يُخطئ من يعتقد أن الحرب الشعواء التي يقودها نظام العسكر في الجزائر ضد وحدة المغرب وسلامة أراضيه يمكن اختزالها في المناوشات داخل أروقة الأممالمتحدة. فالمتتبع للتحركات الدبلوماسية لجارتنا "الشقيقة" يدرك تشعب أجندة المكائد التي تحيكها لتنفيذ ما أسمته "سنة الحسم" في قضية الصحراء. ذلك أن حالة الشلل التي يعيشها رأس الدولة لم تمنعه من أنشطة مكثفة خلال الشهرين الأخيرين. منها استقبال رئيس النيجر يوسوفو محمدو، من23إلى 25 يناير المنصرم، والذي صرح عند نهاية زيارته "بضرورة إنهاء مخطط الأممالمتحدة لتقرير المصير في الصحراء". وبعد ذلك صرح الوزير الأول الماليموديبوكيتا في أعقاب زيارة مماثلة للجزائر بتاريخ 10 فبراير 2015، أن مالي تؤيد "تقرير المصير في الصحراء". يعلن ذلك وهو الذي تعاني بلاده من ويلات حرب أهلية مع حركة تحرير الأزواد المطالبة باستقلال شعب الطوارق وتقرير مصيره!كما نسجل أن أول زيارة قام بها الجنرال السيسي خارج مصر كانت إلى الجزائر بغض النظر عن الأسباب والمُسبّبات. إلاّ أن أخطر اختراق في الدفاعات المغربية هي الزيارة التي قام بها رئيس السنغال مكي سال إلى قصر المراديةمن 12 إلى 15 يناير. فرغم أنه لم يُدل بتصريحات مماثلة لزميليه السابقين، إلا أن مجرد قيامه بهذه الزيارة يعتبر مكسباً لدبلوماسية الجارة الشرقية. وذلك لطبيعة العلاقات الاستراتيجية بين المغرب والسنغال، والتي تميزت بالاستقرار منذ استقلال البلدين، دون أن يُسجّل أي تأثير يُذْكر لتَغيّر الرؤساء الذين تعاقبوا على سُدّة الحكم من بول سيدانسانغور وعبدو ضيوف وعبدالله واد إلى مكّي سال. وحتى تغيّر لون الحزب الحاكم لم يكن له أثر يُذكر على هذه العلاقات التي كانت سبّاقة في مضمار التعاون جنوب-جنوب على صعيد إفريقيا. من هنا خطورة الاختراق الذي يؤشر على أن خصوم المغرب لا يكتفون بالتحرك في ساحتهم بل انتقلوا إلى مُربّعنا الدفاعي. هذا على مستوى الرئاسة المُقعدة.. أما على مستوى الخارجية، فقد رأينا الحركة غير الطبيعية لرمتان لعمامرة خلال الشهور الأخيرة، وسأكتفي في هذا المقالبالجانبالمتعلق منها بالقمة الإفريقية. وأستحضر هنا اللقاءات المتكررة مع وزير خارجية مصر سامح شكري، وكان آخرها في أديس أبيبا يوم 28 يناير أعقبه تصريح يؤكد على الطابع الاستراتيجيللعلاقات الثنائية بين الجانبين و"تطابق وجهات نظرهما في القضايا القارية"، هكذا إذن تطابق ! ولا يخفى على المتتبعين التحالف الجديد بين البلدين لدعم الجنرال الليبي حفتر ضد الثورة الليبية. وقد سبق للجنرال حفتر أن أعلن في تصريح للصحيفة الإيطالية "كوريير دي لاسييرا" أنه تلقى دعماً من النظام الجزائري، رغم تكتم هذا الأخير. وفي وقت سابق كانت دول الجوار الليبي الستة: الجزائر و مصر وتونس والسودان و تشادوالنيجر قد أنشأت ما أسمته باللجنة الأمنية وأَسْندت رئاستها للجزائر. تحركات تصب كلّها في تموقع استراتيجي قاري وإقليمي يقوي موقف الجارة "الشقيقة" في النزاع الجيوسياسي ضد وحدة المغرب، وهي مسألة بالغة الأهمية في حسم الصراع بالنقاط حين تتعذر الضربة القاضية. وبالعودة إلى القمة الإفريقية الرابعة والعشرين المنعقدة نهاية يناير بإثيوبيا، نجد أن لعمامرة، كعادة سابقيه، جعل من قضية الصحراء فَرَس رِهانه، ومعزوفته المفضلة،إذ لا تخلو منها تصريحاته عقب اللقاءات التي كان يجريها في أروقة وكواليس الاتحاد الإفريقي. وفي هذا الصدد نورد على الخصوص تصريحه المشترك مع وزير خارجية زمبابوي السيد "سيمباراشي" الذي زعم بأن "الصحراء الغربية توجد على رأس أولويات قمة الدول الإفريقية"!فهل فات وزيري زمبابوي والجزائر أن أولويات إفريقيا هي القضاء على وباء "الإبولا" الذي فتك بأزيد من خمسة آلاف إنسان في ليبيريا وسيراليون، و"بوكوحرام" التي تنشر الرعب في نيجيريا والكامرون، و"الدولة الإسلامية" التي باتت لها إمارتان في ليبيا، والحروب الأهلية التي تمزق القارة السمراء في جنوب السودان ودارفور ومالي، والتطهير العرقي بإفريقيا الوسطى، وحرب العصابات في الصومال، والقرصنة البحرية في القرن الإفريقي.. والقائمة أكبر من أن تُحصر. هل فاتهم ذلك حقاً؟ أم أن الاتحاد الإفريقي قد نجح في حل كل الأزمات ومحاربة كل الأوبئة وحل كل إشكالات التنمية في غفلة من المغرب الذي خرج من "الوحدة الإفريقية" ذات مؤامرة سنة 1984؟ ولإنعاش ذاكرة الاتحاد الإفريقي، لا بأس أن نُذكّره بأن إحدى إشكالاته الكبرى هي الدكتاتوريات التي تحكم الشعوب الإفريقية بالحديد والنار. وفي مقدمة هذه الشعوب زمبابوي التي يحكمها السيد "موغابي"، ولا أدري ما إن كان لِاسْمِه علاقةٌ اشتقاقية بالغباء أم هو مجرد جِناسٍ لُغوي ! لا علينا، فما يهمنا هو أن "تقرير المصير" لا يمكن أن يتحدث عنه "رئيس" يجثم على صدر شعبه منذ خمس وثلاثين سنة بالتمام والكمال، دون أن يتمكن شعب زمبابوي من ممارسة حقه في اختيار رئيسه وتقرير مصيره. وبالمناسبة زمبابوي لم تعرف رئيساً آخر منذ استقلالها عام 1980 عن جنوب إفريقيا غير فخامة السيد "موغابي"، والذي تجاوز اليوم التسعين خريفاً من عمره المديد ! أمن حق هكذا دكتاتور وقرينه ذي الثمانين حولاً، والذي يمشي على كرسي متحرك في قصر "المرادية" أن يتحدثا عن "تقرير المصير"؟ أو عنحق الشعوب أو ما شابه ذلك من المصطلحات الثقيلة؟ لا أظن ذلك، ولكن يبدو أن قواميس العلوم السياسية في البلدان الديمقراطية والأمم المتحضرة أصبحت بحاجة ملحة إلى مراجعة تعريفاتها لمفهوم "تقرير المصير" على ضوء اجتهادات العقل السياسي في بعض الدكتاتوريات الإفريقية وعلى رأسها نظاما زمبابوي والجزائر. كما أن الشعوب الإفريقية مطالبة بمراجعة أولوياتها وتطلعاتها إلى الديمقراطية والتنمية والوحدة والسلام لتتلاءم مع الأولويات التي حددتها الرئاسة العجوزة للاتحاد الإفريقي وحليفتها العجوز الأخرى في شمال إفريقيا. وليت الأمر يقف عند هذين النظامين، فالإشكالية أكبر من ذلك بكثير، بل هي أدهى وأمر. فإذا نظرنا إلى كيفية انتقال السلطة داخل الدول الأربعة والخمسين المشكلة للاتحاد الإفريقي، نجد أن السلطة انتقلت بشكل ديمقراطي من الرئيس المنتهية ولايته إلى الرئيس المنتخب في ثماني (8) دول فقط. ما تبقى من الدول الإفريقية انتقلت فيها السلطة من السلف إلى الخلف إمّا بانقلاب عسكري وهو ما وقع في 13 بلداً آخرها مصر الكنانة، أو بحروب أهلية في 05 بلدان، أو بثورة شعبية في بلدين اثنين(2)، وما تبقى بسبب الموت، طبعاً !إنها مسرحية من نوع الكوميديا السوداء، تلك التي "تنتخب" فيها 54 دولة إفريقية دكتاتوراً عجوزاً تجاوز التسعين لترأس "الاتحاد الإفريقي". ويكفي أن كاميرات العالم التقطت السيد "موغابي" وهو يهوي أرضاً دون أن يَقوى على استعادة توازنه وهو يمشي على البساط الأحمر خلال القمة الأخيرة بأديس أبيبا. أعتقد أنه لا يمكن أن نَجِد "ميتافور" أفضل من هذه للتعبير عن سقوط "المنظمة الإفريقية" مَجازاً، لا، بل حقيقيةً..