نقدم للقراء نصا من النصوص الاجتهادية الخاصة بالزواج. وهو نص لأحد العلماء المغاربة الذين تم اختيارهم ضمن اللجنة الملكية الاستشارية المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية التي ترأسها الأستاذ امحمد بوستة خلفا للأستاذ إدريس الضحاك. هذا النص للدكتور محمد ابن معزوز خريج جامعة القرويين الحاصل على دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية، والدكتور في الحقوق بكلية الحقوق بفاس. اخترنا هذا النص من مؤلفه الضخم "أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية وفق مدونة الأحوال الشخصية"(في جزأين)، هذا وللرجل كتب أخرى منها "محاضرات في المدخل لدراسة الشريعة"و"وسائل الإثبات في الفقه الإسلامي" وغيرهما... خصصت المدونة الباب الثالث للكلام على الولاية في الزواج. وهو يحتوي على خمسة فصول. ونتكلم على الولاية، وشروطها، وترتيب الأولياء، وما يتعلق بذلك. ثم نتكلم على الإجبار والعضل، ونختم الكلام على الولاية بالكلام على الكفاءة في الزواج. المبحث الأول الولي شرط في الزواج سبق أن أشرنا إلى أن الزوجة لا تعقد الزواج لنفسها بنفسها، وأن وليها هو الذي يعقد الزواج لها. والآيات الواردة في النكاح تضيف العقد على المرأة للرجال. قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يومنوا) (1) وقال: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) (2). والولاية في الزواج تعني حق الولي في أن يتولى عقد زواج المرأة التي تحت ولايته. وقد وردت عدة أحاديث في لزوم الولي في الزواج، وأنه هو الذي سيتولى العقد نيابة عن المرأة. ومن هذه الأحاديث ما رواه أصحاب السنن. (عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، ) الحديث (3). ومنها أيضا ما رواه أصحاب السنن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي". ونظرا إلى أن هذا الحديث، وما يشتمل عليه من نفي، يقتضي تقدير محذوف يقع النفس عليه، فقد اختلف في تقدير هذا المحذوف. الرأي الأول: يرى أن النفي يتوجه إلى الوجود أو الصحة، أي لا نكاح موجود أو صحيح إلا بولي. وأن معنى الحديث على هذا: أنه لا يوجد عقد نكاح شرعي إلا بولي . فإذا لم يعقد الولي فإن العقد غير موجود. أو معناه: لا يصح النكاح إلا بولي. وإنه إذا لم يتوفر الولي فالعقد غير صحيح. وهذا هو مذهب الجمهور، ومنهم الشافعي، وابن حنبل، وهو مذهب الصحابة جميعا، وقد روى عكرمة بن خالد قال: (جمعت الطريق ركبا فجعلت امرأة منهن ثيب أمرها بيد رجل غير ولي فأنكحها فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد نكاحها) (4). الرأي الثاني: يرى أن النفي يتوجه إلى الكمال، أي لا نكاح كامل إلا بولي، فإذا لم يعقد الولي نكاح المرأة، فزواجها صحيح، إلا أنه غير كامل. واستدل أصحاب هذا الرأي على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: >الثيب أحق بنفسها من وليها< (5). لكن يرد عليهم بأن هذا الحديث ينص على أن الثيب لابد من أن تعرب عن رضاها، ولا ينص على أنها هي التي تتولى العقد بنفسها. والمالكية يسيرون مع الجمهور، ويرون أن الولي شرط في الزواج لا يصح إلا به، بحيث لا تعقد المرأة الزواج لنفسها بنفسها، سواء كانت بكرا أو ثيبا، رشيدة أو سفيهة، كان لها أب أو لم يكن، ولو أذن لها وليها في ذلك. فإن عقدت لنفسها فإن الزواج يفسخ قبل الدخول وبعده، ولو طال، وولدت الأولاد. وعلى هذا سارت المدونة في أول الأمر، حيث كانت تعتبر أن الإيجاب أو القبول يقع من ولي الزوجة (الفصل الخامس) ونصت في الفصل الثاني عشر، في الفقرة الثانية منه، على ما يلي: (لا تباشر المرأة العقد ولكن تفوض لوليها أن يعقد عليها). لكن المدونة غيرت هذه الفقرة بمقتضى التعديل الذي صدر بظهير 22 ربيع الأول 1414 (10 شتنبر 1993) حيث أصبحت هذه الفقرة تقول: 2 تفوض المرأة لوليها أن يعقد عليها). كما أنها أعطت المرأة الرشيدة التي لا أب لها الحق في أن تعقد زواجها بنفسها من غير حاجة إلى ولي يتولى العقد نيابة عنها. وهذا ما نصت عليه الفقرة الرابعة من الفصل 12 بقولها: (4 الرشيدة التي لا أب لها أن تعقد على نفسها أو توكل من تشاء من الأولياء). ويتبين من مجموع هذه النصوص أن المدونة تعتبر الولاية ركنا من أركان الزواج في الحالتين الآتيتين: 1 المرأة غير الرشيدة، سواء كانت بكرا أو ثيبا، كان لها أب أو لم يكن، عاقلة كانت أو مجنونة. 2 المرأة التي لها أب. سواء كانت بكرا أو ثيبا، رشيدة أو محجورة لصغر أو جنون. أما المرأة الرشيدة التي لا أب لها فقد أصبحت مخيرة بين أن تعين من الأولياء من توكله على العقد نيابة عنها، وبين أن تتولى العقد لنفسها بنفسها بدون ولي. وقد اختلف المالكية حول الولاية، هي هي حق للمرأة أو حق للولي. أ قال ابن حبيب: إن الولاية حق للولي، ولهذا لا يجوز للمرأة أن تفوض لشخص آخر غير الولي ليقوم بتزويجها. ب وقال ابن القاسم: إن الولاية حق للمرأة. بحيث وإن كان ليس لها أن توكل من شاءت، بل يجب أن تتبع ترتيب الأولياء حسبما يأتي، إلا أنه لا يجوز لهذا الولي أن يعقد عليها إلا بإذنها، وبتفويض منها له في ذلك (6)، ما عدا الأب. وقد تبنت المدونة قول ابن القاسم، إلا أنها لم تستثن الأب. وإنما نصت في الفقرة الأولى من الفصل الثاني عشر على أن: (الولاية حق للمرأة فلا يعقد عليها الولي إلا بتفويض من المرأة على ذلك) (7) ولابد من الإشارة إلى أن اشتراط الولاية في الزواج يحقق مصلحة المرأة، ويحفظ كرامتها، ويرفع قيمتها، ويحافظ على الروابط الأسرية التي تربط بين المرأة وأقاربها. ذلك أن المرأة لو تركت لتختار زوجها بنفسها، وتتفاوض معه فيما يتعلق بزواجها، فقد تنساق وراء هوى عابر، أو مظهر خادع نظرا لما جبلت عليه من ورقة في العاطفة، ورهافة في الحس فتقبل زوجا ما كانت لتقبله لو نبهت إلى وضعيته، وأرشدت إلى حقيقته. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: >حبك الشيء يعمي ويصم< (7 مكرر). كما أنها قد تتجنب عند مباشرتها لعقد الزواج الخوض في المسائل المادية المفروضة على الزوج لفائدتها. وقد تتحاشى بدافع الحياء وقلة التجربة الدخول في المفاوضات اللازمة في إنشاء هذا العقد، فتضيع في كثير من المصالح التي كانت ستضمن لها لو كان معها من يدافع عنها ممن يهمه أمرها. فلهذا كان من اللازم أن يكون بجانب المرأة أحد أقاربها ليرشدها في اختيار زوجها، ويضع خبرته وتجربته في خدمتها. وليكون عقلها المفكر، ولسانها المعبر، ومحاميها اليقظ. وبذلك يكون التوفيق حليفها في الغالب وتحفظ كرامتها، وتصان مصالحها. وهكذا يتبين أن الولاية تعتبر في الواقع مظهرا من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة. حيث كلف الرجل بأن يضع نفسه في خدمة المرأة التي في ولايته، ليعينها على اختيار الزوج الصالح، وليصونها عن الابتذال والوقوف من زوجها المنتظر موقف المساوم المماكس. بالإضافة إلى أن الزواج في مجتمعاتنا الإسلامية لا يخص المرأة وحدها، ولا تقتصر آثاره على الزوجين فقط، وإنما يؤثر على الأسرة كلها، وعلى أقارب الزوجين معا. لأن الإسلام يأمر بتمتين الروابط التي تجمع بين الأقارب، والمحافظة على المودة وصلة الرحم بين الأهل. فلذلك كان من حق أقارب المرأة أن يبدو رأيهم على لسان وليها في الشخص الذي سيتزوج قريبتهم، ويرتبط بهم برباط المصاهرة، كي يحموا بنتهم من الوقوع في شرك رجل تمكن من خداعها وإغرائها بمظهره، وحتى لا يتسرب إلى عائلتهم فيمتد أذاه إلى المرأة وأقاربها. وبالرجوع إلى الفصول المخصصة للولي يتبين أن دوره يكاد يكون شكليا، لأنها منعته من الإجبار في جميع الحالات، ونصت على أن الولي لا ينوب عن المرأة في الإعراب عن رضاها بالزواج إلا بعد تفويضها له في ذلك بشهادة العدلين، ومنعته من تزويج وليته ولو كانت ابنته إلا بعد أن تبلغ وتصرح أمام العدلين بأنها تفوض له في ذلك. كما أنه لابد من الإعراب عن رضاها نصراحة، وتوقيعها على ملخص رسم الزواج الذي يكتبه أحد العدلين في دفتره. ويتضح من كل هذا أنه ليس في الولاية أي تسلط على المرأة من طرف الرجل، ولا أية استهانة بها أو انتقاص من قدرها. ولهذا كان يتعين الإبقاء على هذا الركن الذي تدل عليه الآيات والأحاديث، وتمسكت به أغلب المذاهب الإسلامية، سار عليه أجدادنا منذ مئات السنين. ولم يكن من المصلحة أن يسمح للرشيدة التي لا أب لها أن تعقد زواجها بنفسها، لأن أغلب الرشيدات عندنا وبالأخص اللواتي لم يسبق لهن أن تزوجن لا تتوفر لهن الخبرة الكافية لاختيار الزوج الصالح. ثم إن المرأة التي تزوج نفسها تفقد في الغالب عطف وليها. ولا تجد من تلتجئ إليه عند الحاجة، كما إذا أساء الزوج معاشرتها، أو طردها هي وأبناءها من بيت الزوجية، أو توفي وتركها دون عائل. المبحث الثاني ترتيب الأولياء الأولياء الذين لهم الحق أن يعقدوا الزواج للمرأة كثيرون، ولكن بعضهم أولى من بعض، وذلك بحسب شدة القرابة وبعدها من المرأة. وترتيب الأولياء هو ما أشارت إليه المدونة في الفصل الحادي عشر بقولها: (الولي في الزواج هو الإبن ثم الأب أو وصيه ثم الأخ فالجد للأب فالأقربون بعد الترتيب ويقدم الشقيق على غيره فالكافل فالقاضي فولاية عامة المسلمين). ونتكلم فيما يلي على هؤلاء الأولياء. 1 الإبن: أي ابن المرأة، وهو أحق الناس بأن يتولى تزويج أمه، وينزل منزلته عند عدمه، أو عند عدم توفر الشروط فيه، ابنه وما سفل منه، وسواء كان الإبن شرعيا، أو من زنا إن كانت أمه ثيبت بحلال (كما إذا تزوجت امرأة ثم زنت فولدت ولدا من الزنا، أو كانت مجنونة أو سفيهة، ولو بتجديد الحجر عليها في وقت يجوز ذلك، فإن الأب أو وصيه يقدمان على الإبن عندئذ. 2 الأب: أي إذا لم يوجد الإبن ولا ما سفل منه، أو لم يكن أهلا للولاية فإن الذي يعقد للمرأة حينئذ هو أبوها. والمقصود به الأب الشرعي، لا الأب بالزنا، فإنه لا يقبل في الولاية. وينزل وصي الأب (أي الذي جعل الأب له أن يزوج ابنته الموصى عليها) منزلة الأب عند عدمه. فيقدم الوصي حينئذ على الأولياء الآخرين. وهذا هو قول مالك، وعليه سارت المدونة كما رأينا ف يالفصل الحادي عشر. 3 الأخ: ويقدم الشقيق. فإن لو يوجد فالأخ للأب، أما الأخ للأم فليس من الأولياء. 4 ابن الأخ الشقيق: ثم ابن الأخ للأب وإن سفل. 5 الجد: وهو أب الأب وما علا منه. وهو المعبر عنه بجد النسب، أي الذي ينسب إليه الحفيد. أما الجد للأم فليس من الأولياء. 6 فإن لم يوجد أحد هؤلاء المذكورين، فإن الولاية تنتقل إلى الأقربين على الترتيب المعروف في التعصيب في الإرث. فيقدم عم المرأة الشقيق، ثم العم للأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب، ثم عم الأب الشقيق، ثم عم الأب للأب، ثم ابن عم الأب الشقيق، ثم ابن عم الأب للأب. فإن وجد عدد من هؤلاء الأولياء في درجة واحدة، كما إذا كان للمرأة معدد إخوة، وليس لها ابن، ولا أب، ووجد في كل واحد من الإخوة شروط الولاية، فيحق للمرأة أن تعين أحدهم، وتفوض له أمر تزويجها، وهو الذي يقوم بالعقد حينئذ، ولا كلام لغيره. أما إذا فوضت الأمر إخوتها، ولم تعيم واحدا منهم، فإن القاضي هو الذي يتولى تعيين أحدهم ليعقد عليها. 7 الكافل: أي إذا لم يوجد أي واحد من الأولياء السابقين، فإن الذي يعقد على المرأة هو الكافل. والمراد به، من قام بأمور المرأة، من نفقة، وتربية، وغير ذلك. وبقيت عنده مدة بحيث أصبح يشفق عليها، ويشعر بالحنان نحوها، ولم يكن لها ولي، فإن هذا الكافل يعتبر وليا في النكاح، ويتولى العقد لها. سواء كان مستحقا لحضانتها شرعا، أو كان أجنبيا عنها. 8 القاضي: بحيث يحق للقاضي أن يزوج المرأة التي ليس لها أحد من الأولياء المذكورين، ولكن بشرط أن لا يكون الزوج هو القاضي نفسه، أو أحد أصوله أو فروعه، فإن كان كذلك، فلا يمكنه أن يزوجها، لما سبق من أن المدونة نصت على أنه ليس للقاضي أن يتولى بنفسه تزويج من له الولاية عليها من نفسه، ولا من أصوله أو فروعه. (الفصل العاشر) ثم إن القاضي لا يمكنه أن يزوج امرأة إلا بعد أن يثبت أنها تتوفر على شروط الزواج، وأنها خالية من موانعه، وأنه لا ولي لها، أو أن وليها عضلها (أي منعها من الزواة)، أو غاب عنها غيبة بعيدة، وأن الزوج كفؤ لها، وأنها رضيت به، وأن الصداق الذي بذله لها لا يقل عن مهر أمثالها. إلا إذا كانت رشيدة ورضيت بأقل من ذلك. فإن زوجها القاضي من غير إثبات هذه الموجبات فإن الزواج لا يفسخ إلا إذا ثبت ما يوجب فسخه. 9 عامة المسلمين: أي أي فرد من المسلمين تختاره المرأة، وذلك لقوله تعالى: (والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض) وهذه الولاية من فروض الكفاية، بحيث يجب على المسلمين أن يتولوا تزويج المرأة التي لا ولي لها. ومتى قام به شخص سقط عن الباقين. ويجب أن يراعى هذا الترتيب المذكور في الأولياء. بحيث لا يتولى الأخ العقد لأخته إلا إذا لم يكن لها ابن ولا أب، ولا يعقد لها عمها إلا إذا لم يكن لها أخ وهكذا. فإن خولف هذا الترتيب، بحيث عقد الولي الأبعد زواج المرأة مع وجود من هو أقرب منه، كما إذا تولى العم تزويج ابنة أخيه مع وجود أخيها، فإن هذا الزواج صحيح رغم ترتب الإثم، لأن هذا الترتيب وإن كان واجبا ، إلا أنه ليس شرطا في صحة النكاح. ويستثني المالكية حالة واحدة من هذا الحكم، وهي ما إذا كان للمرأة ولي مجبر. وهو الأب بالنسبة لابنته البكر وإن كانت بالغة، وبالنسبة للصغيرة وإن كانت ثيبا. فإن زوجها غير أبيها كأخيها مع حضور الأب، ُإن هذا الزواج لا يصح، ويفسخ باتفاق المالكية. إلا إذا زوج البكر أخوها بغير إذن أبيها، وكان هذا الأخ هو الذي يقوم بأمور أبيه، فإن ثبت أنه مفوض من طرف الأب، فإن هذا الزواج يعتبر صحيحا، إلا أنه يتوقف على إجازة الأب. ونظرا إلى المدونة نصت على أنه ليس لأي ولي أن يجبر وليته على النكاح ولو كان أباها كما سيأتي. فإن الحكم الذي يطبق في ظلها، هو أن تزويج الولي البعيد مع وجود القريب لايفسخ به الزواج، ولو كانت البنت صغيرة أو بكرا ولها أب. وإن كان يصعب جدا في الوقت الحاضر أن يزوج الولي البعيد مع وجود من هو أقرب منه نظرا لما تفرضه المدونة من وجوب النص في الوثيقة الإدارية على اسم الولي الذي يحث له أن يعقد للمرأة. وكما يجوز للولي أن يتولى عقد الزواج لوليته إذا كان الزوج شخصا آخر غير الولي، فإنه يجوز أيضا أن يتولى الولي عقد الزواج للمرأة إذا كان هو نفسه الذي سيتزوجها، بحيث يكون وليا وزوجا، فيتولى الإيجاب بصفته وليا، والقبول بصفته زوجا، إلا إذا كان الولي قاضيا، فقد سبق لنا أن المدونة نصت في الفقرة الثانية من الفصل العاشر على أنه لا يتولى بنفسه تزويج من له الولاية عليه من نفسه ولا من أصوله ولا من فروعه. المبحث الثالث شروط الولي نصت المدونة في آخر الفصل الحادي عشر على شروط الولي بقولها: (... بشرط أن يكون ذكرا عاقلا بالغا) ويزيد الفقهاء شروطا أخرى. قال في التوضيح: للولي ثمانية شروط، ستة متفق عليها، وهي: البلوغ، والعقل، والذكورة، والحرية، والإسلام، وأن يكون حلالا. واثنان مختلف فيهما، وهما: العدلة، والرشد. ونتكلم على شروط الولي بشيء من التفصيل. 1 البلوغ: وقد عرفنا علامات البلوغ فيما سبق، فإذا تولى الصبي عقد الزواج لامرأة، كما إذا زوج الإبن غير البالغ أمه، فإن هذا الزواج يفسخ بطلقة سبائنة، ولو وقع الدخول. 2 العقل: والمقصود به أن يكون ممن يفهم الكلام، ويحسن الجواب. فإن كان الولي معتوها، أي ضعيف العقل، أو مجنونا، أي فاقده. فإنه لا يصح أن يعقد على وليته. وتنتقل الولاية إلى من هو أدنى منه. 3 أن يكون ذكرا: لأن المرأة كما لا يصح أن تعقد لنفسها لا يجوز لها أن تعقد الزواج لغيرها. وقد وردت في ذلك عدة أحاديث. منها ما رواه أبو هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها). وقد سبق أن وصي الأب ينزل منزلة الأب، ويقدم على غيره من الأولياء، فيعقد على من كانت تحت وصايته، وإن كان لها أخ شقيق مثلا. لكن إن كان هذا الوصي امرأة، وكان الموصي عليها أنثى، فلا يجوز للوصية أن تتولى عقد الزواج بنفسها. بل يجب عليها أن توكل رجلا تتوفر فيه شروط الولي، لتولى العقد للبنت نيابة عن المرأة الوصي، وفي ذلك تقول المدونة في الفقرة الثالثة من الفصل الثاني عشر: (توكل المرأة الوصي ذكرا تعتمده لمباشرة العقد على من هي تحت وصايتها). فإن عقدت المرأة الوصي زواج البنت التي تحت وصايتها، فإن هذا الزواج يفسخ قبل الدخول، وبعده، ولو لم يطلع عليه القاضي إلا بعد أن ولدت أولادا. سواء أجازه الأولياء أو كان بإذنهم، أو لم يجيزوه. ويعتبر هذا الفسخ طلاقا. وتستحق المرأة الصداق الذي وقع الاتفاق عليه. وإذا مات أحد الزوجين قبل الفسخ لم يرثه الآخر. ونشير إلى أن الفقهاء يرون أن المرأة إذا كانت وصيا على صبي ذكر, فإنه يجوز لها أن تتولى بنفسها عقد الزواج له، لأنها بمنزلة الوكيل لهذا الصبي، وقد سبق لنا أن للرجل أن يوكل من شاء ليعقد زواجه. إلا أن ذلك الحكم لا يمكن العمل به في ظل المدونة، لأنها تمنع تزويج الصبي قبل البلوغ. 4 الحرية: بمعنى أن يكون الولي غير رقيق. ولم تشترطه المدونة، نظرا إلى أن نظام الرق لم يبق به عمل. 5 الإسلام: وهذا الشرط يجب توفره عندما تكون الزوجة مسلمة. أما إذا كانت كتابية (وقد سبق لنا أنه يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية فيجوز أن يعقد لها الزواج أبوها أو غيره من الأولياء، ولو كان كتابيا أيضا. واشتراط الإسلام في ولي المرأة يستفاد من قوله تعالى: (والمومنات بعضهم أولياء بعض) إذ يفهم منه أن الكافر ليس وليا للمؤمن ولا للمؤمنة. ولو فرضنا أن كتابيا أسلم، وبقيت ابنته البالغة على دينها، وأرادت أن تتزوج مسلما، فإن أباها لا يتولى عقد زواجها، لأنه بإسلامه لم يبق وليا لها مادامت كافرة. قال تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض). 6 أن يكون حلالا: أ ي غير مُحْرم بحج أو عمرة. فإن كان الولي محرما بحج أو عمرة، فلا يجوز له أن يتولى عقد الزواج لوليته، إلا أن يتم إحلاله بالرمي، والطواف، والسعي، في الحج والعمرة. كما أنه لا يجوز له أن يوكل من يعقد النكاح نيابة عنه. فإن تولى الولي العقد وهو محرم، أو وكل كمن يعقد نيابة عنه، فإن الزواج لا يصح ويفسخ قبل الدخول وبعده. 7و8 العدالة والرشد: وقد اختلف في اشتراطهما في الولي. والراجح أنهما ليسا من شروط الصحة، وإنما يعتبران شرطي كمال، أي أنه ينبغي أن يكون الولي عدلا غير فاسق. ورشيدا غير سفيه. وينبني على هذا أنه إذا كان للمرأة وليان أو أكثر في درجة واحدة، كأن يكون لها ثلاثة إخوة، أحدهم فاسق، والآخر سفيه، والثالث عدل رشيد. فإن الأولى بالعقد عليها هو الثالث، لكن إن عقد لها أحد الأخوين الآخرين، فإن الزواج يصح، بالرغم من أن شرط الكمال قد تخلف. المبحث الرابع الإجبار والعضل نخصص هذا المبحث للكلام على الإجبار، والعضل، لأنهما مظهران لتسلط الولي على المرأة التي تحت ولايته. أولا: الإجبار: يقصد بالإجبار أن يزوج الولي البنت التي تحت ولايته بغير إذنها. ولا يقصد به أن يزوجها رغما عنها أو بدون رضاها. وقد سبق لنا أن الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز للأب أن يزوج ابنته التي لم تبلغ. ولاشك في أن البنت الصغيرة لا يمكن استئذانها، لأنها لا تعرف ما هو الإذن. أما البنت البالغ: أ فإن كانت بكرا، فإن الإمام الليث، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، يرون أنه يجوز للأب أن يزوجها بغير رضاها. ويرى الأوزاعي، والثوري، والحنفية، أن البكر البالغة، لا يصح تزويجها إلا برضاها. ب وإن كانت غير بكر، فلا يجوز تزويجها إلا بإذنها عند هؤلاء الفقهاء جميعا. وتفصيل مذهب مالك في الإجبار هو الآتي: 1 إذا كانت البنت ثيبا بالغة، سواء ثيبت (أي فقدت بكارتها) بزواج صحيح أو فاسد فلا جبر عليها لأحد، ولابد من الإعراب عن رضاها بالزواج، بالتعبير بما يفيد هذا الرضى، سواء زوجها أبوها أو غيره من الأولياء. 2 إن كانت يتيمة ولها ولي، فلا يزوجها وليها إلا بعد أن تبلغ، وبعد أن يثبت أنها يتيمة، لا أب لها ولا وصي، أو أن أباها مفقود أو أسير، أو في مكان بعيد جدا، وأنها خالية من الزوج، وليست معتدة، ولا مريضة مرضا مخوفا، وليست محرمة بحج أو عمرة، وأن الزوج كفؤ لها، وأنها ليست محرمة عليه، وأنها رضيت به صراحة، وأن الصداق الذي عرض عليها صداق أمثالها على الأقل، وأنها رضيت بهذا الصداق. 3 إذا كان لها أب. فإن له أن يجبرها على الزواج في الصور التالية: 1 إذا كانت صغيرة لم تبلغ، سواء كانت بكرا أو ثيبا. 2 إذا كانت بكرا، ولو كانت كبيرة تعدت البلوغ. ما لم تكن قد رشدها أبوها، أو تزوجت وبقيت مع زوجها سنة، ثم انفصلت عنه بموت، أو طلاق، وهي ما تزال بكرا. 3 إذا كانت البنت قد فقدت بكارتها من غير زواج. 4 إذا كانت مجنونة. بكرا كانت أو ثيبا، وسواء ثيبت بنكاح، أو بزنا. ففي هذه الحالات، يجوز للأب أن يعقد زواج بناته المذكورات بغير إذنهن، ولا يحتاج إلى رضاهن. لكن بشرط أن لا يكون الزوج الذي يختاره لهن متصفا بعاهة، كبرص أو جنون، وإلا فلا يحق له أن يجبرهن حينئد. وإذا أصر على تزويج بنته ممن ذكر، وامتنعت، كان لها الحق في أن ترفع الأمر إلى القاضي ليمنعه من ذلك، لما فيه من الضرر عليها. وإذا جعل الأب شخصا وصيا على بناته، وجعل له أن يجبرهن على الزواج، فإن ذلك الوصي ينزل منزلة الأب، ويكون له الإجبار حينئذ في الحالات المذكورة. وهكذا يتبين أن الإجبار يعني أنه يجوز للأب أن يزوج بنته من غير أن يستأذنها، وهذا لا يقتضي أنه يجوز للأب أن يرغم ابنته على الزواج بمن لا تقبله أو لا يصلح لها. وبالرغم من أن الأب يجوز له أن يجبر البنات المذكورات على الزواج، فإن المالكية يرون أنه يستحب له أن يستأذن بنته البكر البالغ، بحيث يشاورها بواسطة من لا تستحيي منه. وذلك لما ورد في الحديث الذي سبق ذكره: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن، وإذنها صماتها). والمراد بالبكر في هذا الحديث، البالغة. لأن الصغيرة لا معنى لاستئذانها، لأنها لا تدري ما هو الإذن. ويعتبر صمت البكر عند الإذن بمثابة القبول، ودليلا على الرضى. لأنها لو لم ترض لعبرت عن ذلك بما يفيد الرفض. نعم يستحب أن تعلم بأن سكوتها إذن وقبول، بأن يقال لها ثلاث مرات: إن رضيت فاسكتي، وإن كرهت فانطقي. أما موقف المدونة من الإجبار فيتلخص في أنها منعت تزويج البنت قبل البلوغ مطلقا، وذلك بالنص على اشتراط البلوغ في كل من الزوجين (الفصل السادس)، كما أنها سلبت الولي ولو كان أبا حق الإجبار، حيث نصت في الفصل الخامس على ما يأتي: (... ولا يملك الولي الإجبار في جميع الحالات...) مما يعني أنه أصبح لا يجوز للولي ولو كان أبا أن يجبر وليته على الزواج كيفما كانت حالة هذه الولية، أي سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وسواء كانت رشيدة أو محجورة، عاقلة أو مجنونة. كما أن النص الذي كان يعطي القاضي الحق في أن يجبر المرأة الرشيدة على الزواج إذا خيف عليها نالفساد قد حذف بعد التعديل الذي أدخل على الفصل 12. ويلاحظ أن النص على أن الولي لا يملك الإجبار في جميع الحالات يتعارض مع ما نص عليه الفصل السابع من إمكانية تزويج المجنون والمعتوه، لأنه لا يمكن لهذا المجنون أو المعتوه أن يعقد الزواج لنفسه بنفسه، ولا أن يصدر منه الرضى، وإنما يزوجه وليه، دون توقف على إذنه، وهذا هو مما يعبر عنه الفقهاء بالإجبار. مما يعني أنه أصبح لا يجوز للولي ولو كان أبا أن يجبر وليته على الزواج في جميع الحالات. كما أن المدونة لم تعد تعطي للقاضي ولا الولي الحق في أن يجبر المرأة على الزواج إذا خيف عليها الفساد إذا لم تتزوج. ثانيا: العضل أشارت المدونة إلى حكم العضل في الفصل الثالث عشر بقولها: (إذا عضل الولي المرأة أمره القاضي بتزويجها فإن امتنع زوجها القاضي بصداق أمثالها لرجل كفء. والعضل هو أن يمتنع الولي من تزويج وليته ممن هو كفء لها. وقد سبق لنا أن المرأة لا تتولى عقد الزواج بنفسها، وأن وليها هو الذي يتولاه نيابة عنها. فإذا امتنع هذا الولي من تزويجها فقد تتضرر من ذلك، لأنه سيقف حجر عثرة في طريق زواجها. ولهذا حرم الإسلام على الولي أن يعضل وليته. ونهاه عن أن يستغل ولايته على المرأة فيمتنع من تزويجها. وفي ذلك يقول تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) وقد روى البخاري وغيره، عن معقل بن يسار قال: (كانت لي أخت تخطب إلي، فأتاني ابن عم لي، فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقا فيه رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها، فقلت: لا، والله، لا أنكحها أبدا. قال: ففي نزلت هذه الآية: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن. الآية. قال: فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه). وقد بينت المدونة أن الولي إذا امتنع من تزويج المرأة التي تحت ولايته، ورفع الأمر إلى القاضي، فإنه يأمره بأن يزوجها، فإن فعل فذاك. وإن استمر على امتناعه، فإن القاضي يتولى تزويجها، بعد أن يثبت أن الزوج كفء لها، وأن الصداق الذي بذل لها صداق أمثالها. المرجع: أحكام الأسرة للدكتور محمد ابن معزوز الفصل الرابع من الجزء الأول الصفحات 88 100