المعارك والحروب العسكرية لا تشتعل إلا بعد معارك أخرى سبقتها بزمن يطول أو يقصر، والنصر فيها أو الهزيمة تسجل في اليوم الحاسم للمواجهة. فلكل أجل كتاب لا يبدأ قبل التوقيع النهائي أياما وليالي بل أعواما وسنين. ذلك أمر لا يخفى على أحد إلا من أخذته الغفلة وسكرة اللحظة الحاضرة فانقطع عن التدفق الزمني والحركي للمقدمات والأسباب والنتائج. العوام يضربون المثل لارتباط الأسباب بمسبباتها في أفراحهم إذ يقولون "عرس ليلة، تدبيره عام". الحرب العالمية الأولى، وشقيقتها الثانية، وحرب الخليج الأولى وأختاها الثانية والثالثة، والحرب العدوانية على أفغانستان وعلى الصومال والسودان وليبيا، ومصيبة العرب والمسلمين الأولى في فلسطينالمحتلة، كل هذه المصائب الإنسانية وغيرها كثير في الحاضر والماضي القريب والبعيد، حسمت في الاستعداد النفسي لها قبل أن تبدأ مصانع السلاح في الدوران، وقبل أن تفتح المدارس العسكرية أبوابها أمام جنود الصف وضباطه وجنرالاته، وقبل أن يعين الملوك والأمراء والرؤساء وزراء دفاعهم وكتابهم المساعدين أو المسؤولين عن الأمن القومي. الحرب فكرة تنشأ في قلب الإنسان ونفسه عندما يعجز عن الدفاع عن نفسه سلما أو عندما يفشل في تبليغ رأيه، أو عندما تصيبه أمراض الطمع والتوسع وجنون العظمة وغرور القوة. وإذا ما كان إنسان كهذا على رأس الدولة والمجتمع طوعا أو كرها قاد الجميع نحو ساحة القتال والنزال، دون أن يعدم وسيلة في التجييش والتهييج والتعبئة والاستنفار، حتى يصبح المقاتلون جميعا مثل القائد الأعلى للقوات العسكرية في الحماس والاندفاع والاستعداد. ما تعيشه أمتنا العربية الإسلامية هذه الأيام من هزيمة وانكسار على يد أبنائها قبل أعدائها، واحتلال بغداد بعد القدس لاستكمال "إسرائيل الكبرى"، وتوجيه الضربة القاضية لقلب المشرق العربي، فصل جديد في التدافع الحضاري والتداول السياسي، ينبغي أن لا يصيبنا بقتل وانهيار، إذ أن ذلك هو الهدف الأعلى لقوات البغي والعدوان، فالضربة التي لا تقتل تزيد في القوة والصلابة. وليس الوقت الآن وقت بكاء ونحيب، بل هو وقت صمود ومقاومة، فلقد أتى علينا حين من الدهر ومعاول الحرب الثقافية والتربوية والإعلامية تخرب في نفوسنا وقلوبنا أسس البناء النفسي العام للأمة والأسرة والفرد، لتأتي الضربة القاضية فتتركنا جثة هامدة لا حياة فيها ولا حركة. لكن أمة العروبة والإسلام أقوى من ذلك وأكبر وأعلى، إذا ما استمسكت بالله وكتابه المبين، وعروته الوثقى التي لا انفصام لها. فيا أمة الإسلام والعروبة، لا داعي للهوان والأحزان، فإن المعارك الحربية لا تحسم في الميدان والأبدان، وإنما في النفوس والقلوب، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس.