يعتبر الدكتور محمد الطوزي أن الأحزاب السياسية في المغرب بحاجة إلى إعادة بناء ذاتها لمسايرة الرحلة السياسية الجديدة التي يخطو إليها المغرب، ويرى أن أسباب العزوف عن الانخراط في الأحزاب والمشاركة في الانتخابات عائدة إلى ترهل وشيخوخة هذه المؤسسات الحزبية وافتقاد العمل السياسي إلى مشروعات مجتمعية واضحة. وفيما يلي نص الحوار الذي أجريناه مع الباحث محمد الطوزي، المعروف بأبحاثه حول الحركات الإسلامية والعالم القروي والفكر السياسي. تفصلنا أسابيع معدودة عن الانتخابات التشريعة المقبلة بالمغرب، هل تتوقعون أن تكون هذه التجربة الانتخابية مختلفة عن سابقاتها؟ نتمنى، ستكون بالضرورة انتخابات مخالفة لسابقاتها، وذلك لعدة أسباب، لأن الظرفية مختلفة، أن تكون نزيهة أم غير نزيهة هذا شيء آخر، لكنها ستكون أول انتخابات تجري بعد الحسن الثاني، وهذه قضية مهمة جدا، لأن جميع الانتخابات التي جرت من قبل كانت في عهد الحسن الثاني، المسألة الثانية هي أنها أول انتخابات سيدير شؤونها على المستوى الإجرائي والتنظيمي حكومة يترأسها وزير من اليسار، المسألة الثالثة، هي حجم الانتظارات التي يتوقعها الكثيرون من هذه الانتخابات، على مستوى الشارع وعلى مستوى محيط المغرب، وأيضا حتى على مستوى النخبة السياسية في البلاد، ليست هناك ممارسات في مستوى هذه الانتظارات، ولكن على كل حال الانتظارات أستشفها من الخطاب المروج من طرف النخب السياسية ككل، وحتى تنوع طرق الاستعداد. هل يكفي أن تكون هذه الانتخابات، الأولى بعد مرحلة الحسن الثاني في ظل حكومة وزيرها الأول يساري لتكون ناجحة؟ هذا لا يعني عدم مناقشة جدية المؤسسات ونزاهتها ومسؤوليتها، هذه مشاكل أخرى لكن أؤكد أولا أن هذه الانتخابات ستكون مختلفة فقط لسابقاتها. أنت تسألني كيف ستكون نزيهة، لكن أجيبك أنه لا توجد انتخابات نزيهة وشفافة في العالم كله، لكن تكون هناك ضمانات ويكون هناك توافق حول نتائج الانتخابات، المشكلة ليست في الانتخابات، ولكن في ما بعد الانتخابات، والرضا بنتائج الانتخابات، وهذه القضية في المغرب على مستوى الثقافية السياسية أننا ما زلنا لم نصل بعد إلى هذا، فالجميع قد يتفق على شفافية الانتخابات إذا كانت ستخدم مصالحهم، الانتخابات كآلية تحكيمية بين مصالح متضاربة، لم نصل إلى هذا المستوى في الثقافة السياسية الحاصلة بالمغرب، هناك خطاب عن نزاهة الانتخابات والرغبة في التغيير، لكن هذا مجرد كلام فقط، لكن ما نمكن أن نحكم عليه هو التصور المبيت لنتائج الانتخابات، التصور الجاهز، فمن خلال الخطاب المتداول ليس هناك اتفاق قبلي على نتائج الانتخابات، هناك إرادة في تحكيم الرأي العام، فالانتخابات في العالم كله هي آلية لاستشفاف أو استخراج الإرادة العامة، وهذه الآلية لها صيغتان إما أنك تريد أن تستخرج إرادة ناجعة، أو تريد استخراج إرادات تمثل المجتمع ككل، وكل تصور منهما لديه آلياته، هذا الأمر ليس واضحا عندنا الآن، هل نريد أن نكون سلطات تتوفر على النجاعة، ولكن تنقصها التمثيلية ككل.. لكن ألا يكفي مثلا تأكيد أعلى سلطة في البلاد على أن الانتخابات ستمر في شروط ديمقراطية ونزيهة، وفي ظل حياد للإدارة؟ نعم، ولكن هذه ضمانات، لكن لا ننسى أن أي انتخابات في العالم تنبع من تصور: ماذا نريد؟ هل نريد برلمانا وحكومة لهما النجاعة، أم برلمانا وحكومة لهما التمثيلية، وقليلا ما يتحقق الجمع بين الإثنين، بريطانيا مثلا تريد النجاعة لا التمثيلية، لذلك يكون هناك إقصاء للأحزاب الصغيرة، عندنا نحن لم نصل إلى هذا بعد. صحيح هناك ضمانات لكن لا ننسى أن الملك السابق أيضا أعطى ضمانات، لكن ينبغي أن يصبح ذلك قناعة لدى جميع الأحزاب بما في ذلك المؤسسة الملكية نفسها، بأن تكون الانتخابات نزيهة مع حياد الإدارة وسوى ذلك، ولكن هذا كذلك لا يعفي الحكومة الحالية من توفير الأدوات والتقنيات القانونية التي تمكن من فرز حقيقي في الساحة السياسية. في حالة غياب تصور واضح من قبل للإنتخابات ونتائجها، ماذا سيحدث؟ هذا هو السؤال الذي تنبغي الإجابة عليه، الذي سيحدث أنه هناك تأخر الثقافة السياسية عن الواقع السياسي، فالنخب السياسية الحالية حاملة لثقافة سياسية كانت في الثمانينات والتسعينات، ولكن متطلبات الانتخابات المقبلة هي متطلبات أخرى، فالتحرك السياسي مازال محكوما بهذه الثقافة السياسية. المرجعية السياسية القديمة هي أنه لم تكن هناك ضمانات لدى الناخب، أي أن تكون التجربة الأولى والثانية والثالثة مرت في ظروف سليمة وشفافة، لا يكفي أن تقول لي ستكون الانتخابات شفافة، ولكن يجب أن أتأكد، لهذا السبب لا ينبغي أن نعطي للانتخابات المقبلة ذلك البعد الدرامي، أنها ستغير وستفعل، فهي لن تغير شيئا، لأن التغيير الحقيقي هو تغيير عقلية الناخب والمنتخب، لذلك ينبغي انتظار أربع أو خمس تجارب انتخابية أخري حتى تتغير هذه العقلية وتصبح نزاهة الانتخابات تقليدا. فالضمانات تأتي بالتجربة وليس بالخطاب، أو بالقانون وبرفع العقوبات ضد استعمال وأخذ الأموال مثلا، ولكن بالتجربة، حينما تصبح هناك علاقة ثابتة بين صوت الناخب وبين نتيجة الانتخابات أو المنتخب. قلت قبل قليل بأن الخطاب الرسمي يفتقد لتصور واضح حول الانتخابات، هل معنى ذلك أنها ستكون ناقصة المشروعية والتمثيلية؟ التصور الحالي ناتج عن خطاب، لكن هذا التصور غير مؤكد بالممارسات الحالية أولا، وثانيا لا يمكن أن يتبلور إلا عبر التجربة نفسها، وليس قبلها، فالناس مهما كان لن تثق في الانتخابات، وستقول إنها مخدومة، حتى لو كانت نزيهة، ولكن بعد تجارب تالية يمكن أن تتغير هذه العقلية، أنا أظن أن الانتخابات المقبلة ستكون نزيهة، لدي قناعة بذلك، لكن هذا لا يمنع من أنه ستكون هناك اعتراضات حول النتائج، لأن الناس غير محكومة بثقافة مغايرة، لنأخذ مثلا فقط نتائج امتحانات الشهادة الابتدائية، قبل عشر سنوات فقط كانت هناك عقلية (باعو لي النمرة) كل من فشل في الامتحان يقول لك (راه باعو لي النمرة) ولم نتخلص من هذه العقلية إلا في الأعوام الأخيرة. لكن ماهي مسؤولية الأحزاب أيضا في إنجاح هذه التجربة؟ هي مسؤولية كبيرة، أولا لأن تغيير هذه العقليات يبدأ من الأحزاب، في طريقة اختيار المرشحين، في الديمقراطية داخل هذه الأحزاب، والشفافية في أجهزتها، من هنا تبدأ المسؤولية، من أجل إعطاء الإشارات الأولية لمصداقية المسلسل الانتخابي، فهذه الإشارات حتى وإن جاءت من السلطة، تظل غير كافية على مستوى الممارسات، لأن الإشارات الأولى على مستوى الممارسات تأتي من النخبة نفسها، في اختيار المرشحين، واستعمال المال وتمويل الحملة وتسيير الحملة، لنقول بأن العقلية تغيرت. الملاحظ أن عدد الأحزاب التي ستدخل الانتخابات فاق اليوم ثلاثين حزبا، في أول سابقة في المغرب، هل يمكن القول بأن هذا سيكون عامل قوة أم عامل ضعف في التجربة الانتخابية القادمة؟ ليس عامل قوة ولا عامل ضعف، هو مؤشر عادي في المسلسل الديمقراطي، جاء نتيجة انفتاح الهامش السياسي، لا نستطيع أن نجزم بأن الأحزاب التي تخرج إلى الوجود أحزاب مصنوعة كما كان الأمر في السابق، يمكن أن يعطى ضوء أخضر مثلا لبعضها، لكنها غير مصنوعة أو مفبركة، فهي خرجت بشكل عفوي وبحالة طبيعية. ولكن أغلبها جاء نتيجة انشقاقات داخل أحزاب قائمة؟ ليست كلها، فالأحزاب في السابق كانت عادة تأتي نتيجة انشقاقات مصلحية أو شخصية، أو نتيجة لعملية مفبركة، لكن الأمر يختلف الآن عن السابق، هناك أحزاب ظهرت من المجتمع المدني مثلا، نتيجة الديناميكية الجديدة في المغرب، وكذلك لأول مرة نلاحظ ظهور أحزاب نتيجة عملية تجمع وليس انشقاق، كاليسار الاشتراكي الموحد مثلا، فتعدد الأحزاب في حد ذاته، يعكس المرحلة الحالية، مرحلة التفتق، والليبرالية السياسية، لأن الأحزاب أصبحت مقاولات سياسية، وهذه هي الليبرالية، تظهر مئات المقاولات بعضها يموت وبعضها يعيش، ويتجمع بعضها في (هولدينغ) كبير، فهذا مسلسل ليبرالي على المستوى الاقتصادي والسياسي ينتج ما يسمى بالمبادرات السياسية. فأي نظام ينتقل من الديكتاتورية أو الاستبدادية إلى الليبرالية يعرف هذا التهافت حول المقاولات السياسية، فليس جميع هذه الأحزاب تعبر عن الصالح العام، هناك المصالح الشخصية أيضا، وأظن أننا سنتجاوز هذه المرحلة في الانتخابات الثانية أو الثالثة، ثم نعود إلى ظاهرة التجميع، لأن هناك أزمة زعامات وقيادات، والدولة يمكن أن تتحكم فيها، مثلا عبر تمويل الأحزاب وعبر تعميق المطالبة بالمديمقراطية والتنظيم الداخلي لتجاوز ظاهرة المقاولة السياسية الشخصية. سبق وأن دعت أعلى سلطة في البلاد إلى دمقرطة الأحزاب السياسية قبل عامين تقريبا، لماذا فشلت هذه الأحزاب في دمقرطة نفسها برأيك؟ وهل هذه الرسالة لم تصل إلى الأحزاب؟ هناك إكراهات تنظيمية حقيقية، فالأحزاب ليست منظمة بالشكل المطلوب على مستوى الهيكلة والتصور الهيكلي للأحزاب، وهذا يتطلب وقتا، وهناك أيضا بصراحة جيل يصعب عليه مغادرة مواقع السلطة التي يوجد بها، ويبقى حتى الآن هو المحاور الرئيسي للملك لا يمكن أن نقول إن الرسالة لم تصل، ولكن لم تؤثر بشكل كبير، لأن هناك مشكل الهيكلة كما قلت، فهناك أحزاب لا تعرف كيف تصنع الديمقراطية داخلها لأسباب هيكلية، وهناك أيضا جيل شاخ في مواقع السلطة ويصعب عليه مغادرتها. هل تعبر كثرة الأحزاب السياسية فعلا عن تعدد المشروعات المجتمعية أم عن غيابها؟ ليس هناك تصور جاهز لأي مشروع مجتمعي، ليس فقط المشروع المجتمعي بل حتى المشروع الممارساتي غير موجود. أي ممارسات مغايرة للممارسات السابقة، مثلا رفض منتخب قادم من حزب آخر، ممارسات تعكس الأخلاقيات السياسية الجديدة، هذا غير موجود، على مستوى التصور المجتمعي، اشتراكي أو ليبرالي أو إسلامي هناك في الواقع فقر في التصور، لدى جميع الأحزاب بما فيها الإسلاميون. ليس هناك تصور شامل بجميع أبعاده، هناك فقر في المخيال السياسي، هذا المخيال فقير جدا. ماهي أسباب غياب أو فقر هذا المخيال السياسي؟ السبب أننا لم نكن نمارس السياسة من قبل، فالبلاد كانت تحكم بالتفويض الكامل، النظام يقوم بكل شيء، ولست مطالبا بالتفكير أو بالتخيل السياسية. وهذا هو سبب الفوضى الحالية في الحياة السياسية، فنحن بدأنا الآن فقط في ممارسة السياسي، لنأخد تجربة اليسار الموحد لأنني تابعت هذا الأمر وإن كان ذلك من بعيد، لاحظت أن الناس بدأوا يتعلمون كيف يتناقشون ويتفاوضون ويتخاصمون، وهذه ظاهرة صحية. فالمغرب مر بمرحلة استبداد أو مرحلة تقليدية، والآن هو مقبل على مرحلة أخري، تطبعها الممارسات الفوضوية لكن سنخرج منها، غير أنه لابد أن يبقى هناك أمران، الأول أننا نريد أن نتعايش جماعة، والثاني أننا نريد أن نحيا في ظل القانون وهذا حد أدنى مشترك. الملاحظ أن هذه الوتيرة الجديدة في إنشاء الأحزاب السياسية تصاحبها في نفس الوقت ظاهرة العزوف عن المشاركة السياسية والعمل السياسي والأحزاب، كيف تفسر الأستاذ الطوزي هذه المفارقة؟ أنا أعتقد أن المغرب لم يكن مسيسا كما هو اليوم الجميع يكتب والجميع يتكلم، حتى في القنوات الفضائية وفي (الجزيرة) المغاربة يتحدثون بشكل مضبوط أحسن من الكثير من العرب، وأظن أن خروج أزيد من مليون مواطن في مسيرة الرباط حول فلسطين تعبير عن أن المغاربة يمارسون السياسة. لكن إذا كان المقصود هو الإطارات المؤسساتية، فهذا هو المشكل، لأن ذلك يعكس مرض أو شيخوخة الوسائل التأطيرية في العمل السياسي، وهذا ناتج عن عدة عوامل، هنالك عامل عدم النجاعة على المستوى السياسي، وعامل عدم الثقة، وشيخوخة النخب السياسية، وعدم التنظيم وعدم التركيز، أنا لا أظن أن هناك عزوفا عن العمل السياسي، ولكن هناك عزوف عن الآليات التي تنظم وتؤطر العمل السياسي. إذا أخذت مثلا العمل النقابي في السنوات الماضية نجده كان ناجحا، رغم أنه كانت هناك مجازفة في العمل النقابي، ولكن الناس كانوا يمارسون العمل النقابي، لأن العلاقة بين الانتماء النقابي وبين المصالح الفردية والجماعية كانت واضحة، الآن هذه المصالح غير واضحة في العمل السياسي. حاوره: إدريس الكنبوري