بدعوة كريمة من الصديق عريب الرنتاوي الذي يدير مركز القدس للدراسات السياسية بعمّان حضرت مؤتمرا إقليميا خصص لمدارسة خمس تجارب من العالم العربي حول إشكالية «الإسلاميون والحكم» همت على الخصوص تجربة كل من تونس ومصر والمغرب والعراق والأردن بالإضافة إلى تركيا البلد الذي تم استدعاء تجربته من خارج العالم العربي. الجلسة المخصصة للتجربة المصرية لم تمكن من مناقشة عميقة وصريحة بسبب غياب ممثل عن جماعة الإخوان المسلمين رغم الجهود المبذولة من طرف المنظمين، وبعدما كان من المقرر أن يمثل أحد المثقفين الإسلاميين وجهة نظر قريبة من الإخوان تم رده من المطار، وهو ما جعل الكثير من الأسئلة المرتبطة بمستقبل التجربة المصرية معلقة، بينما اكتفى المشاركون من موقع المنصة بتحميل المسؤولية للإخوان المسلمين الذين ارتكبوا في نظرهم مجموعة من الأخطاء بعد انتخاب الرئيس مرسي.. ظهر من خلال النقاش أن هناك خصاصا كبيرا في الثقافة الديموقراطية لدى النخب السياسية المصرية وأن هناك حاجة ماسة للاعتراف المتبادل قبل التأسيس لمسار سياسي جديد مبني على العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية واعتراف الجميع بأخطائه.. التجربة التونسية شدت الأنظار بسبب التحولات الأخيرة المتعلقة بفوز الباجي قايد السبسي برئاسة الجمهورية وهو ما اعتبره البعض إشارة سلبية وعودة إلى الوراء، غير أن مداخلات ممثلي كل من حزب النهضة وحزب نداء تونس وحزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد بددت الكثير من التخوفات المثارة حول التجربة المصرية، وظهر بأن حالة التقاطب الثنائي الذي عاشته تونس في أعقاب الثورة لا يلغي حجم الإنجازات التي حصلت بالتصويت على دستور ديموقراطي وبالنجاح في تنظيم ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة وبتجاوز حادث اغتيال قياديين يساريين تم تدبيره من طرف أعداء الانتقال الديموقراطي في تونس، وفي تجنب الكثير من مظاهر التدخل الخارجي للتأثير في مواقف القوى السياسية.. مداخلات المشاركين بددت الكثير من علامات القلق والتخوف حول مستقبل الديموقراطية في تونس، كما ثمنت دور الشيخان (راشد الغنوشي والباجي السبسي) وهما الرجلان اللذان يمثلان صوت الحكمة في تونس اليوم، مع ملاحظة أن حزب نداء تونس لا يعبر عن رؤية سياسية موحدة بقدر ما يعبر عن تجمع لعدد من التيارات السياسية التي تختلف بينها في العلاقة مع حزب النهضة وفي التحالفات السياسية المطلوبة خلال هذه المرحلة، ومع ذلك فقد عبرت المنصة عن مستوى من النضج والوعي بتحديات المرحلة التي تعكس التأثير الإيجابي لثقافة الثورة ووجود الكثير من الشروط الموضوعية التي تحصن التجربة وتمنعها عن أي تراجع دراماتيكي كما حصل في بلدان أخرى.. عرض التجربة المغربية أكد أطروحة الاستثناء المغربي بحيث ظهرت مداخلات ممثلي كل من حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية (مشاركان في الحكم) وحزب الاستقلال(معارض) متكاملة وموحدة في قراءة المرحلة السياسية في المغرب وفي اعتبار خصوصية الحركة الإسلامية المغربية من خلال حزب العدالة والتنمية الذي نجح في بناء تجربة تتلاءم مع البيئة المغربية وتتكيف مع معطياته التاريخية والسياسية والثقافية. ظهر من خلال النقاش أن نضج التجربة المغربية هي محصلة الكثير من المحددات الموضوعية، فالمغرب عرف تعددية سياسية حزبية منذ سنة 1934، هذه التعددية التي ترسخت مع الاستشارات الشعبية والاستحقاقات الانتخابية المتوالية منذ سنة 1962 رغم ما شابها من عمليات تزوير وتحريف عن الإرادة الشعبية، كما تميزت التجربة المغربية بطبيعة النظام الملكي الذي يعتبر محل إجماع من طرف القوى السياسية المشاركة، وبطبيعة الأدوار الاستراتيجية التي يقوم بها الملك في المغرب مثل دور التحكيم في القضايا الخلافية الكبرى بالإضافة إلى قيادة الجيش وإبعاده عن الشأن السياسي، دون أن ننسى الدور الهام الذي يحتله الملك في رعايته للشأن الديني باعتباره أميرا للمؤمنين.. الملكية في المغرب اختارت أن تواجه احتجاجات الشارع المغربي بالحوار، وتفاعلت مع مطالب الشباب المغربي الذي تأثر برياح الربيع العربي بالحوار وبالتفاعل السريع مع مطالبه عبر خطاب مباشر يوم 9 مارس وعبر إصلاح الوثيقة الدستورية التي سجلت الكثير من المقتضيات المتقدمة بالمقارنة مع الدستور السابق.. حزب العدالة والتنمية لعب دورا محوريا في إنجاح التجربة المغربية وتفاعل مع رياح الربيع العربي بواسطة عرض سياسي تمثل في شعار «الإصلاح في ظل الاستقرار» لقي استجابة معتبرة في الانتخابات التشريعية التي بوأته الرتبة الأولى ب 107 مقعدا في مجلس النواب لأول مرة في تاريخ المغرب. الشباب المغربي الذي أطلق شرارة الاحتجاجات تفاعلا مع ثورات الربيع العربي، لم يرفع شعار إسقاط النظام وإنما طالب بإصلاحات ديموقراطية عميقة، وهو ما ساهم في توقيف مسار تحكمي بدأت بوادره تظهر منذ سنة 2009 مع الانتخابات البلدية .. التجربة العراقية كانت محط اهتمام خاص، بالنظر لفشل الأطراف السياسية في بناء تجربة ديموقراطية مستقرة وسط بيئة حطمتها الطائفية والتعصب للمذهب بالإضافة إلى حجم الفساد الذي ينخر المكونات السياسية. لم تنجح مداخلات الأحزاب السياسية المتعاقبة على المنصة من أن تخرج من عباءتها الطائفية، ولم تكن مداخلات ممثل حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري والائتلاف الوطني العراقي والحزب الإسلامي العراقي في تبديد المخاوف من هيمنة العقلية الطائفية والمذهبية على الخطاب السياسي العراقي، وهو ما يبرر استمرار التوتر في بلد تخترقه الكثير من الأعراق والأديان والمذاهب ويحتاج إلى الكثير من الحكمة والاجتهاد الفكري والسياسي وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الطائفية والأنانيات الحزبية. التجربة التركية عكست مستوى متقدم من النضج والاستيعاب العميق للتحديات التي تعترض الدولة الوطنية وهو ما يمكن أن يكون محل متابعة في مقال لاحق..