يقينا ان الارادات هي التي تحوّل الاوطان الى واحة سعادة او بركة دم. الفرق ان الاولى ارادة خير والثانية ارادة شر مستطير. البون شاسع جدا بين ان يكون الوطن خيمة للجميع او سُرادق عزاء كبيرا لاهله. انها احدى حالات التحول التي تمر بها الاوطان حين يتحكّم اللصوص والقتلة وزعماء الطوائف في مصيرها، فينتشر الظلم بعدالة تامة بين الجميع. قد يظن بعضُ الجهّال انهم المستفيدون، وبعض الازلام انهم الفائزون، وقد ينظر البعض الى من هُجّروا وهاجروا او اعتقلوا وقتلوا على انها مأساة كبرى، لكن الحقيقة ان الباقين في الوطن هم ليسوا أحسن حالا من اولئك الذين غادرونا. انهم مُغرّبون ضائعو الهوية ومقتولون ومعتقلون مع وقف التنفيذ، فماكنة الظلم ستسحق الجميع عاجلا ام آجلا، بعد ان بات الوطن خاضعا لقانون الحالة الشاذة الذي لا يعرف الاستثناءات. هل نظرتم الى العراق الاسبوع المنصرم، بعد ان عادت ايقونته الى الصدارة في نشرات الاخبار وصور القنوات الفضائية؟ ليس من وصف عادل ينطبق عليه سوى انه سرادق عزاء كبير. كان اسبوع حزن بامتياز، عمّت مأساته بقعا كثيرة فيه. كانت الفلوجة الصامدة اول المُضحين كعادتها، حيث خيّم الموت على مدنها وشوارعها وبيوتها. عائلة مكونة من اثني عشر فردا يُغيّبهم الموت في لحظة جماعية.. عشرات القتلى والجرحى في صالة العمليات وردهة الطوارئ في مستشفى الفلوجة.. مئات القذائف تنهال على كل شبر من ارضها من قوات الجيش المختبئ على اطراف محيطها، بقرار من سلطة تسمى عراقية، وضمائر محسوبة على الانسانية، لتسرق كل بسمة على شفة طفل، وتطفئ الحدقات التي كانت بانتظار الفرج من حصار واذلال وانتهاك كرامة منذ ستة اشهر او يزيد. في سامراء تجتاح قوات سوات المدينة، بعد هروب كل قوات الجيش والشرطة والاجهزة الامنية والمسؤولين امام المجاميع المسلحة التي اقتحمت المدينة، لتنتقم من اهلها قتلا وتدميرا واعدامات جماعية في الشوارع، في محاكاة غبية لاسلوب القوات الامريكية في حرب المدن، الذي يقوم على نظرية، اقتل كل من يصادفك كي تعيد الثقة الى نفوس القوات المنهزمة، وتدخل الرعب الى نفوس المدنيين. يتكرر المشهد في مدن اخرى من محافظة صلاح الدين ونينوى وكركوك وديالى، التي لم تزل تنزف منذ فترة طويلة على يد ميليشيات طائفية تقتل وتحرق البساتين والمزارع، وتحرق الجوامع وبيوت المواطنين وممتلكاتهم بتواطئ معلن من كل القوى الحكومية في المدينة. وفي بغداد لازالت القوات الحكومية تظهر بطولاتها الوحشية على سكان حزام المدن التي تحيطها، كما عادت ظاهرة الجثث المجهولة الهوية للظهور مجددا في العاصمة. امّا في بابل فهناك اعلان صريح وصل الى كل المواطنين القاطنين في شمالها، ان عليكم الرحيل والابتعاد خلف خط العرض الطائفي الذي رسمه زعماء الميليشيات، ففي العراق باتت هنالك خطوط طول وعرض طائفية واثنية ومذهبية ودينية، تشير الى جغرافية هذا وذاك فتفصل الجنوب عن الوسط، والوسط عن الشمال، والغرب عن الشرق. هل يُعقل ان يتحول الجيش الى قاتل يوجّه مدفعيته الثقيلة الى المدن، ويقصف بالطيران الاحياء والبيوت المدنية؟ هل يُعقل ان يكون الاحتياطي العسكري المسمى فرقا ذهبية، قوة هدفها الرئيس تنفيذ الاعدامات الفورية في الشوارع والطرقات بحق مدنيين؟ هل هذا هو دور القطعات العسكرية المدللة التي يحتفظ بها القائد العام للقوات المسلحة ليوم الشدّة؟ نعم هذا هو دورها، ففي ظل غياب المشروع الوطني كل المؤسسات لابد ان تنهار وتبقى مجرد هياكل، ومع انهيار المؤسسات تنفجر الجغرافية والاحقاد، وتزدهر صناعة الثارات وتُفتح صفحات التاريخ السوداء او تصنع صنعا محبكا، وتتحكم الغرائز والاهواء بمصير البلاد والعباد، وهذا هو الذي حصل في العراق. لكن دعونا نتساءل أليس لهذا الشعب الذبيح من اشقاء؟ هل نفض العرب ايديهم من العراق الى الابد؟ لا احد يستطيع ان يجد تبريرا منطقيا لكل هذا الصمت المطبق على القلوب والعقول، ولا لهذا النكوص والنسيان والتخاذل. في كل مناسبة تهرول الجامعة العربية بشخص (الحلي) الى بغداد ليطرز الشاشات المحلية بكلماته التي تفيض أملا واعجابا بالديمقراطية العراقية، بينما لا نجد له اي موقف من هذا القتل المجاني، ولا نجد همّته تهرول به الى الفلوجة او الانبار او الموصل او ديالى. أين العاهل السعودي خادم الحرمين، الذي يقول ان ما قدمه من دعم مالي وسياسي الى مصر (واجب يمليه علينا ديننا واخلاقنا ومصير البلدين المشترك). أين العراق من حق الواجب هذا في الدين والاخلاق والمصير؟ ألا يستحق الدم العراقي ان تكون له حظوة لدى الملك مثل حظوة الاقتصاد المصري، الذي دعا الدول المانحة الى انقاذه؟ وهل يجوز ان يتقدم الاقتصاد على الدم؟ مع تقديرنا ومحبتنا الى الشقيقة مصر واهلنا الطيبين فيها، لكنه فقط مجال مقارنة لا اكثر. أين العراقيون المهرولون خلف اوهام المحكمة الجنائية الدولية، ولجنة حقوق الانسان في الاممالمتحدة، ومؤتمرات البهرجة في استانبول وغيرها؟ قولوا لنا اي حق استحصلتموه لاهلكم وسنصفق لكم. هل سمعتم بما قالته اللجنة البريطانية للتحقيق في حرب العراق بعد ثلاث سنوات من العمل؟ قالوا بأن عمل اللجنة يهدف فقط الى استخلاص العبر مما حصل لا غير، اي لتذهب كل الدماء البريئة التي سُفكت بدم بارد الى زوايا النسيان. قد تصفقون لهيلاري كلينتون لانها اعتذرت عن تأييدها للحرب على العراق، وتعتبرونه نصرا للعراقيين، لكن ماذا سيترتب على اعتذارها؟ هل سوف يحيا به شهيد أم يعود به مُهاجر او يعوّض به يتيم عن حنان ابيه؟ اين المراجع الدينية من قتل الانفس البريئة؟ واين خالد الملا رئيس هيئة علماء العراق الذي يُسارع الى اصدار بياناته في كل عملية منسوبة ل"القاعدة"، ويصمت عن سفك الدم المباح بآلة الجيش وقرار السلطة؟ اننا امام حالة صمت رهيب مطلوب ان تغلف به القضية العراقية لسبب بسيط، هو ان لا احد يجرؤ على ان يقول بأن الصانع الامريكي قد اخطأ، او انه ارتكب جرما عظيما بحق الانسان في العراق، والنظام الرسمي العربي هو اول الخانعين الخاضعين لهذا الفيتو الامريكي. لو كان ما حصل في مصر بيد الصانع الامريكي لما سمعتم صوتا واحدا يجرؤ على تقديم الدعم، ولو الذي حصل في سوريا كان نتاج السياسة الامريكية لما سمعنا بكاء دوليا ونحيبا عربيا على الذي يجري فيها. نعم هناك خطوط حمراء في السياسة الدولية على الصغار الالتزام بها، لكن هل يعقل ان ينسى العرب وشائج الدم ويتركوا العراقيين يُذبحون بهذه الطريقة كي لا تزعل واشنطن او تنتفض طهران؟ X