في يوم 22 يوليوز من سنة 1972 قال إدريس البصري في مناقشة أطروحته لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون بعنوان «رجل السلطة»، إن المقدم «يتحرك من جهة وفق تتبع حركات الرأي العام المترتبة عن نشاطه وعمله، أو عن سكونه وخموله»، ومن هنا يكون أقوى وزير داخلية في تاريخ المغرب المعاصر والحديث قد قدم لنا مفتاح فهم آليات اشتغال مؤسسة «المقدم» الذي لا يكتفي بالتبليغ عن تحركات المواطنين، بل أيضا بتتبع ورصد حتى سكونهم وحالات خمولهم. المقدم في بنية السلطة في المغرب هو صلة الوصل الأقرب إلى الحلقات الصغرى من المجتمع، تلك التي تتميز بطابع الحميمية كالأسرة وعلاقات الجوار السكني والأسرار والتفاصيل الدقيقة التي تتفاعل في عوالم خفية وبعيدة عن عيون باقي مؤسسات وأجهزة الاستخبار المغربي بمفهومها الإداري، فالمقدم يقدر بقربه الاستخباري أن ينفذ إلى المعلومة في أصغر تجليات تحركاتها من البيت إلى الدكان والحمام الشعبي والسوق الأسبوعي وحتى داخل غرف نوم الأزواج وخبايا الصراعات العائلية. الإخبار دور أساسي في وظيفة المقدم وفي كتاب له بعنوان «الإدارة الترابية، التجربة المغربية» الصادر بباريس سنة 1990 يضع إدريس البصري، وزير الداخلية الأكثر جدلا وقوة في عهد نظام الحسن الثاني، معالم وخارطة طريق واضحة لاختصاصات أعوان وزارته من الشيوخ والمقدمين، حيث يقول: «يمثل الشيوخ والمقدمون إحدى ركائز السلطة المحلية، وفي غياب قانون خاص بهذه الفئة، فإن أعوان السلطة في المجال الحضري، ليس لهم اختصاص محدد. إلا أن دور الإخبار ونقل المعلومات من طرفهم يعتبر أساسيا، وبالمجال القروي فإن أعوان السلطة لهم دراية كافية بمشاكل وانشغالات التجمعات السكانية والقبائل، وتسمح لهم وضعيتهم بإعطاء نصائح لممثلي السلطة المركزية حول كل مبادرة أو مسألة تهم الشأن العام أو المصالح الخاصة للمواطنين، وبالرغم من دورهم الرئيسي في الحياة الإدارية، فإنهم غير مشمولين بقانون خاص عكس ما عليه الحال مقارنة مع رجال السلطة، اللهم بعض التدابير المتفرقة، والتي لا أثر لها على استقرار وظيفتهم. ويتولى العامل توظيف الشيوخ والمقدمين بالوسط القروي، كما يتولى الإشراف عليهم، ولا يعتبرون موظفين، وبالتالي لا يتقاضون سوى تعويضات شهرية». أما بخصوص أعداد المقدمين فيشير إدريس البصري إلى أنه في سنة 1971 بلغ عددهم بالوسط القروي 10.617 فردا، وفي عام 1986 وصل عددهم إلى 13.222، كانوا موزعين على 760 جماعة قروية أي بمعدل 17 عونا لكل جماعة وعون سلطة لكل 1400 نسمة، أما بالوسط الحضري، فكان عدد الشيوخ والمقدمين يصل إلى 1016 فردا في عام 1971، ليصل في سنة 1986 إلى 1790 عون سلطة موزعين على 59 بلدية و40 مركزا مستقلا، أي ما يمثل 20 عونا لكل مركز حضري. المقدم في بنية النسق السلطوي في المغرب ارتبط ارتباطا عضويا بمؤسسة وشخصية القائد، الممثل الفعلي والوحيد لسلطة المخزن المركزي قبل الحماية الفرنسية وبعدها، على أن إحدى أكبر وأهم مهامه لم تكن تخرج عن جمع الضرائب واستتباب الأمن مع مهام موازية تتمثل في اختراق المجتمع وفرض سلطة الدولة وهيبتها سواء بالرضا أو بالعنف والاضطهاد، وكان المقدم والشيخ إحدى وسائل تنفيذ عقلية السلطة المركزية بالمغرب، ولم يكن مطلوبا من المقدم أن يكون متمتعا بمواصفات علمية أو فقهية أو حتى بحد أدنى من الذكاء، بقدر ما كانت عفويته مطلوبة، لأنها مفتاح شرط الطاعة والامتثال الأعمى، في نظام سياسي واجتماعي وصفه الباحث الكولونيالي الفرنسي روبير مونطاني، بأن القياد والمقدمين والشيوخ كانوا يتحركون في نظام سياسي محلي «ليس سوى مسودة فظة مما كان عليه الإقطاع الأوربي» المقدم «يمنح الحياة ويلغيها» من غير المقدم، على كل مغربي أن يعتبر نفسه ميتا حتى إشعار آخر، فصلاحيات المقدم الحديثة لم تعد تقتصر على إجبار السكان على دفع الضرائب والامتثال لسلطة المخزن، فقد تعدى ذلك في النظام السياسي المغربي لما بعد الاستقلال إلى التمتع بمهام إدارية تفوق بكثير مستوى تكوينهم العلمي والدراسي، ومن ذلك أن المقدم هو الوحيد الذي يعطي لكل مواطن مغربي حي، شهادة حياته، وفي ذلك رمزية أبعاد التغلغل الذي أرادت وزارة الداخلية أن تجعل منه أدوات القرب والحسم في علاقة المقدم بالمجتمع السفلي وضبط أدنى تفاصيله وتحركاته، ولو بمنح المقدمين اختصاصات إدارية تفوق تكوينهم ومعارفهم العلمية والثقافية وتجعلهم في كثير من الأحيان في موقف ساخر وهزلي. أحد الصحفيين بيومية مغربية، كان قد تقدم إلى مقدم الحي الذي يقطن به بطلب الحصول على شهادة السكنى قصد تجديد بطاقة تعريفه الوطنية، المقدم حرر له الشهادة بناء على شهادة العمل المسلمة له من قبل إدارة الجريدة والتي جاء فيها «أن فلانا يعمل بالجريدة كصحفي»، فما كان من المقدم إلا أن وضع له في خانة المهنة مهنة «كصحفي»، وأصر على ذلك لأنها هي المهنة الأصلية المكتوبة في شهادة عمله، وأنه غير مطالب بتغييرها تحت أي طائل أو سبب كان . و قبل سنوات قليلة كان المقدمون بالمغرب يكلفون بإيصال البريد إلى الناس، بالرغم من كون هذه المهمة مازالت سارية المفعول بالوسط القروي وبالجبال والمناطق الوعرة، وفي المدينة كانوا يتكلفون بتجنيد الشباب في الخدمة العسكرية واقتراح أسماء بعينها، وبإيصال إعانات غذائية واقتراح لائحة المعوزين والمتسولين، ويربطون علاقات خاصة بالمشعوذين ودور الدعارة والقوادة وتجار المخدرات والباعة المتجولين وأصحاب الدكاكين والمهن البسيطة والمشرفين على الحمامات الشعبية وحراس السيارات والعمارات السكنية، في علاقة تبتدئ بالطاعة والتعاون وإيصال المعلومة المطلوبة مقابل تسهيل وتسريع جميع الخدمات الإدارية التي يحتاجها هؤلاء والتغاضي عن أنشطتهم المريبة. المقدم أداة تغلغل السلطة في المجتمع وتثبيتها والحرص على استمرارها ، فيما التبليغ يبقى إحدى أهم مهامه التي تقتصر على إيصال المعلومة في طبيعتها الخام مهما كانت مهمة أو سخيفة، وفي الاتجاه المعاكس تبليغ التعليمات والتوجيهات من فوق لأسفل في حالات معروفة تتصل بحشد الناس خلال الزيارات الملكية أو حثهم على التسجيل في اللوائح الانتخابية، وحتى إجبارهم على صباغة واجهات منازلهم وتعليق ونصب الأعلام الوطنية وجمع تبرعات الأعياد من عند التجار والحرفيين والإتاوات من عند المخالفين للقانون. يرصد طريق عيش الناس المقدم وبتوجيه من رئيسه المباشر، القائد، يتدخل في تفاصيل صغيرة جدا تصل إلى الوساطة السرية في اقتراح خادمات البيوت على منازل شخصيات مهمة، من سياسيين وصحفيين ونقابيين ومنتخبين وحتى لدى بعض الأجانب، فيما يكتفي المقدم بنسج علاقة استعلام مع الخادمة التي تظل العين اللاقطة لكل أسرار البيت ونقل المعلومات الخام إليه قبل أن تكتب في تقرير وترفع إلى قسم الشؤون العامة بالعمالة الذي يعتبر جهازا استخباريا مدنيا لوزارة الداخلية يهتم بالحياة الخاصة والعامة لكل المواطنين. المقدم يرصد أيضا ويهتم كذلك بطريقة عيش الناس وبمستوى مصاريفهم المنزلية وبقروضهم عند البقال والخضار، وبعلاقاتهم العائلية وشجاراتهم ومنازعاتهم الأسرية، له كذلك شبكة متعاونين من النساء يطلق عليهن اسم «العريفات» ممن يقتحمن فضاءات ومجالات اجتماعية محظور على المقدم الولوج إليها كالحمامات وبيوت العزاء النسائية والحفلات النسائية الشعبية، حيث تتحرك المعلومات والأسرار في نطاق ضيق تتكفل «العريفة» بضبطه قبل نقله خاما إلى المقدم الذي يبلغه شفويا أو كتابيا إلى القائد، ومنه إلى قسم الشؤون العامة بالعمالة فإلى وزارة الداخلية في ملفات وتقارير سرية يتم تحيينها بحسب كل مستجد أو بحسب الحاجة الاستخبارية. نظام السلطة بالمغرب أوجد المقدم ورسخ وجوده كي يبقى على صلة وصل قريبة جدا مع المجتمع، فالسلطة التي تحكم وتضبط من مسافة ليست هي السلطة التي تحكم وتضبط الأمن والاستقرار من الداخل وبقرب يجعلها تتحكم حتى في المجتمع نفسه لا العكس، والسلطة في حاجة يومية إلى المعلومة وإلى المستجدات حتى تساير تطور المجتمع عبر أفراده، وتسيطر وتتحكم في نواياهم وتوجه في اتجاه خلق المتوقع الذي تكون نتائجه معروفة ومدروسة سلفا، وأن كل الأحداث المفاجئة والمباغتة التي لم يسبق التوقع بها أو وصول معلومات عنها، هي بالضرورة خطر وفشل في مهام استخبار القرب والخام الذي يقوم به المقدم وزعزعة لحالة السيطرة والتحكم في سيرورة الدولة والمجتمع. اليوم أصبح المقدم في عيون الكثير من الناس أضحوكة عصر العولمة والإنترنيت، وفقد وفق ذلك كثيرا من «الزبائن» الذين كانوا يشكلون قاعدة سكانية يتحكم في مصائرها، وبفعل تطور المجتمع وبروز أجيال متعلمة تتقن التواصل بنظام معلوماتي متطور، صار المقدم ك«الأطرش في الزفة»، بتعبير الأشقاء في مصر، بل فقد سيميائيا حتى تلك الهيبة التي كان يصبغها على صورته في جولاته الميدانية في الأحياء السكنية، وأصبح في نظر الأجيال الجديدة جاسوسا بقبعة الغباء لا يثير اهتمامهم وتحفظهم من مكانته وسلطته التي كانت في ما مضى تصل حد اعتقال الناس الذين كانوا يذبحون أضحية العيد دقائق فقط قبل أمير المؤمنين!