لا نحتاج إلى وثائق، جديدة أو قديمة، لكي نعرف حجم الدمار الذي لحق بالعراق من جراء حرب ظالمة، غير أخلاقية، علاوة على كونها غير قانونية.. لا نحتاج إلى تسريبات موقع «ويكيليكس» لكي يقول لنا إن هناك فرق اغتيالات.. وأقبية تعذيب.. ونهب المال العام.. وإخفاء الأرقام الحقيقية حول أعداد الضحايا الأبرياء. جميع هذه الحقائق نعرفها، وما هو أكثر منها، مثلما يعرفها كل مواطن عراقي، ولكن الجديد أن هؤلاء «الأطهار» الذين مارسوا كل هذه الموبقات وتفننوا في تعذيب الأبرياء وسحلهم في عراقهم الجديد، لا يستطيعون أن يشهروا سيف الإرهاب الذي مارسوه بفاعلية طوال السنوات الماضية، باتهامنا، وكل من عارض حربهم الأمريكية، بمساندة المقابر الجماعية، وحكم «الطاغية». لم نؤيد الديكتاتورية يوما، وانتصرنا دائما، وسنظل ننتصر، للحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعندما عارضنا الحرب الأمريكية الفاجرة على العراق في هذه الصحيفة، وقبلها الحصار الدموي الذي أزهق أرواح مئات الآلاف من الأطفال وذويهم، لم نملك بلورة سحرية لقراءة الغيب ولم نكن نضرب بالرمل، فقد كنا نعرف، مثل عشرات الملايين الذين تظاهروا في عواصم العالم، أن هذه الحرب ظالمة، تستهدف تمزيق بلد آمن مستقر محاصر، وتقطيع أوصاله، وكسر شوكة شعبه العزيز الكريم، وتدمير نسيجه الاجتماعي، وإغراقه في حروب مذهبية وطائفية وعرقية، وتحويله إلى دولة فاشلة فاسدة، يتدخل الجميع في شؤونها. المؤامرة لم تكن على العراق وحده، وإنما على أمة من خلاله، لتعميق الخلل الاستراتيجي لصالح أطراف غير عربية، ولإسرائيل على وجه الخصوص، حتى تظل هذه الأمة ذليلة، فاقدة كل جينات العزة والكرامة، مستسلمة لمحاولات النهش التي تستهدف أراضيها وثرواتها من مختلف الاتجاهات. الآن يأتون إلينا بالوثائق «الهامشية»، لتأكيد ما هو مؤكد، تحت عنوان إظهار الحقائق، ووضع النقاط على الحروف، والقول إن عمليات إعدام لأبرياء وقعت أمام حواجز الجيش الأمريكي دون داع، وإن مدنيين قتلوا بعد استسلامهم، وأطفالا تيتموا لأن والدهم لم يتوقف على بعد مسافة كافية من نقاط التفتيش، أو معتقلين تعرضوا للصعق الكهربائي في أجزاء حساسة من أجسادهم، وآخرين جرى حرقهم بالأسيد في مراكز اعتقال سرية وعلنية.. كلها حقائق بائسة مؤلمة معروفة، ولكن ماذا بعد؟ هل ستعيد هذه الوثائق الآباء الشهداء إلى أطفالهم اليتامى، وهل سيعود الأزواج إلى أراملهم الثكالى، أو العلماء الأفاضل إلى معاملهم للمساهمة في إعلاء شأن عراقهم العظيم وامتلاكه أسباب القوة.. هل.. وهل.. أسئلة كثيرة نطرحها ونعرف إجاباتها مسبقا. نحن في انتظار الوثائق الحقيقية التي نعلم أنها موجودة، وتكشف لنا عمق المؤامرة، وجميع المتورطين فيها من العراقيين والعرب.. وثائق تؤكد لنا الصلة بين حرب تدمير العراق وإسرائيل، وبتحريض من الصهيونية العالمية ورجالاتها في الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وأوربا.. هذه الوثائق قد لا نراها، قريبا أو بعيدا، على موقع «ويكيليكس» أو غيره. بل قد لا نراها أبدا، لأن إسرائيل بقرة مقدسة ممنوع المس بها أو بأتباعها. فمنذ أن أصدر البروفسور برنارد لويس، المؤرخ اليهودي الأبرز، «فتواه» التي تقول إن العراق دولة مصطنعة مفبركة، ومنذ أن خرج علينا جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأمريكي الحالي، بأخرى تطالب بتقسيم العراق على أسس طائفية وعرقية، أدركنا أن المؤامرة قادمة، وأن الأمة مستهدفة، فقررنا الوقوف في الخندق الآخر، خندق الأمة في مواجهة هذا المخطط الجهنمي وكل المتواطئين معه، ونالنا من أجل ذلك الكثير. أحد الذين مارسوا التضليل الإعلامي، وسقط في المصيدة الأمريكية، وتفنن في تشويه صورة كل المعارضين للحرب عبر إحدى الشاشات الطائفية الحاقدة التي كان يعمل فيها، سألنا في أحد الأيام، وبعد أن زالت الغشاوة عن عينيه بعد زيارة لبلده المدمر، أو هكذا قال، كيف حسبتموها صحا؟ فكل شيء توقعتموه حصل بالفعل: الدمار، القتل، التمزيق، القتل على الهوية، نهب المليارات؟ لم نحسبها صحا أو خطأ، وإنما اهتدينا ببوصلة العقل والمنطق والوطنية الحقة، وسرنا خلف حدسنا العربي الإسلامي الذي قال، ويقول لنا، إن أمريكا لا يمكن أن تقف في خندق الحق عندما يكون صاحبه عربيا أو مسلما، ولا تخوض حروبها ضد المسلمين إلا لنصرة إسرائيل. هناك انتقائية متعمدة في نشر هذه الوثائق.. نعم.. هناك توقيت تم اختياره بعناية لتسريبها.. أمر مؤكد.. هناك محاولة تسييس متعمدة لتحقيق أهداف معينة بتجريم أطراف لصالح أخرى.. لا خلاف على ذلك مطلقا. فالوثائق أمريكية، ومن سربها أمريكي، ولا بد أن هناك غرضا ما من وراء كل ذلك إلى جانب نشر الحقيقة. فإيران مستهدفة والسيد نور المالكي، أبرز الأهداف، يعتبر رجلها القوي، تربى في حضنها، ورضع من ثديها، واتخذ منها مقرا وراعيا عندما كان أحد زعماء حزب الدعوة. أمريكا كانت تعرف أن رجالات إيران هم عماد المعارضة التي مولتها وتعاملت معها للإطاحة بالنظام السابق، واعتقدت أنها تستطيع توظيفهم لخدمة مصالحها، ولكن الطبع يغلب التطبع، وجاءت النتائج عكسية تماما، وصبت كل الجهود الأمريكية في خدمة إيران.. لقد نجحت إيران في خداع أمريكا وحلفائها العرب، وجنت النتائج كلها دون أن تطلق رصاصة أو تخسر ريالا واحدا، فهنيئا لها. عندما يختلف اللصوص تظهر السرقات، وتتكشف معالم الجريمة والمتورطون فيها، الواحد تلو الآخر، ومن الخطأ التعاطف مع أي من هؤلاء الذين ولغوا في الدم العراقي، أو الانحياز إلى طرف ضد الآخر.. جميعهم كانوا فاعلين في مخطط تدمير بلادهم لأسباب طائفية أو عرقية أو مصلحية ذاتية، وأعمتهم أحقادهم وثاراتهم وتعطشهم لسفك الدماء عن رؤية مصلحة البلاد العليا. فإذا كان السيد نوري المالكي هو المستهدف من قبل «أعمامه» الأمريكيين.. فليكن.. فحكومته متورطة، وما زالت، في عمليات التعذيب والقتل، وضحاياها ليسوا فقط من أبناء الطائفة السنية، بل والشيعية أيضا، ومجازرها في مدينة الصدر واضحة للعيان. وإذا كان هذا التسريب لمصلحة الدكتور إياد علاوي ورهطه، ولدعم طموحاته للعودة إلى رئاسة الوزراء، فإننا لا نبرئه وحكومته من ارتكاب جرائم قد لا تقل بشاعة، فهل نسينا أنه كان رأس الحربة في دعم مشروع الاحتلال الأمريكي لبلاده، واعترافه بالتعاون مع كل مخابرات العالم للإطاحة بالنظام السابق.. وهل نسينا أيضا مجزرة الفلوجة التي ارتكبتها القوات الأمريكية بضوء أخضر منه، وبمشاركة قوات حكومته؟ قناة «الجزيرة» الفضائية، التي ظلت على مدى الأيام الثلاثة الماضية تبث الوثائق الأخيرة وتستضيف المحللين للنبش فيها وكشف المستور من الجرائم البشعة، من الذي أغلق مكتبها في العراق وطرد العاملين فيه؟ أليست حكومة الدكتور إياد علاوي الذي تدعمه حاليا مثل باقي الدول الخليجية الأخرى؟ ألم يقدم الدكتور علاوي على هذه الخطوة القمعية للتغطية على الجرائم الأمريكية في العراق ومنع وصولها إلى العراقيين والعرب والعالم؟ ألم يفعل ذلك بمباركة أمريكا زعيمة العالم الحر وأم الحريات الإعلامية وأبيها؟ تقول الوثائق إن إيران تتدخل في الشأن العراقي الداخلي وتدعم ميليشيات شيعية، وتهرب أسلحة إلى العراق. إنه تفسير للماء بالماء بعد جهد جهيد. فهل كان الأمريكان وحلفاؤهم العرب يتوقعون غير ذلك.. ثم لماذا لا تتدخل إيران وتعزز نفوذها انتقاما من بلد حاربها لثماني سنوات، وشكل سدا منيعا في وجه مخططاتها التوسعية، وتصدير ثورتها إلى الشاطئ الآخر من الخليج العربي.. وهل من الذكاء أن ترفض هدية أمريكية جاءتها برأس هذا العراق العظيم على طبق من الذهب؟ إيران ليست سويسرا، وتاريخ المنطقة حافل بالصراع بين هضبتها والسهل العراقي، وطموحاتها الإقليمية معروفة، المشكلة لا تكمن فيها، وإنما في قصر النظر العربي، والعمى الأمريكي، الناتج عن رؤية العالمين العربي والإسلامي من المنظور الإسرائيلي فقط، وها هو السحر الإسرائيلي ينقلب على الساحرين العربي والأمريكي معا، فالعرب يخسرون العراق، وقد يتحولون إلى «سبايا» لإيران وأمريكا تخسر أربعة تريليونات دولار وآلاف القتلى، وسمعتها فوق ذلك، بسبب هذه السياسات الخرقاء العوراء. نسمع دعوات ومطالبات هنا وهناك بإجراء تحقيقات أممية أو غربية في جرائم الحرب هذه التي كشفت عنها الوثائق المذكورة.. لا نشعر بالتفاؤل مطلقا، ولا نتوقع أن نرى هذه التحقيقات تأخذ مجراها في زماننا، وإذا بدأت فعلا، فلن يكون لها أي جدوى، لأن الأممالمتحدة ومنظماتها عبارة عن مستعمرات أمريكية، تأتمر بأمر البيت الأبيض، وجميع لجان التحقيق التي تشكلت في بريطانيا وأمريكا حول حرب العراق لم تجرم أحدا، ودليلنا أن توني بلير أكبر مجرم حرب في التاريخ ما زال مبعوثا للسلام في الشرق الأوسط، وتفرش له حكوماتها السجاد الأحمر، وتغرقه بالأموال مقابل «استشارات». أما جورج بوش الابن فيتمتع، وأركان حكومته، بتقاعد هادئ مريح في مزرعته بتكساس. نتطلع إلى محاكمة عراقية، نأمل أن نعيش وقائعها، يمثل أمامها في قفص الاتهام كل الذين تورطوا في تمزيق بلادهم، وإغراقها في حمامات الدم التي نراها، وحولوا العراق كله إلى مقبرة جماعية، وأقبية تعذيب، سواء كان هؤلاء من أعضاء مجلس حكم بريمر أو رؤساء وزراء وقادة أجهزة وميليشيات أو من رهط الأدباء والمثقفين و«المفكرين» و«نجوم» الفضائيات الذين برروا وسهلوا العدوان.. هؤلاء يجب أن يقدموا إلى محاكم عادلة نزيهة تستدعي الشهود، وتتعزز بالوقائع والقرائن على التواطؤ وهناك أطنان منها، وهي قطعا ستكون محاكم مثيرة ومشوقة في آن. نتطلع إلى اليوم الذي نرى فيه صحوة عراقية عابرة للطوائف ورئيسا عراقيا منتخبا ووطنيا وعادلا، يوقع مراسيم تنفيذ عقوبة الإعدام في حق كل من سفك قطرة دم عراقية واحدة، فمن قتل نفسا بدون حق كأنه قتل الناس جميعا، وليس ذلك على الله بكثير.