لا يستطيع المرء أن يخفي شعوره بالحيرة والقلق ازاء الخبرين اللذين نشرتهما "الشرق الأوسط" على صفحتها الأولى خلال الأسبوع الماضي. الخبر الأول من القاهرة وخلاصته أن قراراً حكومياً صدر بمنع الداعية الشاب عمرو خالد من القاء دروسه الدينية خارج القاهرة. وكان قرار سابق قد صدر بمنعه من تقديم تلك الدروس داخل القاهرة. أما الخبر الثاني فقد تضمن تصريحا لوزير العدل والأمن الليبي قال فيه ان الليبيين يرفضون أي ظواهر في مساجدهم لا تتفق مع تعاليم الدين الاسلامي، ولذلك فانهم يقومون من جانبهم بتطهير المساجد من "الزنادقة" ، دون تدخل من أجهزة الأمن الليبية. لم أقرأ نفياً لأي من الخبرين، على الأقل خلال الأسبوع الذي أعقب نشرهما، الأمر الذي يرجح صحتهما حتى الآن على الأقل وان كنت أتمنى أن أقرأ نفياً لتلك الصحة ذات يوم. واذا لم يحدث ذلك، فمن أسف أننا سنضطر الى التعامل معهما باعتبارهما صحيحين. وهي مفارقة لا ريب، ان نقرأ عن منع عمرو خالد من إسلقاء دروسه، في وقت متزامن مع قرار لإحدى المحاكم الألمانية بمنع مدرسة مسلمة من أصل أفغاني تحمل الجنسية الأفغانية من تغطية شعرها بارتداء +الحجاب؛ أثناء تدريسها للتلاميذ . وفي حين تحدث الوزير الليبي عن حملة تطهير المساجد من الزنادقة في ليبيا، فان حملة أخرى موازية تصاعدت في هولندا خلال الأسبوعين الأخيرين، لفرز أئمة المساجد والتلويح باغلاق بعضها بحجة انها أصبحت بؤراً للتطرف (لم يذكروا الزندقة لأن القانون يحميها هناك!). لم نقرأ تفسيراً لقرار منع عمرو خالد من القاء دروسه بعيداً عن القاهرة، في منطقة 6 أكتوبر التي تبعد حوالي 30 كيلومتراً عن العاصمة المصرية، ولكن الخبر انبأنا بأنه منع سابقاً من القيام بهذه الرسالة في القاهرة بسبب شدة الاقبال على دروسه، الأمر الذي كان يتسبب في تعطيل حركة السير في المدينة المكتظة! ورغم غموض السبب الذي أدى الى صدور قرار المنع الأخير أكرر: اذا ثبت ان الخبر صحيح الا أن القدر المتيقن انه لم يرتكب فعلاً مخالفة للقانون، والا كانت قد جرت مساءلته ومحاسبته على ما فعل أو على ما صدر منه من أقوال لذلك فأغلب الظن ان الرجل منع لأسباب تتعلق بالملاءمة السياسية، وليس لأسباب تتعلق بمخالفته للقانون، واذا صح ذلك فانه يدعونا الى طرح عدة أسئلة، في مقدمتها السؤال: ما هو محور كلام ذلك الداعية الشاب، الذي صعد نجمه خلال السنتين الأخيرتين؟ الذي أعرفه أنه يتجنب الخوض في أمرين جوهريين، احدهما يتعلق بالدنيا والثاني يتعلق بالدين. فلا هو يتكلم في السياسة، كما أنه يتحرج عن الفتوى (رغم أن هاتين المسألتين بالذات هما من أكثر ماتلوكه الألسن في عالمنا العربي). خارج هذا الاطار فان الرجل يركز على محبة الله ورسوله، والاقتداء بالصحابة، وعلى الالتزام بالشعائر والعبادات والخلق القويم. وفي حدود ما نعلم فانه لم يكن يوماً ما داعية للتطرف أو العنف، حيث ازعم أن ظهوره كان من قبيل رد الفعل المضاد لبروز التطرف والعنف في العقدين الأخيرين خاصة. ذلك أنه أحد القائلين بأن الأفكار لا تنبت من فراغ، وانما هي عادة، تظهر استجابة لحاجة أو واقع اجتماعي أو ثقافي أو سياسي. واذ كان التطرف وخطاب العنف أحد عناوين العقدين الأخيرين، فان ذلك أسهم في تنشيط خطاب الاعتدال في الساحة الاسلامية، سواء كان ذلك داعياً الى الديمقراطية والانخراط في آليات التغيير السلمي ان وجدت بطبيعة الحال! أو مهتماً بالشعائر والعبادات والأخلاق. السؤال الثاني هو: ما هو جمهور عمرو خالد؟ في حدود ما نعرفه ونشهده فانه بدأ نشاطه في أحد النوادي الاجتماعية والرياضية. وانه جذب في البداية جمهور النادي وأقرانهم من الشبان الذين لم يكونوا يقبلون على الدعاة التقليديين، اي انه أوصل كلامه الى شريحة نافرة من الاستماع الى الدعاة، وتشيع بينها درجات متفاوتة من عدم الالتزام ، وقد أقول التفلت من الدين. وحين خرج من النادي، أو أبعد عنه بتعبير أدق، فانه ظل يخاطب تلك الشريحة، وحقق على ذلك الصعيد نجاحاً مشهوداً. وأسهمت الفضائيات في توصيل كلامه الى دوائر تجاوزت حدود مصر، خصوصاً في منطقتي الخليج والمغرب العربي. وهو ما جعل منه الداعية الأول المستقطب للشباب المصري والعربي بعامة، بأسلوبه البسيط وروحانيته الشديدة، وربما أيضاً بمظهره العصري، الذي أتاح له أن يعبر الحواجز التي تباعد عادة بين الدعاة وبين الشباب. تلك الشريحة الضخمة من الشباب التي تتجاذبها مغريات كثيرة تبعدها عن التدين، وتشيع بينها أمراض سلوكية واجتماعية عدة، أصبحت تستمع الى ذلك الداعية الشاب، الذي أخذ بيد أعداد كبيرة منهم، ومن ثم أبعدهم عن مزالق الغواية التي تلاحقهم، كما أنه ساعدهم على ألا يجنحوا في الاتجاه المعاكس، عن طريق الالتحاق بجماعات التطرف والغلو مثلاً . وهو ما يدعونا إلى القول بأن منعه من مخاطبة أولئك الشبان مع عدم وجود بديل مقنع له، يعني بين ما يعني تسليمهم اهداءهم ان شئت الدقة اما لمزالق الغواية أو لجماعات التطرف والتكفير. سؤال أخير يثيره قرار المنع هو: هل يمكن في زماننا ان تنجح عملية المنع في حجب صوت الدعاة أو غيرهم ممن يريدون مخاطبة الآخرين؟ ردي على ذلك ان المنع يرفع من درجة الاقبال على الشخص الممنوع، باعتبار أن كل ممنوع مرغوب، ثم أنه في ظل تطور وسائل الاتصال التي شهدها العالم، فان منع أي واحد من مخاطبة الناس أصبح متعذراً، فهناك القنوات الفضائية وهناك +الانترنت؛ ، والأخير أصبح سلاح المحجوبة أصواتهم في كل مكان بالعالم. هكذا فانه من الناحية الموضوعية، بل ومن الناحية السياسية والأمنية أيضاً فان قرار المنع يبدو مفتقدا الى الحكمة وبعد النظر، ناهيك عن أنه يكشف النقاب عن نهج في التفكير يحتاج الى اعادة نظر وتصويب. وازعم في هذا الصدد انه يفتح الباب للتأويل وسوء الظن، حيث اخشى ما اخشاه انه في غياب اعلان اسباب مقنعة لمنع الرجل من مخاطبة الشباب، فان هذه الخطوة تهدي جماعات التطرف والتكفير حجة قوية يستندون اليها في ترويج مزاعمهم في ادانة الدولة والمجتمع. ما يعنيني في الحدث ليس منع عمرو خالد أو اجازته، وانما اهتمامي الأكبر ينصب على الموقف من خطاب الاعتدال، الذي أحسب ان الأحداث المتلاحقة أثبتت أننا أشد ما نكون حاجة اليه، وان غيابه أو تغييبه فتح الأبواب واسعة أمام مختلف تيارات التطرف والعنف. لا أمل من تكرار مقولة شيوخنا الذين ما برحوا يرددون ان مكافحة الحرام لا تكون الا بتيسير أبواب الحلال، الأمر الذي يعني ان تضييق دائرة الحلال لا تعني الا شيئاً واحداً هو اطلاق يد الحرام وتوسيع نطاقه. وهو كلام ينطبق على موقفنا من التطرف والاعتدال، حيث الأول لا يمكن أن يكافح الا بتيسير الثاني، كما أن محاصرة الاعتدال هي أعظم هدية للتطرف بمختلف تجلياته. التصريحات التي نشرتها +الشرق الأوسط؛ على لسان الوزير الليبي تدعو بدورها الى مزيد من الحيرة والقلق. إذ رغم ان الكلام خلا من ذكر الوقائع والتفاصيل، الا أن الاشارات التي وردت فيه كافية. فنحن لا نعرف ان في ليبيا زنادقة، واذا افترضنا انهم تواجدوا حقاً، فاننا نستغرب ان يذهب هؤلاء الزنادقة الى المساجد، ثم اننا نستغرب القول بأن المواطنين الليبيين هم الذين يتولون امر +تطهير؛ المساجد من تلك الفئة المنحرفة. مصدر قلقي هو ان يتولى وزير الأمن وصف فئة من المواطنين بأنهم +زنادقة؛ ، الأمر الذي يدعونا الى التساؤل عما اذا كان وصف الزندقة محمولاً هنا على المعنى العقيدي أو السياسي، بمعنى هل هم خارجون على الملة ام على النظام. فاذا كانوا خارجين على الملة فان تحديد الزندقة في هذه الحالة اذا كان لا بد منه ليس من اختصاص وزير الأمن. واذا كانوا خارجين على النظام فلا ينبغي أن يوصفوا بالزندقة . الا اذا كانت تلك دعوة للفتك بهم واستباحة دمائهم وأموالهم. ورغم أن مصطلح التطهير في الخبرة السياسية كان مسلكاً له عواقبه الوخيمة، الا أن تلك العواقب البائسة تتضاعف اذا ما كلف العامة والغوغاء بمهمة النهوض بها. وما فعلته اللجان الشعبية باسم التطهير في السابق كان كابوساً مفزعاً لا يزال يتطير منه الليبيون حين يأتي أحد على ذكره. ان السؤال الذي يثيره كلام الوزير الليبي هو : هل يمهد كلامه لحملة تطهير جديدة لرواد المساجد تعيد الى الأذهان ما يحاول كثيرون نسيانه، عن حملات التطهير التي قام بها العامة والغوغاء، والتي كان المثقفون والأكاديميون في مقدمة ضحاياها. ليس هذا الحديث بعيداً عما يجري للعالم العربي في الوقت الراهن من مهانة واذلال على يد الاسرائيليين والأمريكيين، لأنني أزعم أن ذلك كله ما كان له ان يتم من جانبهم بتلك الدرجة من الفجاجة والاستهتار، لولا علمهم في واشنطون وتل أبيب بمدى ضعف بنياننا وهشاشة صفوفنا وبحقيقة ما نفعله بأنفسنا.