تصلح حياة وشخصية ادريس البصري، وزير الداخلية المغربي الأسبق، الذي توفي في منفاه الاضطراري بالعاصمة الفرنسية، فجر السابع والعشرين من الشهر الماضي، لتكون مادة ثرية لعمل فني كبير، لما تحويه من أحداث مثيرة، شغلت المغاربة بكافة فئاتهم ومراتبهم. "" وظلت شخصية البصري مثار جدل كبير امتدت منذ ولوجه مجالات العمل العام في بداية السبعينات إلى أن ووري الثرى في مقبرة الشهداء بالرباط ، في جنازة شبه عادية، خلت من كل المظاهر الرسمية التي يودع بها عادة رجال الدولة المغربية، الذين ظلوا على وئام معهم إلى آخر نفس في حياتهم، أو حتى لحقهم إهمال أو نكران منها للخدمات التي أسدوها. ومن يريد ان يكتب سيناريو حياة الوزير الراحل لا بد أن يواجه مسارين، أحدهما واضح، ليس فيه نتوءات كبيرة او تعرجات، وآخر مليء بالمطبات والأزمات. فالمسار الاول يشير الى ان الرجل من مواليد بلدة سطات، حينما كانت شبه قرية، في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 1938، من أسرة متواضعة الحال، إذ يقال إن والده كان مجرد حارس في سجن البلدة، لكنه اهتدى الى أن يرسل نجله إلى المدرسة حيث أظهر الفتى ادريس، اجتهادا في حجرات الدرس، ومواظبة في تحقيق رغبة غامضة، لم تتبين حتى بالنسبة لأفراد أسرته، ولكنها لا تخرج عن المسار العام الذي يرسمه لنفسه أي شاب في القرية، حيث تبدو له السلطة، ولو في أدنى مراتبها، المبتغى الذي سيحقق له النفوذ والكلمة المسموعة، إن في بلدته أو في المناطق التي يمكن أن يعين فيها، دركيا أو شرطيا، أو موظفا تابعا للإدارة الترابية (وزارة الداخلية). الاشتغال والانتماء إلى احد تلك الأطر الثلاثة، كان أمنية العائلات المتوسطة التي لم يكن بمقدورها أن ترسل أبناءها إلى الخارج لمتابعة الدراسة في الكليات والمعاهد العليا. كانت وظيفة تعني في الخيال الشعبي كل شيء. لم يكن الالتحاق بسلك الأمن والشرطة، أمرا صعبا، خلال السنوات الأولى التي أعقبت استقلال المغرب، يكفي المرشح لتلك المهمة، أن يكون ذا تكوين دراسي متوسط ومتمتعا بلياقة بدنية ومتصفا بالشجاعة والإقدام والقدرة على تخطي الصعوبات، حتى يضمن مقعدا. ومن المؤكد، أن ادريس البصري، كان متوفرا على بعض منها، إن لم يكن كل تلك المؤهلات، التي أوجدت له بسهولة مكانا في أسرة الأمن الوطني في المستقل. وبمجرد ما وضع البصري قدمه في الطريق المفضي إلى المجد السلطوي، الذي راود خياله المتوثب، حتى ضاعف السرعة بخطى واثقة، مستفيدا من قلة الكوادر المدربة في إدارة الأمن، حيث يبرز بسهولة ويلفت إليه الأنظار، كل من يبين مواهبا، او استعدادا لتقمص أدوار تتطلب الكتمان والقدرة على المناورة، والخداع، وغيرها من الأسلحة المشروعة التي يستعملها رجل الأمن، وتبررها كذلك الأخطار المهنية التي تواجهه في عمله. إلى غاية عام 1973، سنة تعيين البصري مديرا لجهاز الاستخبارات الداخلية، بموازاة مع إحداث جهاز آخر يتكفل بالاستخبارات الخارجية، تولاه ولي نعمته الجنرال أحمد الدليمي، لم يكن أحد يعرف الكثير عن المسار الوظيفي للبصري. ويقول بعض السياسيين، وخاصة من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عصب المعارضة اليسارية في عقد الستينيات من القرن الماضي، إنه (البصري) أظهر تفانيا بوليسيا في التحقيق مع مناضلي «الاتحاد الوطني» الذين اعتقلوا على اثر المؤامرة التي اتهم الحزب بالضلوع فيها، صيف عام 1963 وإشرافه شخصيا على اعتقالات وانتزاع اعترافات في غياهب الأقبية السرية بالعاصمة المغربية. خلال نهاية العقد الستيني، دخل البصري وزارة الداخلية التي كان يتولاها الجنرال الدموي محمد أوفقير، خلال سنوات بعد مؤامرة 1963. فأعجب بمواهب البصري، فدفعه لتولى منصب حساس في الوزارة المخيفة آنذاك، يتعلق بقسم الولاة والشؤون السياسية. وهو منصب ورثه ضابط الشرطة البصري عن العربي الفحصي، أحد رجالات الوطنية والمحافظ النافذ آنذاك في وزارة الداخلية، المتحكم في تعيينات رجال السلطة من مختلف المراتب من قائد وباشا إلى عامل (محافظ). مكن المنصب الجديد، البصري، من امتلاك أسرار الدورة الدموية في وزارة الداخلية، مضيفا إليها مسحات أمنية استمدها من التراث البوليسي الذي رسخه وثبته فيه الجنرال أوفقير، قبل نهايته المأساوية صيف 1972، إثر افتضاح مشاركته في المحاولة العسكرية الثانية التي استهدفت نظام الملك الراحل الحسن الثاني. بين مسؤولية الإشراف على رجال السلطة وأعوانها في الإدارة الترابية، وإدارة جهاز المخابرات الداخلية الذي عوض ما يسمى بجهاز «الكاب» المشتبه في تلوث عناصره في جريمة اختطاف وتصفية الزعيم اليساري المهدي بن بركة عام 1965 بباريس، أكثر من شبهة وصلة عضوية، ستمكن الرجل وتساعده على الإحاطة والإمساك بسائر الملفات الأمنية، أي أنه، بذات الوقت أصبح العين الساهرة على من هم عيون المملكة في الداخل والخارج. أدرك البصري، أنه يسير في طريق، تقربه يوما بعد يوم من الملك الراحل، الذي كان يعيش ظروفا نفسية وسياسية صعبة من جراء فشل محاولتين متتاليتين لإطاحته، ضاعفتا عنده الهواجس والأوهام والمخاوف من الجيش. فكان طبيعيا أن يضع ثقته أكثر في المدنيين، لذا لم يجد أمامه أحسن وأفضل من هذا الشاب البدوي، المتمتع بكل الخصال المؤهلة له ليكون الخادم المطيع والمنفذ للأوامر والتعليمات، بدقة متناهية، وكما يريد من أصدرها دون أن يحتاج إلى شرحها، ما يعني أن أهدافهما تلاقت: الملك يريد مساعدا أمنيا ذا خلفية مدنية، ليست له سوابق الانتماء إلى أحزاب، بدون طموحات معلنة، سوى خدمة سيده بتفان وإخلاص، يظهر نحو الجيش الحذر والخوف المطلوبين حتى لا يطحنه، بينما كان هم البصري شيئا واحدا هو تعميق الثقة به لدى الملك الراحل، حتى يصبح في نظره رجل الدولة اللازم والذي لا يعوض. حقق البصري، بغيته، واستوثق من حاجة الحسن الثاني له، لأسباب يطول شرحها. لكن لا بد من القول إن الملك الراحل كان مدركا وواعيا بحدود وآفاق شخصية البصري. وفي هذا السياق، يحكى أنه كان يستهزئ من وزير داخليته، ويسفه منطقه. ولأسباب تعود مهمة الكشف عنها إلى علم النفس، وجد الملك نفسه مضطرا إلى التعامل مع رجل من طراز البصري، هكذا لم يتردد عن تبويئه المناصب السلطوية الرفيعة رغم معارضة صامتة من الحاشية المقربة، فرقاه أولا إلى مرتبة كاتب الدولة (وزير دولة) في الداخلية، ومنها أشرف مباشرة على الانتخابات البلدية والتشريعية التي جرت في البلاد في أعقاب الانفراج التدريجي والاقتراب من المعارضة الممثلة آنذاك في المقام الأول في حزب الاتحاد الاشتراكي نتيجة خلافات الماضي، وفي الدرجة الثانية حزب الاستقلال المعتدل سياسيا، والتقدم والاشتراكية (الشيوعي سابقا) فقد شكل الثلاثة في صيف 1971 الكتلة الوطنية، معلنة معارضتها الدستورية لتوجهات الملك الحسن الثاني ونياته الإصلاحية. أرضت نتائج الانتخابات، أحزاب المعارضة الثلاثة إلى حد ما، فقد منحتها النتائج، حصة معقولة من المقاعد في البلديات والبرلمان. كانت طبخة مهيأة من طرف طباخ ماهر، استعمل كل التوابل التي أضفت على الوجبة طعم اللذة، ما جعل وزير الداخلية الراحل محمد بنهيمة يصرح، وهو المشهور بصراحته، في مؤتمر صحافي بعد انتهاء الانتخابات البلدية عام 1976، أن الفضل في كل ما جرى يعود إلى هذا الشاب الذي ترونه أمامكم، وأشار بأصبعه إلى كاتب الدولة (وزير دولة) البصري الذي كان جالسا إلى جانبه في المنصة. فهم الحاضرون أن الطريق أصبحت سالكة للبصري نحو المبنى الذي حكم منه المغرب المقيم العام المارشال «ليوطي» واضع أسس الإدارة المغربية الحديثة. أصبح الرجل القوي، وزيرا للداخلية منذ مارس (آذار) 1979، ليبقى في المنصب إلى ان حين إعفائه في نوفمبر (تشرين الثاني) 1999 من طرف الملك محمد السادس، أي أنه أمضى متحكما بدون رقيب في أم الوزارات عقدين من الزمان، يضاف إليهما عقد آخر، أمضاه متقلبا بين الداخلية والاستخبارات، ما يعني أنه مارس السطوة المطلقة على مرفق حكومي دأب على التدخل في كل شيء، طوال ما يقرب من ثلاثة عقود، طبق خلالها البصري منهجين متعارضين، فمن جهة طور أداء مصالح الوزارة من خلال مدها وتطعيمها بالكفاءات الجامعية الشابة التي اقتنصها من كلية الحقوق حيث درس ومارس التدريس، ومن كوادر الأحزاب التي كان يغريها بمختلف الوسائل، فلا تملك أن تقاومه. كذلك استعان بالقطاع الخاص وانتقى منه من توخى فيهم المواصفات التي يبحث عنها. فتش في مختلف أنحاء المغرب وبين سائر الانتماءات الاجتماعية، بل دجن أكثر من يساري متزعم، حتى أصبح ملكيا أكثر من الملك. تلك مزية يجب الاعتراف بها للبصري. لكنه في المقابل، اتبع نقيض المنهجية الأولى، مؤثرا في مساعديه وأتباعه صفات الخنوع وتنفيذ كل ما يطلبه ومجاراته في نزوعاته وصبواته السلطوية، ما جعل الكثير منهم يتقمصون شخصيته ويتماهون معها، مضفين عليها هالات القداسة والعبقرية، حتى أصبحوا نسخا ممسوخة من شخصيته، لذا انفرطوا عنه بمجرد سحب بساط السلطة من تحت قدميه. أين يوجد مفتاح شخصية ادريس البصري؟ الرجل الذي كان يبدو أحيانا مثل البهلوان السياسي، يفتقد الفصاحة والقدرة على الاسترسال في تحليل منطقي للقضايا التي كان يتعرض لها أمام جلسائه في مكتبه بالوزارة أو خلال لقاءاته مع الصحافة وكذلك في شتى المناسبات. كان يتلفظ بأشياء، دفعة واحدة، لا رابط بينها. إنه بامتياز الرجل المهووس بالحفاظ على الأمن وتتبع الأسرار واستيعاب الملفات التي تشوش على صفاء ذهنه بما تضمه من أسرار وخبايا، يخاف أن تضيع منه، فيضغط على حبال ذاكرته حتى تحتفظ بما يريد، غير عابئ بطاقتها الاستيعابية. تلك كانت خطيئة وخطأ البصري التي ستصيبه لاحقا في المقتل. أراد أن يمثل دور المسؤول الضرورة، الذي لا غنى عنه ولا يمكن أن يعوضه شخص آخر، مدنيا كان أوعسكريا مهما أوتي من مؤهلات. عندما يحس بأمر يتحرك في ذهن الملك الراحل، يشرع في التفكير في تنفيذه ومساعدة الملك على بلورته وإخراجه بالكيفية التي ترضيه، طامعا في الأدوار الأولى إذا رأى في ذلك ما يخدم استراتيجيته الأمنية، ويمكنه من الإشراف والإحاطة بكل المرافق الحيوية في الدولة. وفي هذا الصدد ربما ارتكب الخطأ الأفدح بقبوله منصب وزارة الإعلام في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، إلى جانب الداخلية التي أمضى مشرفا عليها ما يقرب من عقد. وضعته الوظيفة الجديدة في صدام ومواجهة مع شريحة خاصة من المجتمع، وجعلته مسؤولا عن تردي جهازي الإذاعة والتلفزيون اللذين لم يستطع أن يضيف إليهما أي شيء على مستوى البرامج وتطعيمهما بالقدرات الإعلامية، بل حولهما إلى مصالح تابعة للداخلية، فعين في مواقع المسؤولية محافظين وقادة ما كان له أسوأ الأثر على واجهة يفترض أنها مرآة وصورة الدولة المغربية. هل كان بإمكانه أن يرفض ما كلفه به الملك؟ لا يسمح البصري مطلقا لنفسه أن تدور بخلده فكرة مناقشة ما يأمر به الملك. يقول المقربون من الدوائر العليا في ذلك الوقت إن البصري، ربما أوحى وأوعز للملك، أن يضم إليه أمر الإعلام، ليصلحه ويعيد إليه النظام. يجوز أن الملك اقتنع بوجاهة ربط الإعلام بالداخلية، لكي يؤدي مهمته التوجيهية للرأي العام الوطني والخارجي، في فترة واجهت فيها الدولة المغربية تحديات في الداخل والخارج. أساءت تلك التجربة غير المسبوقة إلى سمعة المغرب، إذ أخطر ما فيها أنها وضعت الوزير البصري في ساحة المشاهدة، دون أن يجد من يستر عيوبه. وساد الاعتقاد بين الناس أنه سرطان سياسي مستشري، في سائر مفاصل الحكم، يستلزم استئصاله تكوين جبهة مضادة له. وبخصوص هذه المسألة، ينبغي الاعتراف أن الوزير النافذ المنفذ، عرف كيف يخرج من الأزمات سالما وبأقل الأضرار، ويربك مخططات المتربصين به مدنيين وعسكريين، حزبيين ولا منتمين، موظفين سامين ورجال أعمال وتجارة. صحيح أنه كان يستمد الكهرباء من بطارية الحسن الثاني، لكنه بذات الوقت، لم يعدم الذكاء العملي والمكر اللذين يميزان عناصر الأمن والاستخبارات في كل مكان ونظام، ما جعل الجميع تحت رحمته. من يحاول رفع الرأس منهم، يلحقه العقاب الذي لا يخطر بباله. لنتصور نوع السلاح الذي يمكن أن يشهره في وجه خصومه رجل أمن يمتلك أسرار وعورات الناس، مطلع على المناطق المعتمة في شخصياتهم. لقد استعمل هذا السلاح، بجرعات متفاوتة وتبعا للظروف والملابسات. يؤكد الذين اقتربوا من البصري أو خالطوه، أنه يمكن الإطلال على الجوانب الخفية والغامضة في شخصية البصري من خلال استحضار الملامح الكبرى المميزة للملك الحسن الثاني، سلوكا ومزاجا وأسلوبا في التفكير ونهجا في ممارسة الحكم. تحكمت في شخصية الملك الفذة، بدون منازع، ثنائيات عديدة، فهو العصري الحداثي، المعجب بالحضارة والفكر الغربيين، وهو كذلك وبنفس الدرجة من التعلق، المتشبث بالتقاليد الأصيلة المرعية والتراث التليد. كذلك تميز حكمه بالتسامح المطلق في بعض الفترات مع خصومه، واحيانا واجههم بقبضة حديدية. كان يؤثر المشورة والاستعانة برأي الآخرين مغاربة وأجانب. تمكن البصري من عطف الملك وتمسكه به، لدرجة التضحية بالمخططات السياسية الكبرى التي هيأها لحكم البلاد والتصالح مع المعارضة، إلى أن يتحول من كان يدعى برجل منطقة الشاوية القوي، إلى محفز للملك كي يشرك ذات المعارضة، ويباشر الإصلاحات الضرورية الكفيلة بإخراج البلاد من النفق وتجنيبها السكتة القلبية. لا يعني ذلك أن البصري، تحول بين عشية وضحاها إلى ديمقراطي، فمن جُبل على التحكم والمراقبة، لا يمكنه أن يصبح كذلك في رمشة عين. سيتساءل البعض لماذا أهمل الحديث عن تجاوزات البصري وخروقاته، وما يروى عن إشرافه على تعذيب خصومه السياسيين وتنكيله بهم وانتهاكاته لحقوق الإنسان، وتحكمه في رقاب الصحافيين، وإغداقه المال على المفسدين من عائلته وبطانته، وترفيع من لا يستحق، وإقصاء المواهب والكفاءات.. قائمة اتهامات طويلة، ربما فيها الصحيح.. لكنها حتما تحتوي على قدر من المبالغات. ينبغي التأكد من درجة صحتها. وأخيرا فان الصحافي لا يمكنه ولا يجوز، له أن يتحول إلى قاض، يصدر أحكاما غير معللة. فتلك مهمة يتقاسمها طرفان، «القضاة والمؤرخون». وبما أن عمل الفئة الأولى قد انتهى بوفاة البصري، وإسقاط كل المتابعات عنه، فقد بدأ شغل الفئة الثانية، وهم المؤرخون. فماذا سيكتبون في الصفحات المخصصة له؟ أم تراهم سيعتبرونه حدثا عابرا في تاريخ المغرب، لا يستحق التدوين. تلك سلطتهم، لا ينازعهم فيها أحد، فليحكموا بما يشاءون.