لم تكن مهنة العون القضائي من نسج الحاضر كما قد يظن البعض، والقول بأنها حديثة فيه نظر، فالمهنة كانت قديمة، وكل ما في الأمر أن العون غيب عن دوره القديم في فترة من الفترات لتحل محله في تبليغ الاستدعاءات الطرق الأخرى في التبليغ كطريق البريد الضارب في القدم أو الطريق الإداري (الشيوخ والمقدمين)، وقد نص العلامة ابن عاصم الأندلسي إلى التبليغ بطريق البريد في قوله: ومن على يسير الأميال يحل فالكتب كاف فيه مع أمن السبل وبالجملة فإن التفاوت الجهوي والجغرافي السافر بين جهة وأخرى ثم حداثة قانون الجهة الذي هو الأس والأساس لأي تنمية محلية وجهوية شاملة ومندمجة ومتكاملة أثر بشكل واضح وعميق في واقع مهنة الأعوان القضائيين بالمغرب، مما جعل الأنظار تتجه بعين الرضى لفئة الأعوان القضائيين العاملين بالمدن الكبرى والجهات المتطورة بينما الاستياء واضحا لكل من سيتعرف على واقع الأعوان القضائيين بالمدن الصغرى والجهات المهمشة التي تعيش فقرا مذقعا وارتفعا في البطالة والأمية ونقص الثروات وبالتالي القدرة الشرائية التي تؤثر سلبا على دخل العون القضائي مادام يعمل داخل مهنة حرة. ونخلص في آخر المطاف إلى أن قانون الأعوان القضائيين عند تشريعه لم يراع الاختلالات الجهوية العميقة، فإذا كان من القواعد عدم اطراد القواعد، والاستثناء وارد، فإنه كذلك من القواعد أن لا تعمم حالات جميع الأعوان القضائيين بالمغرب على كل الجهات إبان عملية التشريع، فكم التبليغات والتنفيذات في المدن الكبرى مرتفع، والعون القضائي أمام الشغل المركز والعمل الحاشد يمكنه أن يغطي جوانب النقص في التشريع المتعلق بالمهنة، رغم أن الثغرات القانونية كبيرة والمشرع الآن بصدد تداركها. وكمثال بسيط على ما قلناه: بمدينة صفرو مثلا يمكن للعون أن يبلغ عشر تبليغات أو أقل أو أكثر في الشهر. وهذه الإحصائيات تصل إلى الوزارة، وهذه التبليغات وأمام الرسم الهزيل والمخجل الذي يتقاضاه العون منها، يمكن أن يصل مجموعها مبلغا لا يتجاوز500.00 درهم في أحسن أحواله، والذي قد لا يتقاضاه العون مسبقا للأسف الشديد من الأطراف بل بعد القيام بالعمل، والترنم بأنشودة الصبر والأمل، مما يدفع بالعون إلى استدرار الأموال عن طريق السمسرة في الملفات وسلوك سبل مقيتة مخلة بالقانون والعدالة والأخلاق. أضف إلى هذا وذاك التباطؤ وعدم الإسراع في القيام بالواجب إلا لمن أدى للعون مسبقا ولم يوسع في العطاء. وهكذا يكون العون وخاصة في المدن الصغرى يعمل في الكثير من المرات مجانا ينتقل بين الجبال والبلاقع عشرات الأميال وقد اصفر وجهه، وقتل أمله، وعاد يحمل السراب، ويعانق الفراغ. فالأولى لنا أن نحفظ ماء وجه العون وكرامته بسن أجر عادل ومنصف يراعي الفوارق ين الجهات ويتطابق مع الميثاق الدولي بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي نشر بموجب الظهير الشريف رقم: 1 .79 .186 بتاريخ 17 ذي الحجة 1399 (8 نونبر 1979) والذي جاء فيه (تقر الدول الأعضاء في الاتفاقية الحالية بحق كل فرد في مستوى معيشي مناسب لنفسه ولعائلته، بما في ذلك الغذاء المناسب والملبس والمسكن، وكذلك في تحسين أحواله المعيشية بصفة مستمرة، وتقوم الدول الأطراف باتخاذ الخطوات المناسبة لضمان تحقيق هذا الحق). وتجدر الإشارة إلى أن تنفيذ الملفات بالمدن الصغرى ضئيل لمكان عوز المنفذ عليهم، وسنوات الجفاف المؤثرة، وسلوكهم سبل الأداء الجزئي، أو أداء ما بالذمة بأشهر متأخرة بعدما يعتقلون أو يهددون بالاكراه البدني، والعون. ق. كثيرا ما يضيع في مثل هذه الحالات في أجرته أو عند تحريره لمحاضر بعدم وجود ما يحجز أو محاضر تحري، فيفقد أجره من الرسم النسبي المتعلق بالمبالغ المستوفاة بالفعل من المنفذ عليه، لأنه ليس لهذا الأخير ما يعطيه، وليس للعون بعدئذ ما ياخذه. وهنا تبرز الثغرات القانونية بشكل واضح أثناء التجربة وتكشف بأن مبدأ الاختيارية بشقيه أي: اختيار الأطراف لأي عون قضائي وقع عليه نظرهم لإنجاز الأعمال، أو اختيار العون. ق. كطريقة من الطرق الأخرى في التبليغ، والتي زكاها الفصل 22 من ظهير 25 دجنبر ,1980 وأشار إليها في 37 من ق. م. م، يصبح عديم الفائدة والجدوى بالمدن الصغرى والضعيفة خاصة، بل مكرس لواقع والحيف، حيث يستأثر الموزع والشيوخ والمقدمون بنصيب وافر من التبليغات لأن الأطراف يحبذون المجانية على الأداء للعون. ق. ولأن ظروفهم الاقتصادية القاهرة تفرض عليهم هذا السلوك. كما أن التعيين العشوائي الذي ساد في البداية فئات الأعوان. ق عبر مجموع مدن المملكة لم يراع الاختلالات الجهوية والفوارق الجغرافية، ففي مدينة صفرو مثلا يوجد نحو ثمانية أعوان قضائيين وهو عدد مرتفع جدا لضعف الإقليم اقتصاديا وبالمقابل توجد أعداد قليلة بمدن كبيرة وتحتاج إلى أعوان قضائيين إضافيين، ولعل الحل في فتح باب الانتقال في إطار التوازن المصلحي يمكن أن يخفف لا محالة حاليا من ضنك عيش كثير من الأعوان. وإلى جانب ما ذكرت يجب أن لا يغرب عن البال أن أول ما يسأل عنه العون يوم لقاء الناس هو: ما أصلك؟ من أي بلد أو جهة أنت؟ فإذا كان ابن زمرتهم ومن طينة بلدهم سكنت له النفوس ومالت إليه العواطف، فتهافت الأطراف إليه وفاض العمل لديه، أما إذا بان مولده عنهم ونأى منأى بعيدا فترت العواطف اتجاهه، وتباطأت الخطى إزاءه، فقل شغله وعز ماله، وإذا كان حب الأوطان من الإيمان لحكمة أعمار كل الكرة الأرضية دون استثناء جهة على أخرى وهو ما أشار إليه إمامنا الجليل أبي مسعود الحسن اليوسي في محاضرته، فإنه لمن العار والمؤسف أن نمسح أفكارنا وانطباعاتنا وأحاسيسنا في منديل الانتماء الجغرافي والتعصب القبلي. والأعوان. ق. بالمدن الصغرى كثير منهم لا يستطيعون أداء مستحقات كراء مكاتبهم وبعضهم لا يستطيع فتحه أصلا وعدم القدرة أيضا على تأمين مسؤولياتهم وخاصة إذا كان العون يتقاضى 1000 درهم في الشهر ومتزوج وله أطفال، وهذا الوضع المزري مدعاة إلى التأمل لأن بعض الفقه يطالب بتأمين العون على مسؤوليته تحت طائلة سحب الرخصة نهائيا منه وهذه دعوة في فراغ دون تمحيص وفهم عميق لواقع العون الذي لا يجد أحيانا حتى ما يأكل في جهات كثيرة من المملكة. وأمام هذه الأوضاع المتردية جدا لواقع حال كثير من الأعوان القضائيين انبرى مجموعة منهم إلى طلب إدماجهم في سلك الوظيفة العمومية أملا في إصلاح أوضاعهم سيرا وراء الحكمة العامية (اللهم العماش ولا بلاش). ثم إن العون القضائي بالمدن الصغرى يتنقل غالبا على رجليه لعدة كيلومترات دون أية وسيلة للتنقل لأنه لا يستطيع اقتناء حتى دراجة نارية تخفف عنه عناء العمل فتنخر قواه وتدمى قدماه ويقل عطاؤه ويؤجل الإجراءات، كما أن بعضهم متزوجون ويفارقون زوجاتهم بمدن بعيدة عن مكان عملهم لأكثر من ثلاث سنوات، وهذا ظرف صعب وخطير للغاية يهدد شمل الأسرة بأسرها، ويتطلب فتح باب الانتقال بنص مستعجل لا تأخير فيه. والعون القضائي بالمدن الصغرى وأمام واقعه المتردي واعتماد المهنة أساسا على جهده البدني معرض للبطالة والموت البطيء إذا كبر في السن وهرم، ولا تقاعد يلمه أو ضمان يؤازره، فلعمري كيف يطلق العون. ق. من أسرة القضاء الطلاق الثلاث وقد سال دمه ودمعه في خدمة العدالة والمجتمع. محمد اللبار عون قضائي لدى المحكمة الابتدائية بصفرو