سلطة بشريّة تستطيع أن تحلّ مكان ضمير الإنسان الذي له وحده حرّيّة القرار عبر الانسجام مع مستوجبات الحقّ الإلهيّ حسب ديانته الشّخصيّة. ومن أجل هذا اعتبرت الخيانة للوطن وإفضاء الأسرار لأعدائه جريمة كبرى، ولم يقل أحد بجواز إعطاء المواطن حق تغيير ولائه الوطني لمن يشاء ومتى يشاء. إن القرآن يستطيع أن يمثل الأرضية القانونية والأخلاقية لنظام قيم جديد، فالقرآن يؤسس لنظام قيم تعددي يصون حرية المعتقد والضمير ، ويسمح بتعددية خلاقة مبدعة، تحول نقمة الاختلاف إلى نعمة، وتدفع العالم باتجاه آفاق إنسانية جديدة تضئ الجزء المظلم من اللوحة الإنسانية، يقول تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم،ْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48/المائدة) فالقرآن لا يعطي نفسه حق الإلغاء. 1. والقرآن يلغي كل وصاية على الضمائر ويدين كل محاولة لسبرها و يعلن أن عالم العقائد والأفكار لا سلطان لبشر عليه، وأن الفصل بين الأديان قضية إلهية، أخروية، تشترط معرفة كلية، لا تتيسر لبشر يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17/الحج) والآية تذكر كل العقائد المعروفة في الفضاء الثقافي للجزيرة العربية القرن السابع الميلادي، فالتعداد للمثال وليس للحصر، وعليه فإن الحروب لا يمكن تبريرها لاعتبارات دينية ولا وجود لحرب مقدسة! والقرآن يعتبر كل محاولة للشق عن الصدور، والتحري عما تكنه الضمائر محاولة دنيوية تخفي ورائها مطامع أرضية سفلية يقول تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (94/النساء). 2. والقرآن ينكر احتكار الحقيقة، ويعتبر كل محاولة من هذا النوع محاولة غير مشروعة تنطوي على جهل بطبيعة الإنسان، التي لا تمكنه من إدراك الحقائق إلا بصورة نسبية، وبطبيعة العمران، الذي لا يمكن أن يتقدم إلا بوجود الاختلاف الوظيفي الضروري، وبطبيعة الأديان، التي أنزلت بما يناسب الطبيعية البشرية، (وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113/البقرة). 3. والقرآن يعظم الحياة الإنسانية ، ويعتبر الاعتداء على أي إنسان اعتداء على كل إنسان (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)(32/المائدة)، وهو لا يجيز استباحة الحياة الإنسانية لأية مبرر، فقد ضيق القرآن الحالات التي يجوز فيها إزهاق الحياة البشرية ، يقول سبحانه وتعالى : (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8 /الممتحنة ورغم أن مجمل هذه الآيات يوضح حرية العقيدة والتدين في الإسلام إلا ان الشبهات لازالت تحوم حول اتهام الإسلام بأنه يكره أتباع الملل الأخرى والنحل المخالفة قسرًا على الدخول في هذا الدين، بالاستدلال بعقوبة حد الردة وتكره الآخرين على اعتناق الإسلام. فواضح أن هذه الآيات تقرر حرية الإنسان في الاعتقاد، له الحرية في أن يعتنق الإسلام، لكنه إذا أعرض فليس من حق الرسول أن يجبره على ذلك. ويستدل كثير من الفقهاء على أن هذه الآيات "نُسخت بآية السيف". وفي نظرنا أن مفهوم "النَّسخ" ومفهوم "آية السيف" مفهومان لا وجود لهما في القرآن. أما "النسخ" فقد ورد لفظه و المقصود ب"المنسوخ" فيما وُصف في القرآن بهذا الوصف، أو بما في معناه، هو إما الشرائع الماضية، وقد نُسخت بمجيء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عليه الصلاة والسلام، وإما "الآيات" المعجزات التي خص الله بها بعض أنبيائه ورسله، والتي تختلف من نبي إلى نبي (عصا موسى، آيات عيسى)... الخ. أما ما يسمى ب"آية السيف" فليست هناك "آية سيف"، بل آيات تبيح -أو تدعو- إلى قتال مشركي مكة الذين كان المسلمون قد دخلوا معهم في حرب، مضطرين تحت تهديد التصفية بالقتل بعد أن طُردوا من ديارهم، ومن بينهم الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام. فالحرب التي خاضها المسلمون بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام كانت دفاعاً عن النفس، لا غير. والجدير بالذكر أنها كانت خالية من روح الانتقام تماماً. فالمعروف أن النبي عليه الصلاة والسلام قَبِل "صُلح الحديبية" حينما اعترضته قريش ومنعته من الدخول إلى مكة لأداء العمرة. ومن المعروف كذلك أن فتح مكة لم يكن بقتال بل بمفاوضات مهَّد لها قرار النبي عليه الصلاة والسلام الزواج بأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم مشركي قريش آنذاك، ثم قادها فيما بعد عمُّه العباس، فكانت النهاية الدخول إلى مكة بدون قتال، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي المنادي: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ، ومن أغلق بابَه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن". هذا عن حرية الاعتقاد على المستوى العام، يعني باعتناق الإسلام ابتداءً. أما مسألة "المرتد"، وهو الذي يعتنق الإسلام ثم يرتد عنه إلى اعتقاد آخر، فهي مسألة تقع على مستوى الخاص، إذا نظر إليها من زاوية "حرية اعتناق الإسلام"، وهذا الخاص فيه مستويان: الخاص، وخاص الخاص. أما على المستوى الخاص فالمرجع فيه هو جملة آيات هي قوله تعالى: "مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (النحل 106)، وقوله: "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 217)، وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (آل عمران 77)، وقوله: "كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ" (آل عمران 86-87). ويقول تعالى: "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً" (النساء 115) وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً" (النساء 137). في جميع هذه الآيات نجد أن حكم المرتد، كما يتحدد في سياقها، هو لعنة الله، غضب الله، جهنم... وليس القتل، وأكثر من ذلك فباب التوبة مفتوح أمامه. هذا في القرآن، أما في الفقه، فحكم المرتد هو القتل كما هو معروف. ويستند الفقهاء في ذلك إلى حديث: "من بدَّل دينه فاقتُلوه". فكيف نفسر هذا الاختلاف؟ فقتال المرتدين زمن خلافة أبي بكر واقعة تاريخية لاشك فيها. ولكن لابد من التمييز بين المرتد الذي يغير دينه كشخص ليست له أية دوافع أخرى غير اقتناعه الشخصي الديني، وحكمُه، كما ورد في الآيات السابقة، عقابٌ أخروي لا غير. أما المرتد بدافع خارجي، خارج مجال الاعتقاد المحض، فشيء آخر، وهذا ما حدد ب"خاص الخاص" في هذه المسألة. ذلك أن المرتدين الذين حاربهم أبو بكر بوصفه رئيساً للدولة لم يكونوا مجرد أشخاص غيروا عقيدتهم، ولا شيء بعد ذلك، بل كانوا أناساً أعلنوا التمرد على الدولة، فامتنعوا عن دفع الزكاة بدعوى أنها كانت التزاماً منهم للرسول عليه الصلاة والسلام وحده دون غيره، بل لقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، إذ نظموا أنفسهم للانقضاض عليها. ف"المرتد" بهذا المعنى هو من خرج على الدولة، إسلامية كانت أو غير إسلامية، "محارباً" أو متآمراً أو جاسوساً للعدو... وإذن فحكم الفقه الإسلامي على "المرتد" بهذا المعنى ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد، بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة، وضد التواطؤ مع العدو أو التحول إلى لص أو عدو محارب. ومن هنا نفهم كيف يربط الفقهاء بين حكم "المحارب"، وهو مَن يخرج على الدولة والمجتمع ويشهر السلاح ويقطع الطريق، وبين "المرتد". ذلك أن "المرتد" في الخطاب الفقهي الإسلامي هو صنف من "المحاربين" (قطاع الطرق) وحكمه يختلف من فقيه إلى آخر حسب ما يكون المرتد محارباً بالفعل أو لا. فالمرتد المحارب يقتل باتفاق الفقهاء، أما قبل أن يحارب، فقد اختلفوا هل يستتاب أولاً، أم يقتل من دون استتابة. كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن فقهاء الإسلام كانوا يفكرون في "المرتد" ليس من زاوية أنه شخص يمارس حرية الاعتقاد، بل من زاوية أنه شخص خان المجتمع وخرج ضده نوعاً من الخروج. وهناك من يرى أن الردة تتجاوز مسألة الحرابة، لتدخل في حكم "الخروج على الدولة الإسلامية" والتمرد عليها، وبالتالي فهي بمنزلة "خيانة عظمى للأمة" من خلال "الطعن في النظام الاجتماعي والسياسي للدولة، والقائمين على الإسلام"، وعلى أساس أن الردة مؤداها "تبديل الولاء والانتماء من الإسلام إلى العدو"، وهو رأي سيد قطب ومحمد الغزالي. ويذهب القرضاوي إلى أن الردة "تغيير للولاء، وتبديل للهوية، وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة إلى أمة أخرى، ومن وطن إلى وطن آخر، أي من دار الإسلام إلى دار أخرى". أما د. سليم العوا فإنه يرى أن هذه العقوبة "تعزيرية مفوضة إلى السلطة المختصة في الدولة الإسلامية، تقرر فيها ما تراه ملائما من العقوبات، ولا تثريب عليها إن هي قررت الإعدامَ عقوبة للمرتد"، فالمراد مِن "فاقتلوه" هو "إباحة القتل لا إيجابه" بحسب قوله. وبناء على ذلك يتضح أن الحكم بقتل المرتد يحيط به اختلاف واسع، يبدأ من الخلاف في قتله أولا، ثم في كيفية بناء الحكم على الأدلة التي يحيط بها اختلاف واسع في كيفية فهمها، وصولا إلى تخصيص الحنفية له بالرجل، وذهاب الجمهور إلى كونه للرجل والمرأة، وانتهاء بالخلاف حول الاستتابة ومدتها وقبولها هذه التأويلات التي توزعت بين إعادة التفكير بالحكم، والتسليم به مع إعادة تبريره تبريرا "معاصرا"، تعترف -ضمنا- بأن الحكم نفسه يكتنفه الإشكال، مع شيوع قيم حرية الاعتقاد والحرية الدينية عامة. وما نريد أن نخلص إليه من كل ما سبق هو أن الوضع القانوني ل"المرتد" لا يتحدد في الإسلام بمرجعية "الحرية"، حرية الاعتقاد، بل يتحدد بمرجعية ما نسميه اليوم ب"الخيانة للوطن"، بإشهار الحرب على المجتمع والدولة. وبالمثل فإن الذين يتحدثون اليوم عن "حقوق الإنسان" وفي مقدمتها حرية الاعتقاد لا يدخلون في هذه الحرية "حرية الخيانة للوطن والمجتمع والدين"، ولا "حرية قطع الطريق وسلب الناس ما يملكون"، و"لا حرية التواطؤ مع العدو". وإذن: فالحرية شيء و"الردة" شيء آخر. ويبقى مطلوباً من الاجتهاد الفقهي المعاصر النظر في ما إذا كان المسلم الذي يعتنق ديناً آخر اعتناقاً فردياً لا يمس من قريب أو بعيد بالمجتمع ولا بالدولة، يدخل في دائرة "المرتد" الذي يستباح دمه! أعتقد أن من يقول بذلك لا يستطيع أن يدلي بأي نص ديني يرد به على من يعارضه، إلا الآيات التي أوردناها سابقاً، والتي تتوعد المرتدِّين الوعيد الأكبر، ولكن دون التنصيص على عقابه في الدنيا أي عقاب.