الوصية من حيث حكمها الشرعي لم تكن موضع اتفاق ووفاق بين فقهاء الشريعة، فبعد اتفاقهم على أن الإنسان إذا كانت عليه حقوق كالودائع والأمانات والديون يخاف ضياعها على أصحابها، أو كانت له حقوق يخشى تلفها على ورثته، فالوصية واجبة عليه وجوبا حتميا، اختلفوا فيما عدا ذلك على النحو الآتي: أ حكم الوصية عامة: ذهب جمهور الفقهاء، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي في رأيه الجديد وأحمد بن حنبل والنخعي والثوري والشعبي وغيرهم، إلى أن الوصية بجزء من مال الإنسان ليس واجبا عليه، سواء كان هذا الإنسان فقيرا أو غنيا، وأن حكمها الشرعي الاستحباب والندب، فمن شاء أن يوصي بجزء من ماله فعل المندوب، ومن أبى ترك المستحب ولا شيء عليه في ماله ولا إثم عليه، وليست الوصية عندهم إلا مستحبة ومندوبة، وما عندهم وصية واجبة إلا إذا تعلقت بوصية بحق أو دين أو ما شابه ذلك. وذهب جمع آخر من فقهاء الشريعة إلى أن الحكم في الوصية الوجوب والحتم لا الاستحباب والندب، وهي واجبة للأقربين الذين لا يرثون لسبب من الأسباب كالوالدين والأقربين الكافرين، وممن ذهب إلى هذا الرأي، الضحاك وطاوس والحسن والزهرى وأبو مجلز وحكي عن مسروق وإياس وقتادة وابن جرير وأهل الظاهر وهو مذهب الشافعي في القديم. و قد اقترنت الوصية الواجبة باسم الفقيه ابن حزم الظاهري، الذي دافع عنها دفاعا مستميتا، إذ لا تذكر في الفقه الإسلامي إلا مقرونة باسمه ونظريته، وفيها يقول : >وفرض على كل مسلم أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون إما لرق وإما لكفر، وإما لأن هناك من يحجبهم عن الميراث، أو لأنهم لا يرثون<. بل وأكثر من هذا فإن ابن حزم يذهب إلى أبعد مدى في الوصية الواجبة ويفرضها على المسلم فرضا، ويلزمه بها في حال حياته وبعد مماته، فإن مات ولم يوص، انتقل هذا الفرض إلى ورثته بنصيب لا ضرر فيه عليهم، فإن أبوا أخرجت الوصية من تركته جبرا عليهم. يقول في هذا الصدد : >فمن مات و لم يوص ففرض أن يتصدق عنه بما تيسر ولا بد لأن فرض الوصية واجب (...) ولا حد في ذلك إلا ما رآه الورثة أو الوصي مما لا إجحاف فيه على الورثة<. وكما يبدو فإن ابن حزم لم يجعل لهذه الوصية مقدارا معينا، ولم يحصر عدد الأقربين الذين تجب لهم ولم يسمهم، لكنه حددهم في الأدنى، فقال: >فإن أوصى لثلاثة من أقاربه المذكورين أجزأه<. ب اختيارات بعض قوانين أحكام الأسرة: وفي رأي هذا الجمع من الفقهاء، وباجتهاد ابن حزم على الخصوص، أخذت جل دول العالم العربي والإسلامي، ونصت في قوانينها لأحكام الأسرة على فرض هذه الوصية، ولكن بشيء من الاجتهاد والتوفيق، حيث قصرتها على أقارب معينين وبشروط خاصة، مع تحديدها في الثلث. وبذلك أصبح للوصية قسمان كبيران هما: وصية إرادية أو اختيارية، وهي التي عقدها الموصي في حياته بإرادته المنفردة عن طواعية واختيار، ومن أنواعها الوصية بالتنزيل، وهي أن يلحق الشخص بمحض إرادته شخصا لا يرثه بورثته ويوصي بتوريثه معهم في تركته، أو ينزله منزلة ولده. ووصية واجبة، وهذه إما واجبة بالشرع إجماعا على من عليه حقوق بغير بينة أو أمانة بغير إشهاد، وهذه لا تعنينا هنا، وإما واجبة بالقانون، استنادا على الرأي الفقهي المذكور على من ترك أولاد ابن أو بنت توفيت قبل أصلها، وهذه هي المقصودة بالوصية الواجبة عند الإطلاق وهي المقصودة عندي هنا. وقد اختلفت القوانين العربية التي أخذت بنظام الوصية الواجبة حول دائرة المستفيدين منها، فبينما قصرها التقنين السوري على خصوص ولد الابن وإن نزل دون ولد البنت، نجد أن التقنين المغربي مدونة الأسرة والكويتي وسعا هذه الدائرة، وأوجباها لفروع الطبقة الأولى من أولاد البنات، ولفروع أولاد الأولاد وإن نزلوا. وأوسع من هذا فإن القانون المصري أوجبها لذرية الفرع وإن نزل كان هذا الفرع ذكرا أو أنثى. ج طريقة استخراجها: ويجري العمل في كيفية استخراجها على طريقتين مختلفتين هما: طريقة التنزيل بالمساواة وطريقة المناسخة. أما طريقة التنزيل بالمساواة فهي التي تصير فيها الفريضة كالعائلة، وهذه الطريقة من اجتهاد الفقيه حماد العراقي، رحمه الله، ومن فهمه لدلالة الفصل 270 من مدونة الأحوال الشخصية سابقا، المادة 370 من مدونة الأسرة حاليا. وهذه الطريقة ضيقت من معنى عبارة المادة 370 : >على فرض موت أبيهم أو أمهم إثر وفاة أصله<، لأن فرض موت أمهم أو أبيهم إثر وفاة أصله، لا يقتضي أن يوزع نصيبه الذي خلفه لأولاده فقط، بل يقتضي توزيعه على جميع ورثته، ولذلك فإنه بهذه الطريقة يأخذ الحفدة أكثر مما يأخذونه بالطريقة الثانية التي نبه إليها الأستاذ الدكتور الغازي الحسيني. أما طريقة المناسخة فتقتضي سلوك عمليتين: عملية المناسخة، وعملية الوصية الإرادية، وهي الطريقة التي أشارت إليها بقوة المادة 370 من المدونة، وذلك على أساس أن عباراتها ومقتضياتها واضحة في فرض أم أو أب الأحفاد مات بعد وفاة أصله، وهو ما يقتضي أن نصيبه الذي ورثه في أحد أصليه خلفه لجميع ورثته، بمن فيهم أبوه إن توفيت أمه، أو أمه إن توفي أبوه، وكذا زوجته إن عاشت بعده، بالإضافة إلى أولاده الحفدة والحفيدات، وليس الحفدة والحفيدات فقط كما فهم في الطريقة الأولى، وهي مقتضيات شاملة عامة لم تستثن أحدا من ورثة الفرع المتوفى قيد حياة والده أو والدته، ويجب أن تطبق على عمومها، عملا بقاعدة أن العام يبقى على عمومه حتى يرد ما يخصصه، وحيث لم يرد في المدونة ما يخصص هذه المقتضيات ويقصرها على خصوص الحفدة والحفيدات فقط، فينبغي أن يوزع في العملية الافتراضية التمهيدية، لأنه في النهاية سيؤول الأمر إلى الورثة الأصليين دون الزوج في حالة البنت أو الزوجة في حالة الابن ما ورثه الفرع المتوفى في أحد أصليه، على سائر ورثته المذكورين دون استثناء. والاجتهاد القضائي المغربي يسير على طريقة العمليتين وبها يحكم. اجتماع الوصية الواجبة مع الوصية الإرادية والتنزيل وأيهم الأحق بالتقديم في حال ضيق الثلث؟ إن اجتماع الوصية الواجبة مع الوصية الإرادية والتنزيل في فريضة واحدة، إما أن يكون للشخص نفسه أو الأشخاص، وأعني للحفدة أو الحفيدات اللواتي توفي أبوهن أو أمهن قبل وفاة أصلهن، وإما أن يجتمع ذلك لأشخاص متعددين مختلفين، وفي كل إما أن يسع ثلث التركة كل الوصايا، وإما أن يضيق عنها ويرفض الورثة الزائد على الثلث. فإذا اجتمعت هذه الوصايا للحفيدات أو الحفدة الذين يستحقون الوصية الواجبة، كأن يوصي جد أو جدة لأولاد ابن أو بنت وينزلهم منزلتهما، ومات الابن أو البنت قبل أصلها، فإن الحكم في هذه الحالة هو ما نصت عليه المادة 371 من المدونة، أي أنه إذا كان جدهم أو جدتهم أوصت لهم أو أعطتهم في حياتها بلا عوض مقدار ما يستحقون بالوصية الواجبة، فالعمل على ما تضمنته الوصية الإرادية أو العطية، ولا عمل حينئذ بالوصية الواجبة، وإن أوصت لهم بأقل مما يستحقونه بالوصية الواجبة وجبت تكملته، وإن أوصت لهم بأكثر، كان الزائد متوقفا على إجازة الورثة، وإن أوصت لبعضهم فقط، وجبت الوصية الواجبة للآخر بقدر نصيبه على نحو ما ذكر. أما إذا اجتمع ذلك لأشخاص متعددين متفرقين، فإذا كان ثلث التركة يسعها جميعها، استحق كل واحد منهم ما ينوبه في وصيته ولا إشكال، وإن كان الثلث لا يسع كل الوصايا ورفض الورثة الزائد على الثلث، كأن ينزل جد أولاد ابن منزلة والدهم الذي بقي حيا بعد وفاته، وقدرت نسبة حصتهم في الربع، وأوصى بإرادته لابن أخيه بالسدس، وتوفيت بنت له قبل وفاته عن أبناء وبنات، وقدرت نسبة حصتهم في الثمن، ففي هذه الحالة يطرح الإشكال المذكور، فهل تعتبر هذه الوصايا متساوية في الرتبة، وبالتالي يقع التحاصص فيما بينها في ثلث التركة، أم يقدم بعضها على بعض؟. الوصية الواجبة أحق بالتقديم لكونها مستحقة بالقانون بداية يكاد الباحثون يجمعون على أن الوصية الواجبة في هذه الحالة هي الأحق بالتقديم، لكونها وصية مستحقة بقوة القانون، بينما التنزيل أو الوصية الإرادية إنما تستحق بإرادة الموصي، والواجب بالقانون أولى بالتقديم من الواجب بإرادة الموصي، ولأن تقديم الوصية الاختيارية أو التنزيل على الوصية الواجبة نقض لما أوجبه القانون، وقد تأثر الدارسون في هذا الموقف بما ذهبت إليه بعض القوانين الأسرية العربية، التي نصت صراحة على أن الوصية الواجبة مقدمة على سائر الوصايا الأخرى، كالقانون المصري والقانون الكويتي. لكن بالرجوع إلى القواعد العامة للمرجعية التي تنظم هذه الوصايا، يلاحظ أن الوصية الإرادية، ومنها التنزيل، مشرعة بمقتضى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيها يقول الله تعالى بعد ذكر أحكام الميراث: (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار)، ولعظم حق الموصي في ماله ووجوب احترام إرادته، كرر الله سبحانه وتعالى هذا الحكم أربع مرات في آيتين اثنتين؛ كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: >عادني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقلت أوصي بمالي كله، قال: لا، قلت: فالنصف، قال: لا، فقلت: أبالثلث ؟ فقال: نعم، والثلث كثير<. وهي نصوص قرآنية وحديثية لا يختلف اثنان في كونها نصوصا ثابتة دائمة لكونها قطعية الثبوت والدلالة، وبالتالي فهي واجبة الاحترام والتطبيق. أما الوصية الواجبة فمشرعة بموجب قانون يرجع في تأصيله إلى مجرد اجتهاد ظني، وإن استند إلى عموم آيات قرآنية وأحاديث نبوية، مضطرب لم يكن محط اتفاق بين علماء الشريعة، ومعلوم أن الحكم المستنبط من القطعي المتفق عليه أولى بالتقديم من الحكم المستنبط من الظني المختلف فيه. ومن ثم فإنه بناء على قاعدة التأصيل والمرجعية، تكون الوصية الإرادية أوالتنزيل هي الأولى بالتقديم وليس العكس، وهو ما يقول به بعض الباحثين. مدونة الأسرة لم تنص على تقديم وصية على أخرى إن كان ما سبق على مستوى قواعد الشريعة في التأصيل والمرجعية، فإنه على مستوى القواعد والنصوص القانونية، فمدونة الأحوال الشخصية سابقا أو مدونة الأسرة حاليا، لم تنص على تقديم إحدى الوصايا على الأخرى، بل فضلت السكوت عن الإشكال ولم تعالجه بالطريقة التي عولجت بها في القوانين العربية الأخرى، وذلك على الرغم من أن المدونة السابقة أو الحالية أخذت نصوص الوصية الواجبة من القانون السوري، الذي نص صراحة على تقديم الوصية الواجبة على الوصية الإرادية، حتى جاءت نصوصها في المدونة مطابقة لنصوصه بكيفية تكاد تكون حرفية، وأيضا على الرغم من أن هذه الإشكالية مطروحة بحدة على الواقع العملي، هذا مع العلم أن المدونة خضعت للتعديل والتغيير مرتين سنة 1993 وسنة ,2004 فلو كانت نية المقنن المغربي أن تقدم الوصية الواجبة على الوصية الاختيارية والتنزيل، لأخذ نصها منذ البداية من القانون السوري أو المصري، أو لعدل فيها سنة ,1993 أو ,2004 وهي السنة التي عرفت تغييرا شاملا في نصوص المدونة، وحيث إنه لم يفعل لا في المرة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة، دل على أنه يريد شيئا آخر غير تقديم إحدى الوصايا على الأخرى. وقد حاول بعض الباحثين الاستدلال على أن قانون الأسرة المغربي يساير القانون السوري والمصري في تقديم الوصية الواجبة على الوصية الاختيارية، وذلك من خلال تنصيصه في المادة 371 من مدونة الأسرة على وجوب تكملة المقدار المستحق بالوصية الواجبة، في حالة ما إذا أوصي لمستحقيها بأقل منه، حيث رأوا أن هذه التكملة لا تكون إلا على حساب الوصية الاختيارية والتنزيل. غير أنه بالنظر إلى أحكام ومقتضيات المادة 371 المشار إليها أعلاه، يبدو من جهة أنها تعزز الرأي القائل بتقديم الوصية الإرادية والتنزيل على الوصية الواجبة، بدليل أنها تؤكد على إتمام ما أعطي بالوصية الاختيارية ولا تلغيه، ومن جهة أخرى، فإن وجوب تكملة المقدار المستحق بالوصية الواجبة لا يعني وجوب تقديم هذه الأخيرة، وإنما معناه تكملة نسبة المقدار المستحق بالوصية الواجبة ليستحق صاحبها أكثر في حال التزاحم في الثلث مع باقي الوصايا والتنزيل. إذن فإذا كان مبدأ تقديم إحدى الوصايا على الأخرى غير وارد في قصد مدونة الأسرة، وبعيد كل البعد عن نية المقنن المغربي، يبقى احتمال اعتبار جميع الوصايا متساوية في الرتبة هو الأقرب إلى قصد المقنن المغربي، وهو الرأي الذي يقتضيه منطق العدل والمساواة، الذي جاءت به مقتضيات المدونة الجديدة، وبالتالي وجوب العمل بالإرادتين معا، إرادة الموصي وإرادة المشرع، وهو ما يفرض اللجوء إلى إخراج جميع الوصايا من الثلث إذا ضاق الثلث عنها كلها، ورفض الورثة الزائد عنه، وذلك بإعمال قاعدة التحاصص المنصوص عليها في المادة 302 من مدونة الأسرة.